منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - رواية قنابل الثقوب السوداء أو أبواق إسرافيل.كتارا
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-21-2020, 04:50 PM   #23
إبراهيم امين مؤمن
( كاتب )

افتراضي


ماذا اخترتَ؟
ردَّ فهمانُ بثقة..أريد الحصول على بكاليوريوس في العلوم الفيزيائيّة ، ثُمّ أردفَ ..وقدْ حددتُ لك المطلوب مِن الإجراءات كي التحقَ بالجامعة هناك .
-أيّ جامعة اخترت؟
-جامعة بيركلي بكاليفورنيا.
-ألم تكن هذه الجامعة التي حفظها الله من البركان بمعجزة ؟
-هي يا أبتِ حفظك الله ورعاكَ .
-صمت فطين متأملًا في ابنه وتفرّس شيئًا قاله في نفسه ..لعلّ الله حفظها من أجلك يا ولدي ، ثمّ سأله ..متى تنوي السفر ؟
-بمجرد الانتهاء من الأوراق اللازمة سأسافر فورًا ، خلال ستة أشهر على الأكثر أكون في بيركلي .
-تمام ..أعدّ أوراق سفرك وتوكّلْ على الله .
-أعددتها أبتِ..وبمجرد الموافقة على ابتعاثي وحصولي على خطابِ قبول جامعة كاليفورنيا وحصولي على نموذج i-20 المسمى بشهادة التأهيل الصادر منها عبر البريد السريع سأحصلُ على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة مباشرة f-1 مِن القنصليّة الأمريكيّة بالقاهرة ، وبعدها أعدُّ حقائبَ السفر مودِعًا إيّاك يا أبتِ.
-وما المسار بالضبط حال نزولك أرض الأمريكان ؟
-ساتصل بالملحقيّة المصريّة بواشنطن ، وبعدها اتّجه مباشرة إلى كاليفورنيا جامعة بيركلي ، وهناك سيأخذوني إلى حجرتي بالسكن الجامعيّ الخاص بها.
-كيف ؟ ألَا تحتاج إلى إبرام عقد خاص بالسكن الجامعيّ ؟ أمْ ستنزل في غرفة إيجار خاصة أولاً ؟
-أنا أحجز مِن مصر أبتِ ، وعندما أذهب إلى هناك أكون على علم بمنزلي الجامعيِّ لديهم .
-الحمد لله ..يطيبُ المنزل إن شاء الله.
فراق ووصايا في جذر الرجال
الفراق..
أعدَّ فهمان أوراق سفره استعدادًا للرحيل في الصباح ، والآن الليل هو محطة انتظار لحين فلْق الحبّة .
هاتف فطينُ الطبيبَ مؤيدًا ليأتيه على وجه السرعة ، فلمّا أتاه أخبره أنّ فهمان سيسافر في الفجر متّجهًا إلى أمريكا مِن أجل استكمال دراسته .
-بالتوفيق إن شاء الله ..
-بوجّهٍ كالحٍ قال ..صديقي الحميم لمْ يكن لفهمان أحدٌ غيرالله وسواي ، ولو حدث لي شيئًا فسيضيع ، ولن يستطيع استكمال دراسته بالخارج .
-ردَّ مؤيد مطمئنًا ..فطين الإشارة خضراء على الدوام مِن اتحاد المقاومة للسير إليك والوقوف بجانبك وتلبية كلَّ رغباتك مهما كان الثمن .
صمت فطين لحظات وفجأة أجهش بالبكاء وظلَّ يبكي حتى وصل إلى حدِّ الخنين ، وبدأ صوت خنينه يرتفع مع رعدة تصيب الجسد ، وفهمان يسمع صوت نحيب أبيه من داخل غرفته فيبكي ويزداد بكاءً ببكاء أبيه ، خرج فهمانُ مسرعًا من غرفته واقتحم مجلسهما ، ثمّ قذف حضنه في حضن أبيه ، وقال بصوت متهدّج من البكاء ..لن أسافر، لن أسافر أبتِ ، لن أتركك.
أبعده فطين عن حضنه قليلاً ثمّ مسح دموع عينيه بيده اليمنى ، وربت بعدها على شعره وقال ..لابدَّ أن تسافر بني ، مصر في حاجة إليكَ ، لابدَّ أن نضحّي مِن أجل تراب بلدنا ،سافرْ.. سافرْ ..وإن أردتَ أن تخفّفَ عنّي ما أجده فكنْ عند حسن ظنّي بك ، وأرني وهذا العالم من هو فهمان فطين المصريّ .
بكى مؤيد لهذا المشهد الساخن المفعم بالحرارة ، أشدّ ما تأثّر به مؤيد هو كلمة فطين لولده "لابدّ أن نضحّى من أجل تراب بلدنا ".
نظرَ مؤيد إلى فطين وقال له متأثرًا..اطمئنْ تمامًا ولا تخشَ فنحن أيضًا أهله ، ألم ترَ رأسك ؟ ألم تدرِِ أنَّ الدّم المصريّّ والفلسطينيّ دمٌّ واحدٌ ! توكّلْ على الله وسفّر ابنك واعلمْ أنّي أتكلم ب ..اقتربَ إلى أذنه وهمسَ قائلاً ..بلسان اتحاد المقاومة .
ثُمّ استاذن ورحل مؤيد .
-نظر فهمان لأبيه وقال..لِم لا تسافر معي؟
-أسافر! ومَنْ ينفق عليك؟
سافرْ أنت مع السلامة ، وتعلّمْ واخدمْ وطنك ..سيأتي يومٌ ياولدي وستحتاج مصر إليك ، هذا اليوم ستجد فيه من يحمل هذه البلد ويقيم دعائم العدل فيها ويستعين بك وبالعلماء للعودة مجددًا إلى القمّة التي فقدناها منذ قرون .
سنتقلّد القممَ يومًا ، ونطفو مِن لُجج الأنهار طفْو النجاة لا طفو الغرقى كما هو الحال اليوم ، فطفو الغرقى خاص بالمنافقين يا ولدي .
اذهبْ ..اذهبْ ونِمْ الآن حتى تستطيع أن تسافر.
مرّت الساعات حتى أذّن الفجر الآذان الأخير الذي فيه يفترق الحِبّان .
لمْ يناما ، كانت ساعات الانتظار تحرقُ الأكباد قبل القلوب ، حتى جاءتْ لحظة الخلاص ، رغم أنها الضربة القاضيّة إلَا أنّها سوف تريح القلوب والأكباد من جلدات الانتظار .
أذّن الفجر مُرسلاً بين ثناياه رُسلَ الرحيل ، وتنفّسَ الصبّح لهيبًا في قلبيهما ، وأرسل سطوعه أضواءً تضئ لفهمان دروب الرحيل .

على أبواب المطار...
حمل فطين حقائب ابنه وأستقلّا سيارة قاصدين المطار .
وهناك ولّى عهد الكلام باللسان ، تكلّمتْ العيون فقط ، ترسل كلماتها دموعًا ساخنة ، وانكتمتْ الأنفاس في فضاء الرحيل .
على أبواب المطار سقطتْ لاسته فشعر أنّ رأسه قُطعتْ مرّة أخرى ، وفقدَ عصاه التي يتوكأُ عليها فشعر عندها وما كذبه قلبه قبل ذلك بأنّه الوداع الأخير .
على أبواب المطار تستعد الطائرة لتقلع به وبالركاب متّجهة إلى بيركلي التي حفظها الله من البركان .
قال فهمان بعينيه ..سأفتقدك يا أبتِ ..
ردّ فطين بعينيه..وأنا كذلك يا ولدي يحفظك الله من كلِّ شياطين الأنس والجنّ .
وحلقت الطائرة في الجوّ وفطين يرمقها بعينين زائغتين ، بينما يده اليمنى ما زال يحركها مودعًا إياه .
ولجَ فطين الحيّ فقابله أحد الأهالي وسأله عن لاسته المزركشة ، تحسّس فطين رأسه فوجده حاسرة ، ثمّ عاود وسأله عن عصاه فنظر في كلتا يديه وتذكّر أنّه فقدها في المطار ، تركه فطين ولم يجبْه بشيء ، ولجَ حجرة ولده يرفلُ في ثيابه فأمسكها مسمارٌ في الباب فمزّقها .
تسارعتْ دقّات قلبه حتى أغلقتْ أنفاسه كأنّه في حشرجة النزع الأخير من الموت ، ركض ساعات فتململَ كالمريض .
تحامل على نفسه وقام ليطفئ نار الفراق بصبّ الماء على أعضاء جسده ، فتوضأ وصلّى ودعا الله أن يثبّته على هذا الأمر الذي لا طاقة له به.
ثمّ رقد في مصلّاه وظلّ نائماً أكثر من اثني عشر ساعة .

الجزء الحادي عشر
غرفة ببيركلي تتوّج جبين الجامعة شرفًا وعزّة إلى الأبد ..
طارتْ طائرة الرحيل إلى أمريكا ، وبمجرد هبوطها توجّه فهمان إلى إدارة الهجرة والجوازات بالمطار بأوراق الالتحاق وتأشيرة الدخول إلى مسئول الجمارك وحمايّة الحدود ليختم له تاريخ الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة .
اتصل فهمان بالملحقيّة الثقافيّة المصريّة في واشنطن لتسوية الشئون الماليّة الخاصة بدراسته ومعرفة كلِّ الأمور المتعلقة بوحدات الدراسة ، وكذلك لمعرفة الأمور الخاصة بالمدينة السكنيّة التي سيقيم بها .
بعدها ركب إحدى السيّارات الهجينة إلى كاليفورنيا قاصدًا جامعة بيركلي ، وبمجرد نزوله أرض الجامعة اصطحبه أحدُ إدارىّ الجامعة إلى سكنه بالمدينة الجامعيّة الخاصة بها .
كانت المدن الجامعيّة في أمريكا مخفّضة نسبيًا في العقود السالفة ، ومع توافد الكثير مِن الطلبة إلى جامعات أمريكا وتزاحُم ولاياتها إلى حدٍّ أصبح مِن غير المعقول قبول أجناس عربيّة أو أسيويّة ، بدا هذا الدعم النسبيِّ يقلُ تدريجيًا حتى انعدم تقريبًا ، حتى أنّنا لا نكاد نرى فرْقًا كبيرًا بين تكاليف منزل في فندق كبير وغرفة في المدينة الجامعيّة .
وكانت حجرة فهمان التي اتّفقَ عليها مُسبقًا مِن مصر فسيحة نسبيًا ، تحتوي على سريرين ، ونظرًا للتكاليف السكنيّة الباهظة آنذاك فقد آثر أن تكون مشتركة لرفع نصف التكاليف عن أبيه .
وقد سبقه إليها جاك ، فقد اختارها مِن قبْله .
أقدم عليه فهمان ، وما إن نظرَ إليه حتى شعر بشيء يربطه به ، شيء يصله به أشبه بحبل المشيمة السري ، فصافحه مغتبطًا .
*وفى اللحظة التي صافح فيها فهمانُ جاكَ كان أبوه ما زال نائمًا في مصلّاه لم يستيقظ بعد ، انفرجت أساريره وتبسّم بسمة وهو نائم .
صافحه وتعمّد فهمان عندها ارتطام يده بيده بقوّة أثناء المصافحة ، اكتنفه الذهول فقد شعر ببرد يده في قلبه.
شعر بقوة قبضة يده وهكذا كان أبوه ، لمْ يلحظ أيّ اهتزازٍ في جسده فهو ثابت كالمسمار وهكذا كان أبوه .
ابتسامته عريضة صادقة وهكذا كان أبوه ، فتمنّى عندئذ أن يكون هذا الفتى كلّ أهله بعد أبيه .
لمْ يتركْ فهمان هذا الشعور الرائع يمرُّ عليه مرَّ الكرام ، حدّقه ، تفحّصه بنظرة عميقة ، وأوغل في نفسه يريد أن يتفحّص أعماقه وهو ما زال يصافحه لم يتركْ يده بعد .
قسمات وجهه تأخذ مِن كلِّ ملامح أهل الأرض ، لمْ يكن أحمر ولا أصفر، كما لم يكن أبيض ولا أسود فقد اجتمع في لون بشرته خليط مِن كلِّ هذه الألوان ، وإن كان يغلب عليه اللون الاصفر، وكأنّ ملامحه تشير أنّ كلَّ ألوان أجناس البشر هي كلُّها كلُّها أوطانه ، وصدقت فراسة فهمان فهي بالفعل نظرة جاك للعالم .
عيناه حادتا البصر كالصقر ، واسعتان ، عريض المنكبين ، مفتول العضلات ، ممتلئ الصدر إلى حدٍّ ما ، غزير الشعر في اليدين ممّا ينمُّ أنّه غزير كذلك في الصدر .
لا بالطويل ولا بالقصير وإن كان للطول أقرب .
هدوؤه وابتسامته الخفيفة تدلّ عن شاب يتسم بالمودة والعطاء .
أكثر مِن دقيقة وهو ما زال ممسكًا بيده فلم يسحبها ولم ينبسْ بكلمة ، ولقد توغّل أيضًا جاك في أعماق فهمان فوجد فيه النبوغ والتضحية والعطاء .
فلمّا طال بهما الأمر سحب كلٌّ يده .
وعزما على التعارف وبدأ فهمان بالكلام..
-أنا فهمان فطين المصريّ ، أودّ دراسة العلوم الفيزيائيّة .
-وأنا جاك ، سكت هنيهة ثمّ أعاد وزاد ..جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة .
-أيّ مواد دراسيّة سوف تسجّلها .
-علوم فيزيائيّة .
-جيد جدًا .
-بالطبع كما وصفت ..وأرجو أن نتعاون معًا ما دامت ميولنا واحدة .
-وأنا كذلك ، أنا سعيد بزملاتك جاك ، ثمّ تمتمَ على استحياء..ماذا تعني جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة ؟
-ألم يكن فهمان المصريّ هو ابن الفراعنة؟.
تثاءب جاك رغبة منه في إنهاء هذا الحديث ، وكان هناك سريران فخيّره قائلاً..أىّ السريريْن تحبُّ ؟
ركضا..بيد أنّ عينا فهمان لم تناما ..يفكّر في أبيه ماذا يفعل بعده ، كما يفكّر في هذا المهيب الذي يرقد على السرير الآخر.
سأله فهمان مجددًا..هل يسكن أبوك هنا في كاليفورنيا؟
-مات.
-رحمه الله ..وأمُّك ؟
-ماتت.
-رحمها الله.
-هل لك أقارب؟
-أمريكا ..
-وهل ال.....
لم يكملْ السؤال حيث سمع له صوت الغطيط ، فنظر فوجده يغطُّ في نومٍ عميق.
كابوس فهمان ..
رقدا ، ولم تجمع الحجرة جسديهما فحسب ، بل جمعت روحيهما من خلال كابوسين ظهر في ملامحهما تكليفًا برسالتين .
ورقدا أول نومة ، ورأيا عُجاباً .
أمّا فهمان فقد كان كابوسه مخيفًا .
رأى روحه بعد ثلاثة عشر عامًا من مستقبله تعبر سمًا كسمّ الخياط ، ثمّ طُرحت على طاولة ناريّة فخشي أن تحترق ، فضج صارخًا يستغيث ، فجاءته مخلوقات تبدو عليها علامات التقوى فأمنته وأسكنته ، بعدها ببضع سنوات ألقوا عليه نورًا لم يره من قبل فنهض وقام من مرضه ، ثمّ رأى آلهة كاذبة تستعبد البشر فتمنى عندها الموت فصرخ وخرّ ساجدًا .
كابوس جاك ...
وفي نفس التوقيت يحلم جاك بكابوسٍ هو الآخر .

 

إبراهيم امين مؤمن غير متصل   رد مع اقتباس