(تجربة)
فَقَدَ الهروب الدائم من المدرسة الإعدادية مذاقه، وكأيّ شيء ممنوع يقع تحت طائل الإفراط، يضبطه التكرار بنغمة الرتابة والملل، وتدهسه العادة صانعةً من طريقه الوعر طريقاً معبداً مثل الذي هربتُ منه. كنتُ أقضي الليلة السابقة عليه مُمنياً نفسي بمتعٍ لا نهاية لها. سبع ساعات من التسكع والتدخين ومعاكسة بنات مدرسة المعلمين والجلوس في المقاهي والذهاب إلى السينما والمكتبة العامة. لم يعد الهروب يتم بيننا باتفاق. يذهب كل واحد إلى أحد الأماكن المعتادة، وبطريق الصدفة يدور حديث عابر عن إنجازات الساعات السابقة، وآمال الساعات اللاحقة. كنتُ من النوع الذي يفضِّل مكاناً أو مكانين على الأكثر، لكنني جرَّبتُ في البداية شهوة التنقُّل في الأماكن جميعاً، ثم بدت لي سريعاً شهوةً تافهةً تحتاج إلى سرعة بديهة لا أملكها، لكنني لا أحقدُ على عدم ملكيَّتي لها. كنتُ أحتاج دوماً إلى الرسوخ والثبات وانْفلات الساعات من حولي دون إحساس، والتشبُّع اللانهائي بهذا الانْفلات الزمني. ذهبتُ اليوم لإهدار الساعات السبع في الحديقة اليابانية. كان قرار إهدار وإحراق الوقت استراتيجية كل صباح، تلك الاستراتيجية التي كانت عيناي تطرف من عذوبة إمكان تحقيقها على الوجه الأكمل.
وكان الفشل يأتي عادة قبل ساعة أو ساعتين من زمنها الكليّ، ويأتي معه الألم من الإحساس العميق بالزمن وقيده. تظل الحديقة من السابعة حتى العاشرة مُحتفظةً بوحْشَةٍ هادئة مُنعزلة.
هناك ثلاث ساعات قبل أن يظهر أحد الأصدقاء. جلستُ أمام البحيرة المؤطرة بتماثيل بوذا المُتربعة الساكنة. وجوهها باسمة، وجذوعها راسخة. كان الصمتُ شديداً حين انعكس وجهها أمامي على صفحة الماء الراكد، وجه غريب مُهان. التفتُ إليها وأنا أكبتُ قشعريرة خوف من ظهورها المُفاجئ. كانت تقفُ فوق رأسي. ابتسمتْ لعنف لفتتي، فخرجتْ منها الابتسامة بائسة حزينة. تبدو دون الخمسين بقليل. بشرتها مُلوَّحة بشمس قوية. بسرعة ودون تمهيد- وكأنها لا تملك أمرها- مالتْ على أذني وسألتني إن كنت أريد أم لا؟ أبعدتُ رأسي عن فمها وأنا أحاول أن أبدو أقل انزعاجاً، أن أبدو مُتماسكاً بسنواتي الخامسة عشرة. مَن؟ أنتِ؟ نعم. خرجتْ منها كلمة الإيجاب مدعومة بهزة تأكيد حادة من رأسها ووضع يدها على صدرها. تأثَّرتُ بقولها ودعمها المُتزامن، وأحسستُ بشفقةٍ جارفة تتجاوَزَها بعماءٍ مُسْكِر، وتتطلع لكائنات من مثل نوعها. لا. ومع هذا خرج مني الرفضُ مُتعالياً، وارتسم على وجهي نفور ساخر. اعتذرتْ وهي تسحب الرفضَ لتُضاعِف به وجودها. قلتُ في نفسي: ربما القبول لا يدعم وجودها. كانت ابتسامات تماثيل بوذا على وجه البحيرة.