:
:: الفصل الرابع والأخير::
وهي تأخذ بنفسها لغرفة الطعام .. سمعت تمتمات آتية من هناك..
لم تسمع منها سوى.. والدها حين قال:
الموقف صعب جداً..كيف سنقنعها بالموافقة؟
وحين أقبلت صمتَ ووجه لها ابتسامة شعرت بأنها تحمل شيئاً..
تقرأ في وجهه تردد ورهبة...تسائلت بداخلها...ترى ماذا يجري؟
لم تنبس بكلمة سوى طابت أوقاتكم .. ووجهت لأبيها سؤال وهي تهم بتقبيل رأسه:
كيف أنت يا أبي ؟اشتقتك ورب الكعبة..
ابتسم برضا وقال:
أنا بخير ابنتي الغالية ..اشتقتكِ أكثر يا (أمل)..
وعادت ملامح الحيرة والتردد لملامحة مجدداً حين صمت..فهمت بسؤاله:
-هل أنت بخير أبي؟
هنا نطق أخيها وقال:
-أمل..هناك من تقدم لخطبتك وجميعنا نراه ملائماً..وأبي متردد في فتح الموضوع معكِ..
خيّم الصمت على الجميع وكأن غيمة جليد سكبت نفسها على المكان..
صمتت أمل وجلست بهدوء..
لم تنطق.. ولم يبدو على ملامحها أي رد فعل محدد.. باردة حد دهشة اثارتهم جميعاً..
- لستِ مضطرة يا (أمل) بالضغط على نفسك والتفكير..ان لم تريدي نردُ عليه بالرفض..فقط كوني مبتسمة وبسلام..
قالت ذلك الجدة وبنبرتها قلق وخوف..
فرد أخيها بانفعال:
-انها ترفض كل من يتقدم..لمتى ستظلُ تفعل؟هل تريد البقاء هنا للأبد..كل بنت مكانها بيت زوجها.. ومن رحل يرحمه الله فهذا قضاء الله وقدره و...
قاطعته (أمل):
ان كنتم ترونه مناسباً انا موافقة...أبلغوه بذلك!!!
اعتلت الوجوه هالات الاستغراب.. صمتوا من شدة دهشتهم لردة فعلها الغير متوقعة وموافقتها السريعة..
- لكن يا ابنتي أنتِ لم تفكري حتى بالموضوع..ولم تسألي من يكون..ليس هكذا تتخذ القرارات المصيرية..
فردت بابتسامة باهتة:
جدتي اظن بل أثق بأن أبي يريد لي الأجمل..لذا أنا احترم آرائه وقراراته..
كما أخبرتكم ..ان كنتم تروّنه مناسبا فلا مانع لدي!
قالت ذلك وبداخلها تقول.. ما الفرق... هو موت قابع بي ان كان هنا أو بأي مكان آخر..رفعت رأسها ونطقت:
-لكن لي شرط بسيط.؟!
رد الوالد:
-قولي كل ما تريدين فلا نريد إلا سعادتك..
توقفت عند كلمة السعادة ورددت بداخلها (وهل للسعادة وجود يا أبي؟ لا أظن لا أظن)
أردفت قائلة:
- بلا فستان أبيض.. وليكن حفل عائلي بسيط...هذا كل ما اريد..
قالت الام:
-ولكن يا (أمل) أنتِ فرحتي الأولى.. لا تحرميني من ذلك..
ردت بألم ودمعة تترقرق على طرف أهدابها:
صدقيني يا امي لا أستطيع..عاهدته أن لا البسُ الأبيض لغيره..سوى الكفن الذي سيأذخني بقربه...لا أبيض سواه!
أطرق الجميع برؤوسهم.. قال الجدة وبداخلها وجع وقلق على صغيرتها محاولة بث الرضا للجميع:
- المهم يا عزيزتي أن تكوني مرتاحة..وتلك ماهي إلا مظاهر لا معنى لها..
قالت ذلك وهي توّجه نظرة رجاء لأمها..
- لا بأس ليكن ما تريد.. ولندعو لها بالسعادة..
أضافت ذلك الجدة.. فسكت الجميع ووجهوا انظارهم للمائدة .
كانتا الجدة والأم قلقتان جداُ فلم يفرحهما قراراها بقدر ما أحزنهما..
كأنها تهرب من شيء ما..لا تبحثُ عن شيء.. ولا أمل يسكنها لشيء..كل تفاصيلها بلا لون..
مضت الأيام سريعة ..حافلة بالعمل واستعدادات الخطبة..أما هي..
فلا شيء يذكر..سوى ذات الجليد في أطراف حياتها..والذكرى التي تستوطن كيانها..
في كل أمر يخص زينتها وعش الزوجية القادم..كانت كلماته وأحلامه البسيطة معها تقفز إلى ذهنها..فيزداد شعورها ويقينها أن ما تُقدمُ عليه.. ما هو إلا استمرار للموت الذي رافقها منذ ذاك الصباح..
بداخلها تُردد وكيف بحياة سيعيشها قلب ينزف؟ وروح تناجي الرحيل في كل لحظاتها..
كيف ستكون ودمها ممزوج بذاك الذي يسكن القبر..ودقات قلبها تعزفُ فقده .. لاشيء لا شيء..
وأتى اليوم المحدد..
اليوم الذي تُصلب فيه على أعمدة حياة أخرى..لم تكن تترقبُ فيها أية حياة تتنفس..
أنها تجر فيه خطواتها لمصير مجهول بنفسها بإرادة تسكنها غيبوبة وبلا أدني تفكير..
يأتي ومنذ بدايته تعتليه أنفاسها المختنقة.. وهودج الغمام متلبداُ في سمائها.. تنهيدة تأبى الإنطلاق.. وزفرات منتحرة برئتيها..وبداخلها صوت يقول..
هذا اليوم كان يجب أن يكون له.. بكل نقائه وقدسيته له.. بكل أهازيجه وضحكاته له..
ولكن ما تشعره بهذا اليوم...أنه بكل موته وجزعه وساعاته الباردة سيكون وبرفقة ذكرى
من صميم الوجع..
هاهي وبمليء حواسها الغافية صدر الحزن والألم...قريباً
تُزفُ للموت..وفي أفقها المحتضر تعلوا الزغاريد.. وهمسات فرحة رمادية.. وابتسمات فقيرة وأخرى جاهلة!
أرادت قبل اللحظات المصيرية القادمة أن تكون بينه اكثر..تقبل رائحته الباقية في رسائله..
وتحتضن ملامحة في صورته المندثرة تحت وسادتها.. لم تعي لنفسها وهي تنتحب في تلك اللحظات.. كانت الدموع شلال منساب بغزارة.. والذاكرة مصابة بالإنهكاك.. توقفت هنا بينه..
في قصاصات حبهما.. وهدايا كم بكت رحيل صاحبها.. وخاتمٌ بسيط أهداهُ لها ذات حب ولحظة تكللت بوعد أن تكون له فقط.. فأخذت تلوم نفسها بشدة وتنهرها..
أنها تخون الوعد..تخونه..
دوّنت تلك البقايا والاعترافات لأوراقها الوفية ووضعت جسدها على تلك الأاوراق وغفت
مع أنغام حفلة الدموع والنحيب..وقد إمتزجت الاشياء بدموعها وشظايا احتضارها..
غفت..وحولها بتلك الغرفة..باقة الورد.. ورداء خطبتها الأنيق..
غفت .. لتثبت لها وله وللقدر أنها كتلة وفاء لا تتفتت..!
غفت غفوّتها الأبدية..ليتحقق ما أرادت ,بأن يكون الأبيض لكفنها فقط.. !
فزُفت إليه.. وسط بكاء الجدة الصامت.. ودهشة الأم وإمنياتها المكللة بالموت..ودموع الأب الخائرة قواه ونحيب الأخ المصدوم..!
بكل وفائها ونقاء قلبها المملوء به .. بمسحة طهرها والنور الساطع من روحها....رحلت مع ساعة رحيل الشمس وقبل هطول ليلٌ لن يرافقها بعد الآن .
...!