منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - (( في اغــتياب مدينة )) دعوة للمشاركة ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-29-2010, 08:57 AM   #6
نهله محمد
( كاتبة )

افتراضي




عدتُ أنبش ذاكرتي بحثاً عن مدينة تكون لي قميصاً صيفياً مُزهراً وبارداً, فكانت ..
أرضٌ حكى عنها جدي بشوق ,
تدلت من قصائده كبرتقالة ريّانة , تفرعتْ على أبياته كسوق عرائش العنب ..
كنتُ حينها صغيرة على فهم المدن متعددة النوايا والقصائد التي تكبر بحب مدينة ..
جاء اليوم الذي سمعتُ فيه ندائها .جيداً أذكر حتى لون الحقيبة الرمادية الكبيرة الممتلئة بملابس تراوغ مزاجات طقسها ..
وتماماً , فوق غيمةٍ بكيت خوفاً كأول مرةٍ أتعامل فيها مع الارتفاعات الشاهقة ,
لكني اليوم عرفت بأني إنْ سقطت , ماكنتُ لأسقط إلا في غابةٍ رحيمة .. أصبح لديّ ثقةً مُتجاوزة في أشجار الصنوبر , ومايعنيه طول أغصانها وفسحة ظلالها ..

المدينة الهشة , مدينة الجلود البيضاء ,
والمشي الطويل و السواحل التي يمتزج فيها عطرك مع البحر ..
مدينة الزوارق و الغابات , والإنتماء , والصرامة المفرطة . حتى كان ليخيل إليّ أني ملزمةٌ باحترام كرسي حديقة أمر بجانبه ..
هذا ما تعلمته من الحديث المُشطب لــ" صوفيا ".. جارتنا العجوز الأنيقة ..
في بالي الآن طريقة جلستها " الملوكية " ومشيتها المحسوبة , دون أن تطرق بكعبها - العالي جداً - الأرض احتراماً لجارها بالدور الأسفل ..
أذكر حزمها المبالغ مع أحفادها ولطفها المُسترسل معي .
اكتشفتُ ذلك بعد أن ناولتها كوب الشاي بميسرتي , فأخبرت أمي أنها كانت تجبر أبنائها -عند حركة مشابهه - على صَبّ كوبٍ آخر وتقديمه بيمناهم حتى لايألفوا معاودة الخطأ ..
كانت من النساء اللاتي يتحدثن بجرأة , وينفعلن ككومةٍ من القشّ قفزتْ فيها شرارة ..
صريحةٌ جداً وواضحة للدرجة التي شوشت عليّ نفسي ..
كريمة ومضيافة , حيث اختارت لنا شقة علوية - نظفتها بنفسها- مطلّة على بحرٍ يشبه طباعهم إلى حدٍ كبير .. آسر وهادئ ومثير..
في " البلكونة "ملياً استجمعتُ فرحتي وفرقتها كتذكارعندما حزمنا الأمتعة وهربنا من الإحتمالات ومن غضب الطقس ..

طاولة بيضاء , كرسيان , راديو بني فاحم , طبق فاكهة , سكين ,
وأبي يجلس على كرسي ويمد رجليه على الآخر والبحر رفيقه الذي لا يعكر مزاجه بالحديث عن الموج ..
هكذا كان يمضي الوقت بين الفينة والأخرى ..أما أنا فكنتُ أتعربش على السور أمامه كقطةٍ فضولية وأتأمل الزقاق الضيق ,
وفي نفسي عَدّاد لعدّ خطى الذاهبين لأحوالهم ..
حياتهم المختلفة عنا كانت شرار فضولي ..
فيمكن أن تفاجأ بسيارة للخضار تمر وتفرق الخضروات ,
أخرى أكبر حجماً مليئة بالأحذية والقلائد المخرزة ,
ثالثة لبضائع زهيدة أو ألعاب لجلب الصغار..
أجمل مايمكن أن تكون المراقبة من ربوة عالية , تبدو الحياة بالأسفل أصغر مما نعيش فيها وصاخبة بتعجرف حد سؤالٍ تطرحه على نفسك :"كيف لم أنتبه لكل هذه التفاصيل ؟"...

في خضم ذلك , كنّا نجاهد الوقت كي لايفوتنا شيء ,
الشلالات , والجبال المزهوة بالربيع , مطاعمها الكثيرة , متاحفها العريقة , أسواقها الشعبية المغرية بإنفاق نفسك فيها ..
تقرّبت فيها للسنارات في محاولة لفهمها , وكم تمنيت لو أكون سمكة ..
تقرّبت للبنادق أيضاً , الأمر الذي لم يتجرأ عليه أخي .
أطلقتُ رصاصةً في الفضاء وقفزت فزعاً لكني عدتُ للمقبض سريعاً تدفعني الرغبة لكشف جنون أبي وهوسه .
و عرفتُ المعنى في أن تكون دقيقاً عندما تراقب " شارتك " ..
اقتربت كثيراً من بياض مدافنهم و بصلابة قلب أردت إلقاء نظرةٍ فاحصةٍ منها على مدافننا الشاحبة جداً والتي تثير قلقك على الأموات ..
و بكيت فرحاً... نعم , بكيت عندما صار لي أصدقاء كبار:

- السائق الأمين" مصطفى " وخطيبته ..
كانا أكثر من يستلذان بصحبتي وبالحديث معي كصغيرةٍ لاتشبه الصغار وتثير دهشتهم بسرعة الحفظ والأسئلة ..
فعلموني طريقةً للعد وتفنيد فئات النقود , وطريق البقالة المجاورة ,
وكلماتٍ قليلة تكون جسرا بيني وبين البائع " حليب , خبز , بطيخ , شاي , تونة ".
الآن نسيت من أين تؤتى الجسور!

- بائع البوظة الشهيرة في " تَرَابيا ",
ذاك المُتلاعب , صاحب الحيل الواسعة واليد الخفيفة .
لطالما أحببت فيه ظرافته وحسن احتواءه للعرب الآخرين وكرمه في توزيع المقالب ..
للآن مازالتْ بوظته مقلوبة على يدي ,
ووجها والديّ قِبالتي أحدهما يضحك على انفعالي
والآخر يسعفني بمحارم ورقية ويخفي ضحكته كي لا أثور ويصمت الــ"كورنيش " إلى الأبد ..

وصديق ثالث لايخطر على بال أحد ,
ليس إلا الليل .. ذلك الذي يعتني بالضجيج الهاديء
و يعني أن تنصتَ كطفلٍ شرير لصوتِ الكؤوس
و تترك العنان لمخيلتك في اختيار شكل حانة , ونسوة لاتعرف ماذا يفعلن, ورجال أغلبهم من تربتك ..
وتعاود ترتيب الخيال , فتُسقط مكانه مقطعاً من فيلم أجنبيّ ليبدو دقيقاً مناسبا للقرع الذي تسمعه ..

في " تركيا " من المحتمل أن تلجأ " لميداليا " زرقاء بشكل عين فقد تختلط عليك نفسك ,
وتشعر بما لايمكن أن تشعره في مدينةٍ سواها. لها الحق إن خصصتْ لها ذاكرةً فارقة
..

 

التوقيع




لم يكتب فيّ أحدٌ قصيدة واحدة ..
ولا ربع كلمة !
كنت دوماً خلف كواليسهم أرقبهم يُقرون
بأن الضوء يتسرب من يدي ..
بأن واحة اعتدل حالها عندما كتبت عنها ..
بأن سنجاباً تأقلم مع صحراء عندما غازلته بأُقصودة ..
بأن المسارح غطاها الغناء ونفضت الغبار بالستائر ثم غسلتها بحبري ..
بأن الجحيم سيصبح بارداً أكثر كلما راسلته .. لديهم أمل أن ينطفئ ..


التعديل الأخير تم بواسطة نهله محمد ; 08-29-2010 الساعة 09:52 AM.

نهله محمد غير متصل   رد مع اقتباس