منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - أدونيس
الموضوع: أدونيس
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-21-2006, 09:19 PM   #6
قايـد الحربي

مؤسس

عضو مجلس الإدارة

افتراضي


مدارات أدونيس: بعلبك، نبع العاصي، فيض لجسد
أدونيس الحياة - 11/08/05//


- 1 –

«هل الايديولوجيّة جثّة الحياة»؟ «هل الكتابة جثة الفكر»؟: تساءلت أمس، فيما كنت أرقص مع شبانٍ وفتياتٍ بينهن فتاة تغطّي شعرها. لم يمنعها هذا الغطاء من أن تعطي لجسدها حقوقه في الحياة، والفرح، واللذّة، فترقصَ معي ومع غيري، بحريةٍ وغبطة. كان ذلك في مقهى على نبع العاصي، الطالع من أحشاء الأرض في رقصٍ آخر لا تعرف اللغة كيف تقرع أبوابه.

لا يعرف أحدنا الآخر. لم يتحدّث أحدنا الى الآخر. مع ذلك، رقصنا معاً. جمعت بيننا طاقة الحياة فينا، تفجرات الرغبة، «تقاليد» مما وراء «الأفكار» و «الايديولوجيات»، و «الأحزاب» – تقاليد الفنّ، فنّ الحياة والانسان والطبيعة، تقاليد الموسيقى والغناء والرقص، التقاليد الطالعة من أغوار الحياة، كمثل نبع العاصي الطّالع من أعماق الأرض.

وطبيعيّ أن يتراجــــع آنذاك «الثقافي»، «المصنوع»، «المعلّب»، وأن يتقدم «الحياتيّ»، «الطبيعيّ»، «العفويّ». أن تغيب «الإيديولوجيّات»، وتحضر الأجسادُ ونبضاتها. أن تَنْحَسِرَ «الرّوح» ويفيضَ «الجسد».

بلى، نُحرر الحياة والعقل، بقدر ما نعطي للجسد حقوقه. ونحرّر الكتابة بقدر ما نجعلها جزءاً من هذه الحقوق. ذلك أنّ هوان الجسد ليس إلا هواناً للحياة، وللإنسان، وللفكر، وللّغة جميعاً.

- 2 –

في الطريق الى نبع العاصي، وهي طويلة، ثلاث ساعاتٍ من بيروت، مررنا – الأصدقاء وأنا - لرؤية بعلبك، خـــصوصاً أن معظمنا لم يرَها منذ فترة طويلة.

بعلبك: قسمها «الحيّ» يزداد تخبّطاً، وقسمها «الميّت» يزداد، على العكس، بهاءً وحياةً – على رغم أن مساحاته تكاد أن تئنَّ تحت وطأة النفايات من كل نوع، بدءاً من قناني الماء الفارغة. أليست النظافة من الإيمان، يا سُكّان بعلبك؟

آهِ، ما أبعد المسافة، مسافة الإبداع والجمال والحريّة، بين بعلبك السَّلف، وبعلبك الخلف.

للمناسبة، لي رجاء خاصّ لسماحة السيّد حسن نصرالله، هو أن يأمر بإزالة الشعار الذي «نُحت» على واجهة القلعة من داخل. فلا يجوز أن يُتخذَ من المقاومة، من نبلها وعطائها، من آلامها وتضحياتها، وسائل تهبطُ بها الى مستوياتٍ تسيء اليها، والى رمزيّتها العالية. فهذا الشعار «نُحت»، باسم المقاومة. وهو «نحتٌ» يبدو كأنّه قطعة بلاستيكيّة مُلصقةٌ بشكل بشعٍ على واجهةِ أثرٍ يُعدّ بين الآثار الابداعية الكبرى في التاريخ كله.

وهو شعار لا يفيد المقاومة في شيء، على صعيد الدلالة والمعنى، أو حتّى على صعيد الدّعاوة والاعلان. اضافةً الى أنه بائِسٌ ومُتهافتٌ، على الصعيد الفني الجمالي، وخطأ على صعيد اللغة. فليس هناك أيّ مسوّغ أو أيّة ضرورة كتابية أو شعرية لكتابة الشعار بهذا الشكل: «مقاومة تحمي وطن»، وإنما يجب أن يكتب: «مقاومة تحمي وطناً».

المقاومة فَنٌ في إضاءة الحياة، وفي بناء التّاريخ. ولذلك فإنّ الفنّ الذي يُعبّر عنها يجب أن يكون في مستواها، مستوى اضاءة الحياة، وبناء التّاريخ. فوضعها، فنياً، بشكلٍ قبيح، في ظلّ أثرٍ عظيم، من طبيعةٍ أخرى، يجـــــعل هذا الوضعَ «دخيلاً»، و «نابياً»، وفي غيــــر «مكانه» و «مقامه»، ونوعاً من «الاعتداء» مما يشوّه فكرة المــــقاومة، وأبطالها، وتضحياتهم العالية، ومِمّا يشــوّه علاقتنا الإنسانية والفنّية بالتاريخ، وبالأعــــمال الفـــــنية التاريخيّة الكبرى، ومما يكشف أخيراً عن ضحالة رؤيتنا في هذا كلّه.

رجاءً،

رجاءً يا سيّدي،

أن تأمرَ بإزالته.

- 3 –

قالت لأصــــدقائها في طــــريقنا الى نبع العاصي:

«ننتمي الى مجتمع يقول لنا، كلَّ يوم، بطريقةٍ أو بأخرى، ليس للإنسان حقٌّ في السعادة، وليس له حق في الحريّة، هكذا علينا أن نثبت كل يوم ما يناقض هذا القول، وما ينقضُه».

- 4 –

الطّريق بين بعلبك ونبع العاصي «جرحٌ» مفتوحٌ، ينزف «تقنيةً». «الأجنبيّ» الذي نحارب حضوره، نظريّاً، يملأ حياتنا، عمليّاً.

الاستقلال هو أن تستقلّ كذلك اليدُ، لا «الفكرة» وحدها.

- 5 –

قال:

«لا يتمثّل القمعُ في قمع السلطة وحدها. يتمثل كذلك في قمع المجتمع نفسه الأفرادَ الذين يتكوّن منهم. وهو الذي يسوّغ القمع الأوّل، عدا أنّه الأشدّ فتكاً بالإنسان وحقوقه».

- 6 –

قالت:

«أختلف معكم. ربّما لكي يكون اختلافي عنكم وسيلةً لحبٍ آخر لكم، ولاكتشافٍ آخر».

- 7 –

في قلعة بعلبك، أحسستُ أنّ كلاًّ منا كان يخاطب أعمدتَها:

«لي فيكِ ماضٍ، لا أجد فيه إلاّ المستقبل».

- 8 –

كأنَّ لبعلبكّ أعضاء توشوشني هذه اللحظة:

«لو كنتُ أنجب أبناءً

لكنت أطلقتُ على أحدهم اسم الدّهر».

- 9 –

أطوفُ، بعلبك، في حضوركِ، لكي أتعلّم كيف أزداد قرباً الى الغيب.

- 10 –

كلّما التقيتكِ، بعلبك، أشعر أَنّنا نتحوّل، أنتِ وأنا، الى طبيبين يسهران على راحة ذلك المريض الأبديّ: الزّمن.

- 11 –

خِلْسةً،

أغـــريتُ الحــــبَّ، في معبد باخوس، أن يسيرَ أمامي لغرضٍ واحــــد: أن أراه، كما هو في ذاكرتي، طفلاً.

- 12 –

لماذا تحبّ أن تعاشر الموتَ في الجزء «الميّت» من بعلبك، وتحبّ أن تهرب من الحياة في جزئها «الحيّ»؟

- 13 –

أحياناً، يدهشني جسد بعلبك،

غَير أنه، دائماً، يضيئني.

- 14 –

اسمحي لي، بعلبك،

أن أنسبَ أخطاءك لي،

لكي أعرف كيف أنتسبُ إليكِ.

- 15 –

الشمس تستيقظ في وجه الفضاء،

الفضاء، والشمس يستيقظان في وجه بعلبك،

كأنّها امرأة عاشقة.

- 16 –

من جديدٍ، كرّرت بعلبك درسها عليّ:

«لا تعش إلا في أوج جسدكَ،

لكي تسقطَ من شاهقٍ،

إذا سقطت».

- 17 –

قالت:

«الجسدُ معلِّم الرّوح».

- 18 –

ليست بعلبكّ درجاً نصعدُ عليه،

بعلبكّ محيطٌ نتموّج فيه.

- 19 –

بعلبكّ والعاصي:

فنّ الثقافة وفنّ الطبيعة،

إبداعان فريدان في العالم – ولا نرى فيهما إلى أبعد من «السياحة» و «التجارة».

كأنّ لغتنا «الثقافيّة» تكره الطبيعة،

وكأن لغتنا «الطبيعيّة» تكره الثّقافة.

- 20 –

- لا أحبّ السّهر.

- أنا أحبّه. السّهر غطاءٌ آخر لسرير الحبّ .

 

قايـد الحربي غير متصل   رد مع اقتباس