منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - احتماء .... بالضوء !
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-25-2010, 05:38 AM   #6
سحر الناجي
( كاتبة وإعلامية )

افتراضي



نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

* رجل على الطريق ..
كان كلما مر من ذلك الطريق المتواري في أزقة الحي وتحت ظل الظلام الدامس , وجد "سالم" ذلك الكهل يجلس على الناصية .. رجل يتقوقع على نفسه ويهذي بعبارات كالجنون.. غريب يتأرجح على شواطئ الوجود بوهن وعجز ..
من أجل ذلك كان يتراءى للفتى هاجسه الذي يغويه بالشؤم ..هاجسه يتضح مليآ بشظف العيش والفقر المدقع .. وعذاب تلو عذاب .. وحظ عاثر .. ولا نهاية للألم .. أجل .. حياته كليلة بلا هدف أو طعم .. حياته كموت من نوع آخر استل مرحه وصخبه وتركه جثمانآ هامدآ على على بقاع الزمان.. كان دومآ يتوقف عند الكهل ويسمع جليآ صوته الساخط من سجون الهذيان .. كهل يزور الأرصفة ويجوب الطرقات كالشريد .. مخلوق مرتعش الأطراف بجسد نحيف وعينان ثاقبتان , يستعمر الطرقات بفلسفات عجيبة .. ومتكومآ على ذاته بظهر منحني وعصآ متكرجة اقتطعها من إحدى الأشجار الميتة .. ..
سمع سالم من أحد رفاقه أن هذا الشيخ قد فقد أسرته قبل سنوات طويلة في حريق منزلي بينما كان في عمله .. ومنذ ذلك الحين وهو يحلق على فضاءات التيه ,, ويقطن أروقة المدينة ..
الآن تراوده نفسه بأن يتحدث إلى الغريب .. يغريه فضوله بأن يستشف خفاياه . لكنه كان فيما مضى.. وفي كل مرة يقترب فيها منه يشعر برهبة فيمضي دون أن يحقق مراده ..غير أنه هذا اليوم قرر أن يعزم ويتوكل ..فحمل بصره إلى حيث تمضي به خطاه .. كان الرجل يحدق في الفراغ شاردآ .. كان غارقآ في أفكار عميقة .. فاقترب منه سالم وجلس بهدوء على حافة الدرج المرتفع حيث اتخذه الكهل مجلسآ ..
تمتم يلقي عليه بالتحية فلم يسمع من الشيخ شيئآ .. فغام بصره بالحيره ثم عاد وألقى به على هيكل من العظام كان يجثم بجانبه , لأول مرة يلحظ العظام البارزة في وجه الكهل ,, لأول مرة يكتشف الشحوب المتفشي على بشرته الهزيلة , فبدا الرجل في هيئته تلك وكأنه على وشك الإحتضار , لأجل ذلك أخذته الشفقة عليه مأخذآ عجيبآ .. سأله بدون تفكير :
- هل أنت جائع يا عم ؟
وقبل أن يجيبه الرجل ليشبع رحمته , ظهر وجوم على جبينه , وقال كلماته المبهمة وهو يشيح بوجهه صوب العتمة :
- لا أحد يريد أن يفهم ..
- إنني أسألك .. هل تشعر بالجوع ؟
- وما فائدة الشبع والموت يلتهمنا في النهاية ..!
غصة اجتاحت صدر الفتى فقال معترضآ :
- لماذا تذكر الموت دائمآ ؟
نظر إليه الكهل بأحداق قاسية وصاح :
- لأنه المجهول الوحيد الذي يقاتلني بلا مواجهة ..
وأومأ يلكز بعصاه وجه التراب على الرصيف :
- يأتينا بغتة ويختطفنا إلى مصير مجهول ..
إنقبض الشاب ووقف على عجل , لم يستطع مجاراة الحقيقة الرمادية . غير أن ذاكرته لا زالت تلوح له بتشوق عارم لتفاصيل الحكاية . حتى داهمه خاطر مفاجئ :
- ما رأيك أن نكمل حديثنا في مكان آخر ؟
كان ينظر ناحية الجسر والمبنى الذي ينطوي على مكتبه .. متسائلآ عما يفعله مديره اللحظة . متخيلآ أصابعه المجعدة وهي توقع ورقة إقالته النهائية من العمل , وظيفة لم يكسب منها سوى الذل والتعب وحفنة من الريالات التي لا تغني ولا تسمن من جوع , إزداد إنقباضه .. ففر منه إلى إلحاح وجهه إلى صاحبه :
- ما رأيك .. هل نذهب ؟
فعل ذلك .. وعاد أدراجه إلى الوراء بخطوتين صغيرتين , ولكن الرجل لم ينبس ببنت شفة , فعاد يسأله :
- هل نذهب ؟
- حدثني عن حلمك ..
فاجئه الكهل بفضول أيقظ كل الأماني الغافية في صدره . وجد نفسه يعود بلا إدراك إلى مجلسه الأول بجوار الغريب, ثم يطلق زفرة مثل ضباب يلجم حنجرته . قال بصوت مرتعش :
- حلمي بحجم هذا الكون البعيد في الفضاء ..
لم يكن يأمل أن يسمع من الشيخ شيئآ . كان لا يزال يتجهم , وكان بوحه الأول بمثابة رغبة تدلق الإحساس , قال من جديد :
- أحب الحياة وأحب السفر.. أريد أن أكون جوالآ يرحل إلى كل بلاد الدنيا حتى ذلك العالم السحري في الفضاء أريد أن أصله..
تنهد من جديد وتمتم :
- ولكني خلقت فقيرآ ,, والعثرات تسقطني في كل خطوة أخطوها نحو النجاح ..
عند هذا الحد من تدفق مشاعر الحزن .. كادت أن تتجمع العبرات في عينيه فقاوم هطولها , وأمعن في حزنه قائلآ :
- مات أبي منذ سنوات .. وترك لي أمي وحفنة من الصغار أرعاهم .. حتى دراستي الجامعية لم أقدر على إنهاؤها .. وهكذا وجدت نفسي موظف بسيط في عمل يأكل كل وقتي ..
وبلا مقدمات نظر إلى الكهل وقال يلومه حين تجمع سحاب السخط في مداه :
- أو تسألني بعد ذلك عن حلمي ..!
ووقف مرة أخرى يوشك على البكاء هاتفآ :
- أي حلم يمكن أن يتحقق في هذه الظروف العصيبة ..؟
فجأة شعر بيد الكهل تربت على كتفه , إلتفت إليه بين غمام من الدموع .. فوجده يبتسم إليه بحنان .. قال الرجل يشير إلى السماء :
- أنظر جيدآ هناك .. وأخبرني بما تراه ..
حدق سالم في الظلام وأسرجة الكون المضيئة .. فقال بحيرة :
- هناك فضاء .. وجمال .. وغموض ساحر .. وحلم لي يتراقص على وجه النجوم ..
- بل هناك القوة العظمى الوحيدة القادرة على تحقيق حلمك .. هناك المعجزة تنتظرك أن تطرق بابها .. هناك ضوء عظيم وسط طبقات الظلام .. حيث المالك لكل هذا العالم ..
فلما لا تمشي إليه وتسأله العون ..!
وأردف يستعد للرحيل :
- كن معه يكن معك ..
وقف سالم يرقب الرجل وهو يبتعد دون أن يحرك ساكنآ ليوقفه.. رآه يخطو ببطئ قبل أن يبتلعه الظلام في الزقاق الجنوبي , نظر مجددآ إلى السماء وابتسم ..
قال وقد قفزت في صدره عزيمة وفأل ورجاء :
- أجل .. أنا قادم إليك يا ألله .. فكن معي ..
ومضى بفرح يركل الطريق بخطى الأمل . حينها أدرك أن حلمه بات على قاب قوسين أو أدنى منه ..

 

سحر الناجي غير متصل   رد مع اقتباس