مطر على شرفات الذاكرة – محمد الفاضل
كم أعشق رائحة أشجار السرو والحشائش عندما تبكي السماء ، تحنو على الأرض ، فتنهمر دموعها السخية مدراراً ، بعد طول فراق تلثم شفاه الأزاهير العطشى للحب ، فتتمايل بغنج وتمد عنقها لتغازل بدلال حبات المطر بنشوة عارمة ، تعانق أرصفة الشوارع وشرفات المنازل ، تنبعث تلك الرائحة الأَخاذة من الأرض ، فتنعش الفؤاد ،وتغتسل النفوس الحالمة حد الثمالة ، حتى شوارع المدينة وأبنيتها العتيقة من أدران النهار التي علقت بها .تبتل أجنحة العصافير ،تنفض ريشها ، تقفز فرحاً . خلف موانئ الوداع والشتات ، وراء البحور البعيدة ، أجلس في زاويتي الأثيرة ،خلف شرفتي ، أرقب خطوط المطر المتعرجة تنساب فوق النافذة ،أرتشف قهوتي المعتادة ، ممسكاً بقلمي لألون دفتر يومياتي ، أفتش بين طيات الذاكرة المكسوة بغبار سنين الغربة عن أجمل لحظات عمري ، وبقايا صور باهتة .
مضى من العمر جله ، ومازلت أحلم بتلك الأيام الغارقة في العطر ، القادمة من حكايات المساء والأساطير ، تجتاحني فتستعر نار الشوق والحنين في خبايا روحي التواقة لعناق الحبيبة ، ذات الضفائر الحالكة السواد كعتمة الليل عندما تنسدل على كتفيها ،وكأنها فينوس الجمال ، أتعلق بظلها ، أركن اليها ،أبوح لها بأسراري وهواجسي ، فتملأ قلبي بشهد حنانها وحكمتها ، فتهدأ روحي وتستكين ، مثل حكايات الأميرة ذات الضفائرفي ذلك القصرالبعيد .ولكني ما عدت ذلك الفارس !
لقد غزا خصلات شعرك اللون الفضي ، وحفر الزمن تجاعيد فوق قسمات وجهك الذي يطفح بنور ملائكي ، لا أدري ، فكلما نظرت إلى صورك ، أجدني أختنق وأغص بالعبرات ، لقد تغير كل شئ. وجع يمتد من أخمص قدمي إلى رأسي ، يا لقسوة الزمن .
لم تعد تلك الرائحة تستهويني ،بت أمقت أيام العيد ، من يعيد لي عبق كرنفالات العيد وأجواء الفرح ؟ من يعيد لي رائحة المطر عندما تجود السماء بحنانها على الأرض المتعطشة للحب ؟ كنت أعشق حبات المطر وهي ترتطم تباعاً بسطح المنزل ، وكأنها سمفونية تشترك فيها الطبيعة . ولكنها أصبحت مجرد ذكريات منذ زمن سحيق. سأترك شمعة مضيئة عند شرفتي مع زهور اللافندر حتى حين . سنلتقي ، خبرني السنونو غداة افترقنا .
السويد – 2016 / 05 / 07