منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - يوتوبيا الشياطين (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-28-2018, 09:57 AM   #12
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


10ـ أسرة لطيفة

فجأة ظهروا أمامنا كأنهم نشأوا من الفراغ..
ثلاثة من الرجال ومعهم سيدة يرتدون ملابس عصرية.. لكن لماذا تبدو
لي هيئتهم مألوفة..
أطلقت السيارة فرملة حادة وتوقفت أمام الرجال بشبر واحد.. وأطلق ماركس
سبة قبيحة لا تتناسب أبداً مع شيطان من عائلة محترمة..
رأيت نصف وجهه الذي لم يحترق يتقلص وهو يقول في ضيق:
ـ أبق في السيارة ولا تتدخل..
ـ من هؤلاء؟.. العائلة الكريمة؟..
قال وهو يفتح باب السيارة :
ـ ألا تذكرهم؟..
قالها وغادر السيارة وصفع الباب خلفه في عنف أحنقني.. هذه سيارتي أيها
الحيوان ليس من حقك أن تتعامل معها بهذه الطريقة.. ثم تذكرت انها هدديته
في الأصل فابتلعت حنقي.. لكن مهلاً..
أنا أذكر هذه الوجوه بالفعل..
هذان الشيخان هما الرفيق سيف والرفيق مراد!..
ولكم أن تخمنوا الشاب والفتاة..
أنهما الرفيق حسام والرفيقة سلمى التي اعتقدت يوماً أنها رائعة..
وأطلقت ضحكة منهكة وأنا أضرب مؤخرة رأسي بمسند المقعد عدة مرات..
لقد كنت محاطاً بشبكة حقيقية من الشياطين.. حتى الرفاق اتضح أنهم ليسوا كذلك..
وحمدت الله على أنهم تركوا لي أبي وأمي..
تذكرت صدقي التعس الذي راح ضحية لهذه الشبكة المقيتة.. فعلاً صدقي لا يصلح
لدور شيطان.. إنه أقرب لبقرة عجوز تنتظر سكين الجزار ليريحها من عناء الشيخوخة..
ولقد قرر أن ينحر نفسه ليريحها.
الأن لم يعد لدي ما أفعله سوى الجلوس والمراقبة..
مراقبة تلك المواجهة العجيبة بين عائلة ماركس الكريمة..
سمعت الذي كنت أظنه يوماً الرفيق سيف وهو يقول:
ـ لم نتفق على هذا يا ابن أبي...
لوح لهم ماركس بذراعه قائلاً :
ـ هناك سوء تفاهم.. أنا ما زلت عند اتفاقي معكم..
قال الرفيق مراد وهو يكور قبضته :
ـ لقد تعمدت إزاحتنا من المشروع..
الكل كان يعمل من أجل مشروع واحد منذ البداية.. إضلال الزبائن الحمقى من أمثالي..
لكن أحد هؤلاء الإخوة تسللت إليه آفة الطمع، ربما انتقلت إليه من خلال مخالطة للبشر..
أراد ماركس الاستحواذ على المشروع وحده..
كأنهم يتحدثون عن مشروع تخرج.. هذا العالم يشبهنا كثيراً في جوانب عديدة كما ترون..
ورأيت ماركس يتراجع قائلاً :
ـ هذه إهانة يا ابن أبي.. كيف يصل بكم الحقد على نجاحي إلى هذا الحد المنحط..
حاولت قرص فخذي في غير تصديق.. هذا ليس حلماً... هؤلاء أسرة لطيفة من الشياطين، تتبادل
الاتهامات فيما بينها، ويتحدثون بلباقة عن الانحطاط، وسوء الأخلاق الذي بدأ بعضهم ينحدر إليه..
ورأيت سلمى الرائعة وهي تشير ناحيتي:
ـ لقد كنا نشك منذ البداية في الطريقة التي تواجد بها الفاني الملحد هنا.. وأدى ذلك لصدامه
مع الفاني الساحر.. لم نبتلع كون ذلك من قبيل المصادفة.. لكننا تظاهرنا بالعكس للنهاية..
والآن لم يعد لدينا شك في أنك كنت تعمل لحسابك الشخصي.. يا للعار.. تريد
أن تلبس التاج وحدك..
لم أفهم سر ذلك التاج الذي تتكلم عنه.. لكنني خمنت أنه نوع من التقدير.. أو درجة علمية ما
.. كما يحصل أحدنا على شهادة دكتوراه في أحد العلوم مثلاً..
الحمقى لا يعرفون السبب الحقيقي وراء تلك المأساة العائلية..
لقد فررت إلى الريف بإرادتي، لكن قدر الله أن يكون تكليفي في كفور الصوالح دوناً عن
غيرها من القرى.. فقط لألتقي بعلوش هناك ويحدث الصدام ويقضي الله أمراً كان مفعولاً..
أنتم لا تديرون الكون وحدكم كما تظنون يا حمقى..
كان ماركس يتراجع للوراء أكثر.. يبدو أنه يفقد المزيد من ثقته بتراجعه هكذا أمامهم..
هنا تقدم الرفيق حسام ليحول بين إخوته الكبار وقد أوشكوا على الفتك بماركس..
ـ مهلاً يا أبناء أبي.. هذا أخينا أيضاً..
ـ ابتعد أيها الصغير..
قالها مراد بتوحش لكن حسام بدا عنيداً كالأطفال فعلاً، يبدو أن مراد قد ضغط على وتراً
حساساً في نفسه:
ـ أنا لا أسمح لك..
هنا فكرت.. ولما لا.. سأسدي لرفاق عمري معروفاً.. سأرد لهم بعض جمائلهم
التي أغرقتني..
قمت بإنزال زجاج النافذة المجاور، ثم أخرجت لهم رأسي عبرها قائلاً لهم في براءة :
ـ لحظة يا رفاق، فأنا لا أستطيع كتمان الشهادة.. أخيكم المبجل هذا حاول بالفعل
مراودتي كي نواصل مشروع اليوتوبيا بدونكم.. لكنني لم أكن لأقف هذا الموقف
المخزي الذي يفرق بين الإخوة وبعضهم البعض..
هنا التفت إلي ماركس في حدة..
أكاد أجزم أن عينه كانت ترمي بشرر حقيقي لا مجازي هنا.. وعلا زئير الإخوة كالنمور
المتوحشة التي تستعد للوثوب على فريستها.. سيشهد الطريق الزراعي معركة لا يمكن
تصورها بين تلكم الديناصورات.. لقد أدت عبارتي نفس دور عود الثقاب المشتعل
الذي يلقى على البنزين..
وصاح ماركس في غل :
ـ هل ستصدقون ذلك الأدمي؟!..
وقف حسام بجوار ماركس قائلاً :
ـ أنا لا أصدقه..
وتوهجت عيون بقية الإخوة كمصابيح النيون فرفع ماركس رأسه للسماء وأطلق
فحيحاً منذراً بالويل..
رباه.. فلنبتعد بالسيارة قبل أن...
السيارة تستجيب!.. مرحى لقد تخلى عنها ماركس أخيراً.. إنه يركز كل قدراته الآن
في مواجهة إخوته الغاضبين..
ـ أنتم فشلة ولا تطيقون رؤيتي أنجح وألبس التاج وحدي..
قالها ماركس في توحش فوثب به الرفيق سيف برشاقة لا تتناسب أبداً مع سنه..
وقبضت أصابعه على عنق الأول وهو يزأر..
لكن لسان ماركس غادر حنكه وقد استطال جداً ثم التف بسرعة وليونة حول قبضة أخيه
الرفيق سيف فتوهج الأخير كالشهاب وهو يعوي.. هنا وثب مراد لينقذ أخيه سيف قبل
أن يتفحم والتحم مع ماركس على حين وثبت سلمى فوق ظهر حسام وهي تطلق
صرخة حيوانية حادة.. احتدم الصراع بينهم فلم أعد أستطيع التمييز.. من الذي
أكل ذراع من، ومن الذي بقر بطن الأخر لتخرج منها ثعابين تفح وتلدغ الأخرين..
هذا يشبه صراع القطط الذي لا يمكنك ملاحقته ببصرك من فرط سرعته المذهلة..
فقط علي أن أبتعد قبل أن تبتلعني دوامة الصراع تلك..
هذا صراع جبابرة لا مكان فيه لبشري هش مثلي..
وانطلقت بالسيارة كالقذيفة منحرفاً عن الطريق الذي تدور فيه المعركة وكالبطة الرشيقة
وثبت السيارة فوق الحقول الناعسة على جانب الطريق.. لقد أفسدت فداناً بهدية
بابا ماركس قبل أن أطمئن إلى أنني ابتعدت عن ساحة العراك المدمر..
ثم عدت للطريق الممهد مرة أخرى وصدى المعركة الرهيبة مازال يدوي في أذني..
لم أجرؤ حتى على النظر في المرآة الخلفية لأرى نتيجة الصراع.. ترى هل هلك ماركس؟..
لا شك أنه قوي لكنهم كثرة..
يبدو أنني سأتخلص منك يا ماركس أخيراً.. وسأتخلص كذلك من شلة الأنس كلها..
هنا شعرت كأن صخرة عملاقة قد هوت على مؤخرة السيارة ..
كان موقفي الأن هو نفس موقف الفأر الذي داس أحدهم على ذيله ليمنعه من الفرار..
واستدرت لأرى وجه سلمى الذي لم يعد رائعاً يتطلع إلي من بين الزجاج الخلفي المهشم..

***

كان رأسي يدور بفعل الارتطام العنيف لكنني حاولت التماسك وأنا أقول لها في حنق :
ـ سلمى هذه السيارة التي دمرتها كانت هدية زواجي من أخيك..
أطلقت فحيحاً غاضباً وهي تعبر من بين الزجاج الخلفي المهشم لتستقر في المقعد الخلفي..
إنه المكان المفضل للشياطين فيما يبدو.. وسمعتها تصيح بتوحش :
ـ لقد مزق إخوتي بعضهم البعض بسببك..
ـ هذا خبر سار!..
قلتها وأنا أفتح باب السيارة وأثب إلى الخارج..
وبدأت أعدو هارباً بين الحقول..
لقد مر بي هذا المشهد من قبل.. لكن في المرة السابقة كنت أفر من كلب أسود بلا ظل..
الأن أفر من شيطانة كنت أظنها يوماً رفيقة كفاح في اليوتوبيا..
سأتحول إلى ألة للعدو لا يمكن لشياطين الأرض إيقافها و ...
هنا ظهرت أمامي فجأة فأطلقت صيحة رعب عاتية جعلتها تقهقه بتلك الطريقة
التي يجيدها الرعاع في الحانات..
ـ تعلم ألا تضيع الوقت في الهرب منا..
إنها كابوس كأخيها لا يمكن الخلاص منه.. الآن فقط أنا وهي وسط الحقول الممتدة
إلى ما لا نهاية..
لماذا لا يطلع الفجر ويخرج الفلاحون إلى حقولهم؟.. لماذا؟...
أهويت على الأرض وأغمضت عيناي حتى لا أرى العينان الجهنميتان من تلك الزاوية
المرعبة وانتظرت أن تأتي النهاية سريعة..
ـ ماذا تريدين مني؟..
انحنت علي وهي تبتسم في قسوة قائلة :
ـ لقد هلك جميع إخوتي الذكور.. هذا يعني أنني صرت الوريثة الوحيدة لمشروع العائلة..
لا .. لن نعود لهذا الملل.. قلت لها في غيظ:
ـ هذا المشروع شؤم لو أردت رأيي.. لو كنت مكانك لتنازلت عنه وبحثت عن أي عمل شريف ..
أطلقت فحيحاً ساخراً وهي تضرب على فخذها كالرعاع.. لقد تغيرت أخلاقك كثيراً يا سلمى..
أخيراً قالت بعد أن فرغت من الضحك :
ـ لقد كان أخانا الراحل أحمقاً حينما تصور أن موجة الإلحاد هي الموضة التي ستكتسح
العالم.. لكننا نعتقد أنها فورة مؤقتة.. نحن لسنا شياطين رجعيين كما تتصور..
إننا نعمل بنظام علمي دقيق.. لقد توصلنا إلى أن الجندي الذي يؤمن بعالم غيبي..
جنة ونار.. بصرف النظر عن الإله الذي يثيب بهذا ويعاقب بتلك.. ذلك الجندي
يختلف تماماً في ساحة العراك عن الجندي المادي الذي لا يعتقد في حياة أخرى..
إنه يتمسك بما يراه ويشمه ويلمسه.. ولن يفرط فيه لأنه لا يعتقد في وجود
عاقبة من وراءه.. والأول يمكنه أن يضحي بكل ذلك بكل سهولة.. طمعاً في حياة أخرى..
أفضل.. ألا ترى أن أشد الحروب إهلاكاً كانت الحروب الدينية.. وأن فكرة الإلحاد تضع
معتنقها أمام أسئلة شائكة بلا أجوبة.. وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار كما حدث
مع رفيقك العجوز صدقي..
هؤلاء لا يمزحون.. الإنسان فقط هو الذي يمزح ويستهتر بكل شيء.. قلت لها :
ـ بعد كل ما ذكرت من حقائق مفجعة لي كبشري أحمق فهل تتوقعين أن أقبل بالتعاون معك..
ينبغي أن أصير شيطاناً مثلك مهمتي أخذ أكبر قدر ممكن من الخلق معي إلى جهنم..
هذه الحياة لا تناسبني يا سلمى.. فأنا لم تصل حماقتي بعد لهذا المدى البعيد..
استندت بمرفقها على فخذها وهي تميل علي قائلة :
ـ هل تظن أنك معنا ستعمل بدون إيمان ووعد؟.. إننا نخدم إله النور الحقيقي.. جلاب الضياء..
أمير البهاء.. ملك العالم السفلي ومدبره.. هذا هو إلهنا ومبتغانا.. وقد وعدنا وعد الحق..
سندخل ملكوته النوراني الأبدي.. سنفنى في ذاته العلية..
هنا لم أتمالك نفسي فأرسلت ضحكة مشروخة جعلتها تتراجع في حنق..
قلت لها موضحاً:
ـ كنت أظنكم شياطين درجة أولى.. واضح أنكم حمقى كأتباعكم من بني البشر .. حمقى ومستغلون
من قبل أبيكم الكبير جلاب المصائب هذا..
صاحت وعينيها تتوهجان :
ـ تأدب أيها الفاني مع جلاب الضياء..
عضضت شفتي في قهر قائلاً :
ـ لو أردت رأيي هذه هي نتيجة تربية أخيكم المبجل ماركس.. كما أن أبيكم جلاب الهنا
هذا لم يحسن تربيتكم أيضاً.. لقد مزقتم بعضكم بعضاً من أجل بشري فان..
ـ كفى!..
قالتها في حدة وهي تنتفض غضباً.. ثم إنها أطلقت زفرة حارة وهي تمرر أناملها بين
خصلات شعرها الثائر بعصبية كأنها تريد أن تبدو أرق وأهدأ..
ـ لا تريد أن تعمل مع سلمى الجميلة؟..
قالتها هي تبتسم بتلك الطريقة التي كانت تسحرني قديماً..
لقد سيطرت على مشاعرها في لحظات سريعة بطريقة تحسد عليها.. إنها لمتمكنة..
لكن الأن وهنا.. هذه هي الدعابة التي لا تضحك أحداً يا سلمى..
قلت لها في بغض :
ـ فاطمة كانت أجمل وأطهر وأبهى منك..
ازداد توهج عيناها وبدأت حنجرتها تصدر أصواتاً ببرية خافتة..
ـ كيف تجرؤ على الرفض أيها الفاني؟.. أنت لا تتصور ما الذي يمكنني أن أفعله بك الآن..
الرفض يؤلم مشاعرهم حقاً.. كأني أرفض الزواج منها لا سمح الله.. نظرت إليها من
أسفل في قسوة وحاولت أن تكون كلماتي أشد قسوة :
ـ لأنكم لم تستوعبوا الدرس بعد.. لقد صرت حراً يا ابنة الجحيم.. ولا يهمني ما ستفعلينه بي..
لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها..
قالت وهي تعتدل قائمة:
ـ يمكن للشاة أن تتضرر كثيراً قبل أن تذبح..
هنا تلاشى الحقل من حولنا ووجدتني ممدداً بجوار فراش فاطمة حيث تركتها تنزف..
لقد حدث هذا الانتقال بطريقة شيطانية لا شك فيها.. فأنا لست (مسطولاً).
ـ هذه هي فتاتك الرقيقة التي تنزف بلا سبب..
نظرت في جنون إلى سلمى التي وقفت بجواري واضعة كفيها في خاصرتها وهي
ترمق ببرود فاطمة في فراشها..
ـ لن تمسيها بسوء..
هزت كتفيها وقالت كأنها لا تسمعني :
ـ في الحقيقة كان هناك سبب لنزفها.. إنه تخصصي..
في اللحظة التالية رأيت جسد فاطمة يرتفع في الهواء بثيابها الهفهافة البيضاء، وعينيها
مغمضتين فبدت لي كشبح أبيض رقيق يسبح في الفراغ..
شبح أبيض رقيق يقطر دماً!..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس