....
...
..
.
يوم عمل شاق.. تغيّرتْ بعض المواعيد .. ظرفٌ طارئ .. حدى بي لملء ساعات العمل في حالة من الاستنفار لتهيئة الأمور لغدٍ مريح.. (النوت) امتلأ باللون الأحمر.. مهام كثيرة.. أففففف متى بتجي الساعة 8:00 وأفتك.. موعدنا كان عند الساعة 7:30.. ها هي الساعة تشير إلى 7:37.. لستُ أدري ما الذي أخّرك.. حالة تفكير تصيب سرحاني.. (حبيبي تعالا بنادي لك.. تطمني.. تريّحني .. متسبش إيدي من إيدك)... رنّ الهاتف باسمك..
- ألو؟
- حبيبي انتي وين
- انا في الدوام اتريا اتصالك
- ما بتجين عندي؟ انا هني في المواقف قدام شارع (الكترا)
- !!!!!
- زينب اشحالك
- من معاي؟
- انا ...........
- عرفتك..
- وصوتك من بعيد يصرخ.. (ليش تاخذ التلفون مني رجعه لا تكلّم حبيبتي يا........)
- في شيّ صاير؟
- صوتكم مب طبيعي
- مافي شي
- بس تعالي الحين اذا تقدرين تتركين الشغل لو مافي شي مهم
- انا جاية مسافة السكّة بس..
الإشارات اللعينة متوقفة.. شارع الكترا السخيف لا يفتأ يفرغ حتى يمتلئ.. الشوارع كممرات (سوق نايف بدبي) من زحمة السير والمشاة.. آه بقيت اشارة.. مرّت عشرون دقيقة في حالة مرور مزدحم.. اتصالاتك تزداد مع كل دقيقة.. (انتِ وين انت وين انت وين انت وين).. أصبحت ترن في رأسي مع عقارب الثواني الزاحفة كالحرباء أمامي..
أشعر بغثيان.. طعمٌ كريه يتقلّب في معدتي.. بكاء عاصف يزدحم في صدري.. أناملي ترتعد.. وصلتُ بالقرب منكم.. أسمع حشرجَةَ صوتك عبر الهاتف بالضحك والصراخ في الوقت ذاته.. صديقك أوقفني.. فتحتُ شباك السيارة في اتجاهك..
- انزلي عندي
- والله ما انزل..خليه يركب معاي.. يلا ورايا سيارات
رأيتكَ الآن بوضوح، ولكنّكََ تتمايلُ كالمحموم.. تتفصّدُ حزنًا.. جسدكَ يحترق.. الانفلونزا.. نبرتُكَ تترنّح.. كنتُ أخشى هذه اللحظةَ التي أراكَ فيها أمامي.. وهتْ عظامي.. وأنتَ تحتضن ذراعي اليمين كلها .. وتبكي.. لستُ ادري مالذي يبكيك.. أحبسُ دموعي كيما تثير شجنك.. أتقوّى.. أتلوّى.. لا شيء يجدي الآن.. يجب أن احسنَ التّصرّف..
- والله أحبج.. أنا ما اخونج أبدا.. حتى لو كلمت مليون وحدة.. كلهم زميلات عمل وعلاقات رسمية.. أصلا أنا ما أشعر اني في وحدة في الكون غيرج انت أنثى.. أنت الشيء الوحيد في حياتي.. انا قبلج كنت تايه.. بس انت كنت عايشة حياتج.. ولما لقيتج ما راح افرّط فيج ابدا.. ماراح اخليج.. بس اخاف انت تخليني..
- انا ماراح اخليك ولا لحظة ولا دقيقة.. مهما سافرنا ومهما بعدنا انا عندك وانت عندي صح حبيبي؟
- صح.. بس انا احبج.. وحبي لج هو السبب الوحيد اللي يخليني اعيش.. انا ما أؤمن بشي غيرج انت..
- وانا ما أؤمن الا بك
- نحن وين؟
- نحن عند إشارة قصر المنهل
- صح.. هذا قصر المنهل.. حبيبي شكلج تعرفين شوارع أبوظبي عدل.. أنا ماعرف وايد.. هذي اللي مرّت علينا برادو صح؟ بس خلاص راحت..
كانَ الطفلُ المخبوءُ في أزمنتِكَ ينطق في تلك اللحظة.. بينَ كل كلمتين تتساقطُ بالبكاء على يدي.. وأنا أسابقُ الإشارات المرورية التعيسة.. أريد أن أتخلصَ من الزحام.. السيارات في كل مكان.. كأن الله لم يخلقها إلا في أبوظبي.. الكثافة المرورية تخنقني.. وأنت تفيق وترقد.. ترتعش.. تبكي.. تضحك.. تقرأ اللوحات في الشوارع.. تمسح دموعك بثوبك.. وانا أمسح بيدي على صدرك وصوتك يعلو بالتأوّهات..
- حبيبي انتبهي على الطريق لا تطالعيني
- حبيبي انا منتبهة على الطريق اطالعك واطالع الشارع
- انا مافيني شي.. بس بعترف لج بشي وماباج تزعلين
- قول حبيبي انا ما ازعل منك
- انا سكران
تنهدّ العبرة في قلبي.. وكأنّ الاعتراف كان جديدًا علي.. كأني لم أفهمك من أول لحظة كلمتك فيها عبر الهاتف أعرف صوتكَ تمامًا حين يختلف عن طبيعته.. لم أكن لأترككَ وأنت هكذا.. لحظة التّجلّي التي كنتُ فيها معك.. تُفهِمُني حقيقةَ الحبّ التي نحياها.. توصِلني إلى حقيقتِكَ الهادئة كطفل وديع.. يعبَثُ بمسجّلِ السيارة وحرارة المكيف.. يقرأ اللوحات.. ويخبرني عن أنواع السيارات المارقة بجانبنا بكل هدوء.. كنتَ طفلي وأنا أحتضنُ شجونَكَ كلها.. أشربُ دموعَكَ المتساقطة على صدري.. أمام مدرسةِ الاتحاد وقفنا في منطقة البطين.. وأسئلتُكَ لم تتوقف ( نحن وين – ليش واقفين هني – الاثنين اللي مرّوا من عندنا رايحين ولا جايين؟ شو هذيك الليتات البعيدة.. شو مكتوب هني......... ) كلامُكَ في تلك الساعتين كانَ أطهرَ من كلام الأنبياء.. كنتَ تفتح معي مسارات الفكر.. والأحلام.. والمذاهب والحب.. اعترفتَ أنّكَ تحبّني أكثر من الله.. وأن حنانكَ حيال أمك وأبيك حنانٌ غزيري بفعل الفطرة.. وأما حُبكَ لي فهوَ بفِعْلِ العاطفةِ والتوحّد والاستقرار..
(تعرفين حبيبي لما كنت صغير كنت أبا اتزوج وحدة حلوة.. لما كبرت شوي كنت ابا وحدة حلوة وتفهمني.. ولما كبرت شوي كنت ابا وحدة عندها فكر وتفهمني.. ولما كبرت شوي كنت ابا وحدة بس تفهمني.. ولما صرت 21 قلت ابا وحدة تفهمني وتحترم رايي، لما افكر فكرة ما تهمشها تحترمها حتى لو كانت غير عن تفكيرها او تربيتها او دينها.. ولما لقيتج لقيت كل اللي احلم فيه من صغري لين الحين.. فكرج يطابق فكري.. انا لما كنت ادورج قبل واقرأ لج قلت هذي عندها اللي يناسب بعض مني.. ولما التقينا.. لقيت كل شي فيج يطابق كل شي فيني عشان جيه ماراح اخليج ابدا.. ولا أخونج .. انا ما احس بكل بنات الدنيا اصلا.. انت بس احس فيج....)
وأنا اهطل دمعة دمعة.. واضمّك إلى أعصابي أكثر وأكثر.. كانَ توجّسُكَ كبيرا من أشياء لم تكن موجودة في الحقيقة.. كنتَ خائِفًا أن تنقُلَ إليَّ الانفلونزا.. وتطلبني أن أعقّم يديّ في كل حين.. أخرجتُ المعقّم من حقيبتي ووضعته أمامَكَ كي يخف قلقك علي.. رقدت وتنهدتَّ كثيرًا بين يدي.. لم تتوقف دموعُكَ حتى مع ابتسامتك المتقهقهرة.. كانت سرعان ما تجفّ حتى تهطل الدموع بألم.. أجهشتَ كثيرًا.. حتى خلعت قلبي من مكانه.. كنتُ أحاول الاستدارة بكاملي إليك.. لكنّ كراسي السيارة تلزمكَ بجلسة محددة.. مضت ساعة ونصف.. وعاوتَ السؤال..
- ليش طلعتِ من دوامج بدري.. شوفي الساعة الحين تسعة الا ربع.. وانت دوامج يخلص تسع.. ها الأربعين دقيقة وين راحت؟ متى داومتِ
- حبيبي انا خلصت دوام.. داومت 12 وأخلص ثمان
- صدق عاده؟ وتعدُّ الساعات على أصابعك وتخطئ وتعيد العد أكثر من مرة..
- صدق.. دوامي خلص بعدين ظهرت.. وجيت عندك..
- ليش جيتِ عندي.. هذا ربيعي الـ ....... انا بتصل عليه بسبّه.. ليش خلاج تيين
- لا تتصل خليك دخيلك.. كلمني انا بس
- أكلمج انت بس؟ اوكي بس وديني محطة أدنوك الحين
ذهبنا سويّا.. كنتُ قلقةً عليك كثيرًا.. خشيتُ ألا تصل لوحدك إلى دورات المياه.. ولكنكَ خرجتَ بحال أفضل.. صوتُكَ عاد إلى بعضٍ منه.. وسألتني ماذا أريد أن أشرب.. طلبتُ (لبن أب) وأنت شربت (ماء الفراولة).
- رجعيني لسيارتي.. خلاص بروح البيت
- دخيلك دير بالك على عمرك.. دخيلك دخيلك
- ان شاء الله بمشي شوي شوي لين اوصل.. بس اسف اني اخرتج عن البيت
- ما تأخرت عادي.. كل شي يهون إلا انت
عند اخضرار ألوان غرفتي.. كنت أتحدث معكَ وقد بقيَ على وصولك ثلاثة دقائق.. هدهدتك على الفراش.. واتفقنا أن نوقظ احلامنا عند كل صباح.. وألا يداهمنا المساء بخوف جديد..
- حبيبي شكلك انطفيت.. بترقد؟
- خلاص برقد حبيبي تصبحين على خير
- يلا ارقد..
وبقيتُ على السماعة ألملم أنفاسك وأطمئنها.. وأطمئن عليها.. أرخيتُ أهدابي.. وكبستُ على زر الإقفال...
.
..
...
....
زينب....