كيف نحتسي كأس الحنين ، جرعة واحدة ، ونصحو ، لنكتشف أنه علينا الصّيام لعدّة أيام ، تكفيرا لممارسة حقّنا بالشوق المحرّم ؟!
نعم ، أصبح الشوق للوطن من المحرّمات والحنين إليه جريمة ، وفق فقههم الجديد وطقوسهم الشاذة .
تتوالى الأوّجاع مرتلة نداء الاستغاثة ، رافعة أكف الضّراعة إلى السماء بأن : ربّاه ارحمنا ، فقد قتلوا الإنسان فينا !
هي الآن تذكر بسمة " محمود " الطفل الأصم الذي عاد مع والديه بعد أسبوع من الغربة فقط !
لم تستقبل رئتهم هواء غير هواء وطنهم .
محمود يقف يوميا أمام بيتها ليبتسم ويرحل ، تصرخ به : يامحمود إنه القصف ، عُد إلى بيتكم أو ادخل
لايسمعها لكنه يفهم ماتريد واختار أن يخاطبها بأصدق لغة عرفها البشر !
يرفض ماتطلبه ، يبقى مكانه وبيده ورقّة وقلم يريد منّها رسم الكوخ والشجرة له " كعادتها كل صباح " ويرحل فرحًا بها .
لاتعلم لِمَ لمْ ترسم له لعبة أو بالونا ، أو إرجوحة ؟!
ربما لأن روعته تليق بصفاء أنفاس الطبيعة وروعتها .
تعالت صرخات أمّه بعد اختفاء والده ، رحل ليجلب الخبز ، تخمّر الخبر وأغلق الفرن أبوابه ولم يعد ،
وبدأت سيناريوهات الجيران تنتشر رائحتها في الأرجاء حتى وصلت لجعله من خليّة إرهابية ،
أو هو أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية !
وكل ذنبه هو ، عشقه لوطنه وعودته إليه .
وتبقى بسمة محمود وحدها من يطمئن قلبها أنه بخير.
حتى لحقت والدته بوالده بعد أن ذهبت لتبحث عنه في ثلاجات الموتى لتنفجر في طريقها سيارة مفخخة ،
وتنام في الثلاجة قبل أن تجد رفيقها ،
من يدري ربما هو نائم بجانبها هناك .
ويظهر العم بعد ضغط الأقارب عليه ليأخذ محمود إلى زوجته " القاسية جدًا "
فيهرب محمود بعد أيام عجاف !
ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنه لمسافة تبعد مئة متر عن المنزل ، على الأقل ليشكرونه لأنه رحل !
وتبقى هي تنتظر بسمته كل صباح ، وترسم الكثير من الأكواخ كل يوم وترمها أمام البيت ، علّه يمرّ يومًا ويجدها ،
لكنه لم يفعل ولم يأت !
ربما هو الآن يستند إلى حاوية قمامة
فهي أنظف من قلوب بعض البشر !!