لن أضيفَ جديداً بكلامي الآن عن الهوية، فقد أشبعت كغيرها من الهموم درساً و بحثاً و كلاماً، ما بين مغالٍ في الحرص على الهوية و مفرّطٍ فيها، و لكن يبقى ذلك كله مجرد تنظير عقيم، و ما أرجوه ألا يكون الآتي مني أدناه، مجرد تنظير عقيم!
و كبداية سأقول : ما هي الهوية و كيف تنشأ!
هل هي تراكمية يمكن الإضافة إليها و تعديلها ؟ أم هي شيء تام يتناقص فقط و يضيع إذا لم نعاني في سبيل الحرص عليه ؟
جينز طيحني، و العباءات بشكلها الجديد، هل انتشارها أمر يهدد الهوية، أم أنها، و كذلك ما يحدث من الثورات ضدها، دليل دامغ على فشلنا في تأطير الهوية، و كل هذا ما هو إلا أعراض و علامات لمرض اسمه، خيانة الهوية.
و هل هويتنا متسعة و مسيطرة علينا كل هذه السيطرة لدرجة أن لبس مجموعة مراهقين لبناطيل غريبة علينا، السبب الشائع وراء ارتدائهم لها هو ملاحقة الموضة، فعلهم هذا سيهدد مباشرة هويتنا!!
ما هذه الهوية التي تتبخر عند درجة حرارة منخفضة، و ما هذه الهوية التي تجُمد بمجرد ارتداء الثوب، و تبدأ في الانحلال مع ارتداء الجينز !!
اليوم المطوّع يلبس جينز و برمودا، و قبل خمس سنوات كان يحرّمه و يفسّق من يلبسه بتهمة التشبه بالغرب؟
أقصد بالمطوّع هنا، هو الخطاب الديني الذي كان سائداً.
لا أنكر أن بعض الملابس أخجل من ارتدائها، و لا يمكن و بأي حال من الأحوال أن أرتديها، سأفضّل عليها أن أخرج بمنشفة، على أن ألبس " اللو ويست " ، و لكن الكلام هنا عن أمر خطير : عن الهوية !!
غريبة هذه الهوية، كيف و هي تحتضر نسمع لاحتضارها كل هذا العويل، بينما يكفينا لإسعافها أن نفصخ الجينز، و نلبس الثوب!!
هل هذه هي " الهوية " التي نتكلم عنها!!
إذن لبس الجينز الماصخ، و تلوين العباءة و تخصيرها ليس هو الخنجر الذي يُغرّس في خاصرة الهوية، بل هو الدم النازف من خاصرة الهوية، الخنجر المغروز في خاصرة الهوية لا بد و أن يكون أفظع من مجرد ملابس بوسعنا تبديلها بسرعة متى ما اقتنعنا بجدوى ذلك.
هل استمعنا لصوت هؤلاء الذين نعاملهم كسرطان في مثانة هويتنا! سأطرح عدة رؤى هنا أتمنى أن يتسع الصدر لها :
أليس من المنطق أن أحد أسباب انخفاض مستوى الحياء لدى الشباب و البنات على حدٍ سواء، في الأسواق هو بسبب تسلط الهيئة في زمنٍ مضى، أليست الرقابة الخارجية المطلقة سبباً في تحطيم الرقيب الداخلي، ألا نؤمن بأنه من قوانين التربية أنك إذا رددت على طفلك ليل نهار : يا غبي ، فلن يكون إلا غبياً، و هذا ما نمارسه مع شبابنا، عندما نقول لهم ليل نهار أنهم ذئاب بشرية، و حيوانات شهوانية غريزية ألن يتحولوا إلى الاقتناع بهذه التهمة و استمرائها و ممارستها بعد ذلك دون أدنى خجل!!
أقارن بين هيئة الرياض – سابقاً – و هيئة مدينتي المتريّفة فأجد الكفة ترجح مرات لصالح سُمعة رجال الحسبة في الرياض و حرصهم على الانضباط الأخلاقي، على عكس رجال الحسبة في مدينتي، و مع ذلك أبصم بالعشرة الآن أنه لو قادت المرأة السيارة في مدينتي المتريفة لن تجد من يضايقها، ربما يعود ذلك إلى التنوع الجغرافي الذي تُصبغ به المدن، بينما مدينتي المتريفة فيها لون واحد فقط تقريباً، هو لون أهل المدينة ذاتها، و هذا يعيد سؤال الهوية:
لماذا يحمل شبابنا هويتين، واحدة في قراهم و أريافهم و مدنهم حديثة التكون في الأطراف، و أخرى للمدينة التي يدرسون فيها!! لماذا يحمل شباب الرياض هوية داخل الرياض، و أخرى في جده و الشرقية!!
لماذا يزدحم جسر البحرين بالشباب مع كل إجازة و يظهرون هناك بمظهر غير الذي يظهرون به في السعودية!
ما هذه الهوية الحربائية التي تتلون بلون المحيط الذي تذهب إليه!؟
جده هي من المغضوب عليهم، لأن طبيعة أهلها تختلف عن طبيعة من يزورها أو يعمل و يدرس بها، ممن هم مِن خارجها. لجده هوية و أهل جده متصالحين تقريباً مع محيطهم، و لا نسمع منهم من يشكو!! و لكن أين تذهب هوية من يختلط بهم!!
لماذا إذا سافرنا إلى الخارج و نحن نمشي بين الكاسيات العاريات لا نُفتَن، و سبحان الله لا تثار غرائزنا إلا مع بنات سعوديات عندما يلبسن بطريقة معينة.
ألا يدل هذا على أن نظرتنا للإنسان ملتصقة تماماً بـ " من هو " هذا الإنسان.
نرى الشوام و أهل مصر في شوارعنا نسائهن يكشفن عن وجوههن، فلا نُثار و لا نثور على ذلك، و لكن عندما يصدر هذا الفعل من " سعودية " فـ هي ...... ؟!
هذا الأمر في اعتقادي ليس أخلاقي، و لا ديني، هو فقط على علاقة وطيدة بقلقنا على الهوية.
و ليست مشكلة أن نقلق على هويتنا، المشكلة عندما نسترخص إنسانية بعضنا بسبب بعده أو قربه عن ما نراه نحن : يحدد إطار هذه الهوية.
المشكلة أن يتسبب حرصنا على هويتنا في تدمير هويتنا، الحرص الزائد عن حده تدمير للهوية.
كيف نشأت هذه الهوية و ما هي بالضبط، هل هي في اللباس و العادات و التقاليد! أم هي الإلتزام بالدين، أم هي خليط من هذا و ذاك؟
أليس الأسلم لهويتنا أن نحددها الآن! هل ستكون هوية عربية أم هوية سعودية أم هوية شاملة و ستكون إسلامية.
إن كانت هوية سعودية فهي ستلبس الثوب، إن كانت عربية فهي ستتسامح قليلاً في شأن اللباس، إن كانت إسلامية فهي لن تسأل سوى عن هل اللباس ساتر للعورة أم لا !
أخطر من ذوبان الهوية، هو خنقها و تنفير الناس منها، من يلبس طيحني اليوم هم غالبا من المراهقين، و لكن من سيلبسه غداً إن استمرينا في الخلط بين الهوية الحقيقية، و الهوية التي نفصلها حسب انتماءاتنا ضيقة الأفق، فسنرى غداً رجالاً يلبسون طيحني، عندها ستكون الهوية حقاً تحتضر!
للبدوي نظرة و للقروي نظرة و للبدوي المتمدن نظرة و للريفي المتحضر نظرة، و للمتمدن نظرة، و للمتمدن المتأثر بالتريف و البداوة نظرة، لكل من هؤلاء نظرة يستعرض من خلالها معنى الهوية في داخله، بناء على تربيته و ظروف نشأته، و لكن هل ما يراه هوية، هو فعلاً هويتنا الحقيقة؟! هويتنا جميعاً ؟
سؤال:
ما هي " الهوية "؟