منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - بعد سنة من موتي, عُدت
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-14-2012, 12:28 AM   #1
سُلاف
( كاتبة )

الصورة الرمزية سُلاف

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 0

سُلاف غير متواجد حاليا

افتراضي بعد سنة من موتي, عُدت


بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

“من المخزي ان نكتب، لنتأكد ان شيئًا فينا لا يزال حيًا، معاشر الهالكين، لكني ساكتب”
مر عام منذ وفاتي،

هل مِت حقًا؟ اتسائل بيني و بين نفسي و انا استعد للخروج من تابوتي، لأصعد من تحت التراب لأرض الأحياء،

:هل انتي مستعدة لتحطيم عرشك؟ اسئل نفسي و اراجعها، لعله لا يكسر هذا العرش، او لا يُزال، لعلي ان انا حطمته يسقط علي فاهلك أو… تمر لحظات قبل ان اقرر نفي لائح الجُبن عني : تبًا لك، قيدتني يوم كنتُ حية، و الان تقيدني بعد ان اموت! ماذا بقي للميت ليخسره؟ و مما يخاف و ما بقي للخوف حيلةٌ معه، افبعد الموت خوف؟

ثم اوجه بضع ضربات ضعيفة من يد مرتخية لتابوتي فأكسر جزءًا منه يكفي لخروج ما بقي من جسدي النحيل، تحطم بسرعة هذا العرش، ككل العروش اصعب مراحل خلعها هي ان تقرر خلعها، و بعدها كل شيء هين و كل مصاب جلل! احشر نفسي في الفتحة التي صنعتها، ثم بصعوبة اصعد لأعلى و ببطئ، لو كان لي ما للبشر لأختنقت قبل ان اصل، لكني لا اتنفس..

ها قد وصلت، اخر حدود القبر و اخر حد للظلمة، نهاية حِمى الاموات، اخرج يدي اليمنى اولاً، بكل معروف و جميل ابدأ باليمين و نفض الموت عنك، جميل؟ أشعر بدفء يطرد البروده عنها، دفء افتقدته منذ مِت، دفء حضن امي و لمسة ابي، دفء الكلمات و النظرات، دفء الشمس تداعب جسدي الصغير يوم كنت طفلة، لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي…

أخرج اختها اليسرى بعدها فأشعر بنسيم حاني يداعبها و يبعد بقايا التراب عنها، كأنه افتقدها او انه يحييها، كصديق مخلص لقي صديقه بعد فراق، اذكره، اذكره هذا النسيم، اذكره يحرك ملابسنا التي غسلتها امي، التي كنت العب حولها لعبة الاختباء مع اخي، اذكر النسيم يلاعب شعري، اذكره يسرق مني اوراقي، ينفضها بعيدًا عني فاتبعه و اتبعها كأنه يلعب معي، لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي…

اخرج رأسي و جزءًا من جسدي الآن، فتحيني الشمس و الرياح معًا، ثم يغمرني الضوء لا على استحياء، بشوق و اخلاص يريني العالم الذي افتقدته و ما فقدني، يريني شاهد قبري و ما كتب عليه، اقرأ تاريخ موتي و تاريخ ميلادي، مِت صغيرة كما تمنيت… ثم اشعر بشعور غادرني منذ سنة ثم عاد، شعور جعلني اقدم على ما فعلت، بحقهم و بحقي، الحزن، لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي…

اخرج بقية جسمي و اسير، لا على هدى في المقبرة، و من بعيد المح جنازةً و قبرًا لم يدفن بعد فاقترب، اناسٌ يبكون و امراة لا تكاد تقف على قدميها، لعلها الام، من يفقدنا و يبكي لفراقنا مثل الام؟ اقرأ شاهد القبر و المح اسمه و عمره، طفل صغير قد مات، و اسئل نفسي هل سيعود بعد سنة من ارض الاموات، ليكمل بقية عمره الذي خسره مثلي؟ لا ادري، انتبه الآن فقط، ان احدًا لم ينظر لي او يلاحظني، ملابسي المهلهلة و قدماي الحافتيان لم تحظيا بنظره استهجان واحده او استغراب من احد، ثم ابتسم ساخرةً من نفسي، هل كان احد يراني يوم كنتُ حية، كي يراني و قد مِت؟ اتركهم لبكائهم و رثائهم، و اكمل طريقي خارج المقبرة،

اسير بشوارع مدينتي العتيده، كما كنت اسير قبل سنة، بوجه بارد و ثياب مهلهلة دون ان يراني احد، اتجه للمقهى الذي كنت اجلس فيه بالساعات اقرأ و اراقب الناس بهدوء، دون ان اطلب شيئًا سوى كأس من الماء، الأمر الذي كان يغضب مالك المقهى كثيرًا و يجعله يرفض استقبالي احيانًا، ربما لهذا لم يحضر جنازتي،

انظر الوجوه التي بالمقهى، هي هي لم تتغير، لم يتغير شيء بها، و المقهى لا يزال على حاله، كأني مِت أمس، طاولتي المفضلة لا احد يجلس عليها، كأنها كانت تعلم بقدومي فانتظرني او كأنها اعلنت الحداد عليّ فرفضت استقبال سواي، اتجه اليها بشيء من الحنين و قبل ان اجلس يخترقني شخصان و يجلسان عليها، نسيت اني اصبحت شبحًا،

اترك المقهى و اتجه للحديقة التي كنت اراه دومًا بها، اذكر بكائه بجنازتي، و اذكر ابي يربت على كتفه و يواسيه ، كأن ابي لم يحرمني الزواج منه قبل سنة و لم يطرده من بيتنا، الأحزان و المآسي، دوما تقرب الناس، اكثر مما قد تفعل اي حملة وطنية للتوافق ، و اكثر مما قد تفعله مؤتمرات حوار الأديان، لا شك انه حول النافورة القديمة يقرأ ، ربما لا يزال حزينًا عليّ، او لعله يريد ترك المدينة محاولاً ان ينساني، ليتني استطيع ان اكلمه او اظهر له بحلم و اطلب منه ان ينساني، لا احب ان اراه حزينًا،،

اقترب من النافوره الكبيره و المح طيفه من بعيد، اناديه كما لو انه سيسمع و انتظره ان يلتفت بابتسامة كبيره، كما كان يفعل قبل سنة، نسيت اني مُت و اني شبح الآن، قميصه الاسود، الا يزال يرتديه؟ نادرًا ما كان يشتري ثيابًا جديدة، فقره يجبره ان يكون مهلهلاً على الدوام، و ابي رفضه لفقره، ربما خوفًا من ان اصبح “مهلهلة” مثله، و قد كانت ملابسي اكثر رثاثة من ثيابه، لا من فقر

المح شخصًا اخر بقربه، لعله صديقٌ له يواسيه على مصابه بموتي، او يمدح قصيدة كتبها رثاءً لي، لطالما قال لي اني مصدر الهامه الوحيد، و حتى بعد موتي لا يجب لهذا الالهام ان ينقطع، اقترب اكثر منه حتى اقف مقابله و هو لا يدري،صديقه ليس هنا، و هو لا يبكي، بل يضحك مع امراة غيري و يهديها وردة حمراء، كتلك التي وضعها فوق قبري، لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي،

ثم اسمعه يلقي على مسامعها قصيدة نظمها بها، و اراها تجلس بمكاني و تبتسم بخجل مثلما كنت افعل، اجمل مني هي، لطالما كانت اجمل مني، و لطالما كانت تنظر الينا من بعيد، تنظر اليه من بعيد، ثم مِت أنا و خلي المقعد، فكان لها، وسط حزني استغرب، الم اكن قبل دقائق اريد ان اكلمه و اطلب منه ان ينسى، لأني لا احب حزنه، لأن حزنه يجعلني أحزن؟ فما لحالي انقلب الان، و قد قام بطلبي قبل ان اطلبه؟، غريبٌ هو الانسان و غريبةٌ هي نفسه، حيًا كان او ميتًا، اخطي خطوات متثاقلة بعيدًا عنهما و أصوات ضحكهما معًا تودعني, او تطردني بعيدًا عنهما فلم يعد لي مكان هنا، و اتجه لمكان سيظل دومًا مكاني، مهما فعلت، بيتي

أراجع ذكرياتي معه بطريقي وسط ازقة مدينتي القديمة معه، اتذكر كلماته لي و وعوده التي قطعها عليّ ان لا يكون قلبه لسواي، اذكره يتوسل والده العجوز كي يخطبني، مجددًا، من ابي الذي كان يطرده شر طردة كل مرة، عرفت الآن لم تخرج المرأة خاسرة دومًا من اي قصة حُب لا يكتب لها الاستمرار، أيًا كانت تفاصيلها و أحداثها، عرفت لم قُيدت عاطفة الحُب بقيد من الشريعة مالم يشهد عليها عقد و شهود و مأذون، و ليتني كنت اعرف قبل الآن…احزن كما حزنت قبل سنة، ثم اشعر بشيء بارد، قطرة ماء على خدي، ثم اسئل نفسي هل بكيت؟ و هل يبكي الاموات! تلي تلك القطرة قطرات اُخر كُثر لا على خدي وحده بل على جسدي كله فتغمرني، قد امطرت السماء، و وسط المطر اقف وحدي، كعادتي، اشعر بالبرد يخترق جسدي الرمادي ليصل لعظامي المهترئة، اشعر به يكاد يجمدني، و اتذكر ايام طفولتي عندما كنت اركض و العب تحت المطر، فيتبعني اخي الاكبر ليدخلني للبيت و يغلق الباب عليّ كي لا اخرج، ليته هنا و ليته يراني، البرد ينهش عظامي و لا احد هنا يفتح لي الباب و يدخلني، ليته يغلق الباب عليّ مجددًا و مرة اخيرة, فلا اخرج من بيتي، لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي،

اتابع سيري و سط الازقة و المطر ينهمر، كأن السماء تبكي عني او كأنها تذرف دموعها بدلاً عن دموع فقدتها، انظر لملصق قديم على الجدار، كان موجودًا هنا قبل سنة، ملصق لمسابقة افضل خاطرة، اردت الاشتراك بها و كتبت نصًا كان له ان يفوز، لولا انه لم يُرسل ابدًا، اتسائل من فاز بتلك المسابقة؟ شخص سواي، هذا اكيد.

اصل لبيتي و اقف امامه، انظر الباب المغلق امامي، ليته يُقتح لي مجددًا كما كان يفعل، قريبًا من الباب رسومات رسمتها على الحائط عندما كنت طفلة، رسمت شمسًا كالتي ادفئتني هذا الصباح، و غيومًا كالتي تبكي الان، لكني نسيت رسم الرياح، او لعلي رسمتها بحبرِ لا يُرى، فالرياح لا ترى، غريبٌ اني اتفحص هذه الرسومات الآن و اخشى عليها الزوال من دموع السماء، و لم اكن الاحظها ابدًا بعد ان كبرت، قبل سنة، و انظر للنوافذ، كل نافذه من هذه النوافذ كانت لي قصة معها، او كانت لها قصةٌ معي، من نافذه المطبخ كنت اهرب للشارع يوم كنت صغيرة، و بعد ان كبرت، من نافذه غرفة امي و ابي، و عندما كنت انام عندهما، كنت ارى الغول الكبير ينظر اليّ، الذي هربت منه اليهما، كنت طفلة، و من نافذتي كنت انتظره و انظر اليه كل مساء،

نافذتي! ارى ضوءًا يخرج منها، من تراه يقضي الليل بغرفتي الآن؟ لعله، لعله صاحبها الجديد، هنيئًا له بها،كأن الباب يواسيني على فقدان غرفتي، قد فُتح!

فُتح و خرجت منه خادمتنا العجوز، مالذي تفعله خارجًا تحت المطر؟ لا يهم فلأدخل الآن قبل ان يغلق، اشعر بالدفء مجددًا، اشعر انني بالبيت مجددًا، ابحث عنهم، و اتجه نحو غرفة المعيشة، لا احد بها سوى ابي الكهل، فنجانه امامه و جريدته بيده، كما كان يفعل بهذا الوقت قبل سنة، كأني لم امت، لكنه لا يقرأ، يخبئ وجهه خلف الجريدة و يبكي، انظر تاريخ اليوم، اليوم ذكرى وفاتي، فوقه ارى صورةً لي معلقةً على الحائط، مكان الساعة القديمة، صورة لي تعلو احدى جوانبها شريطة سوداء، دلالةٌ على الحزنُ ربما او على الحداد، ان كنت قد مُت فما فائدة وضع شريطة سوداء على صوري؟ تذكيرًا لهم اني مِت او تذكيرًا لهم ان يحزنوا؟ حتى لو كانت تذكيرًا لهم بوجوب الحزن، فلن تنفع كثيرًا، سيعتادون غيابي ثم لا يحزنوا، رغم كل الشرائط السوداء، لكني، لكني اشتقت لأبي، اذكره يوم كنت طفلة، كيف كان يحملني كلما طلبت منه ان يفعل، رغم ان عظام ظهره تشكو من مرض مزمن، و هو لا يكاد يطيق حمل شيء ثقيل بيده او بظهره، كان يريد ان يجبر بخاطري يوم كنت طفلة، فلم كسره، بعد ان كبرت؟

اتركه كما كنت افعل و اتجه لغرفتي، بقلب مكسور، من تراه اخذها الآن؟ و اين اصبحت كتبي، و ملابسي، و رسائله لي، اخر شخص كنت اذكره قبل ان انام، باب الغرفة نصف مفتوح، و اسمع صوت نحيب، صوتًا اعرفه جيدًا، صوت أمي، لا تزال الغرفة كما هي ، كأني تركتها بالامس، ملابسي المرمية على السرير لا تزال بمكانها، و منضدتي لا تزال على حالها، غير ان الغرفة نظيفة تمامًا من اي ذرة غبار، كما لو ان سنة لم تمر منذ تركي لها، لا شك ان امي كانت تنظفها و تبكي بها عليّ كما تفعل الآن، اقف خلفها و انظر اليها، الى الشخص الذي يبكيني الآن، اكثر شخصٌ اذيته بموتي، و الشخص الذي اخذت جُزءًا منه لقبري، احاول ان اتذكر، لكن سيل الذكريات، عني و عنها، يمنعني ان انفرد بذكرى واحدة، ثم اتذكر، اتذكرها يوم كنت طفلة، يوم كانت تغني لي قبل ان انام، يوم كانت تدرسني، اذكرها يوم كانت تصفف لي شعري، و تؤنبني اذًا وسخت ثيابي، اقف خلفها بخجل كبير، قد احزنتها كما لم يفعل غيري، اشعر برغبة فيّ اكبتها، رغبة ان اعانقها فاخفف شيئًا من شوقي لها، لكنها لن تشعر بعناقي لها و ستستمر بالبكاء، و انا لا استحق عناقها، اماه لو كان لي ما للبشر لبكيت، لكني لا ابكي!

يدخل ابي فجأة الغرفة، و دون كلام، يجلس بجانبها و يبكي معها، كأن عزائي كان بالأمس، لا يزالان يشتاقان، ليتني لم امت، اقولها بيني و بين نفسي، فقط كي اوقف سيل دموعهما، و امحي حزنهما، الحزن الذي كنت اشعر به، الذي اردت التحرر منه يوم قررت ان اقتل نفسي، نقلته اضعافًا مضاعفة لمن احبني حقًا، و اسكنته قلبيهما، لعل موتي،

لعل موتي لم يكن عقابًا كافيًا لي، لهذا عُدت بعد سنة طيفًا، شبحًا لا يُرى، لأتجول في احياء مدينتي و انظر بعينيّ كيف ان الحياة استمرت بدوني كما لو اني لم اكن، و اني بمقياس الحياة لا شيء، لأنظر لمن احببتهم حقًا كيف رموا ذكراي خارج ذاكرتهم و انصرفوا كما لو انهم لم يعرفوني يومًا، كما لو ان اليوم ليس ذكرى موتي , و انظر لمن احبوني حقًا كيف اصبح حالهم في كمد من بعدي كما لو ان كل يوم ذكرى موتي، كأنهم ما عرفوا سواي، لعل لبوث الاموات في قبورهم رحمةٌ لهم، رحمةٌ لم انلها انا، في هذا اليوم، بعد سنة من موتي، لا ازال اريد ان اموت،اريد ان اعود لقبري، و اهرب من الحزن الذي يحاصرني كما فعلت قبل سنة، لكن سبيل الموت حيل بيني و بينها, و كيف اقتل نفسي و قد مِت؟

بعد سنة، في هذا اليوم، في غرفتي و امامهما و هم يبكيان، لا ازال شبحًا لا يُرى…

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

 

التوقيع

مدونتي،
الحمد لله

سُلاف غير متصل   رد مع اقتباس