منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - دوائر - رواية -
الموضوع: دوائر - رواية -
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2013, 05:35 PM   #5
علي آل علي
( كاتب )

الصورة الرمزية علي آل علي

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 22

علي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعةعلي آل علي واحد الرائعة

افتراضي



استيقظت في ذلك العزاء، أرى نفسي صغيراً، لأربع سنين تقريباً، أرى حولي أناساً، أرى الأوجه باكية، تأتيني تلك المرأة، فتقول لي : يا بني تعال إلى أمك.
فعلمت أنها أمي، ذهبت إليها، سألتها: ما بالك أماه، ولماذا البكاء، قالت: يا بني إن والدك انتقل إلى رحمة الله.
دهشتي حينها ، شعرت بذلك الشعور ، وكأنني ابن المتوفى فعلاً.
سألتها: أين الأخوة لا أرى إلا أنتِ !؟
فقالت: لا يوجد لك أخوة أنت وحيدنا أيها الغالي ما بالك ألا تعلم هذا ؟ أم أن صدمة الخبر أنستك ؟
وحيد ! لا أب ، لا أخوة ، من لي غيرك أماه، أحسست بتلك الوحدة أحسست بتلك الأم الحزينة.
ويحي هل سأعيش هكذا سأستمر هكذا ، أي مدارٌ أنا فيه ، أي ألم سأخوض غماره ، وكم يا ترى سأبقى ، الأمرُّ والأدهى أن أحاسيسي تلتهب وكأنها ليست لي، إنّها لهذا الجسد الذي أسكنُ فيه.
هذا العالم ليس لي ، هذا الجسدُ ليس لي ، العزاء ليس لي ، وأنا هو ، ذلك الصغير الذي أصبح يتيماً ، أصبحت مقروناً بهذه الأم الحزينة.
كأني أبنها فعلاً ، يا إلهي كن معي .
طال وقت العزاء وعلت تلك الصيحات وذلك النحيب ، مشيت في ذلك الطريق إلى معشر رجال ، وجدتهم يقبلون رأسي بالتوالي ، يقولون لي : رحم الله أباك وأحسن الله عزائك .
زاد مشاعري حزنًا ، بدأت البكاء ، وإذ بلساني ينطق ، وتلك الجمل تتوالى ، إلهي أعد أبيه ، إلهي أعدهُ إلى هذا الصغير، لقد شعرتُ بحرقة آلامه فعلا.
طال الحزن أياماً ، لم يفارقني خبر الصدمة العظيمة ، وحزني على تلك الأم المسكينة ، وحزني على هذه النفس التعيسة.
عشت تلك الحياة الأليمة ، عشت تلك الحياة وحيداً ، كانت الأم معي للحظة تتلوها اللحظة ، كنت داخل الصغير لا أعي ولا أفهم شيئاً ، فقط وعيت أمرًا أن الأب قد مات ، لا أرى إلا هذا الأمر أمامي.
لا يزول في منامي ، ولا ينتهي من أحلامي ، ولا يفارق أنظاري ، كانت العين لا ترمش دائماً ، كنت أسبح في تيّار كوني.
أيها الأب الراحل أتسمع نداء هذا الصغير ، أين أنت الآن يا ترى ، إنني أرى أولئك الصبية ، أراهم وألحظهم ، كلٌ مع أبيه يمشي ، مع أبيه يجري ، أرى أولئك الصبية ، اقترب منهم ، استمع لحديثهم ، كلٌ يمسك بيديه تلك اللعبة ، ويتباهى أمام البقية ، ويقول : أبي من أحضرها فيفرح فرحًا ، فيقول الصغير : يا ليت ذلك لي .
فوجدت نفسي ، أذهب للأم وأطلب منها تلك اللعبة ، ويقول الصغير: أحضري لي مثلهم أمي ، فتبتاعها ، من أين لا أدري حينها ، كانت تعمل بخفية ، لتلبي المطالب ، الأمُّ ضحّت ، تركت ربيع حياتها ، لترعى أبنها ، وتحفظ حالته ، تطعمه ، تكسوه ،
وأنا من أنا حينها ، لم أعي ذلك ، ولم أشعر به شعورًا قد ينسيني ألم الصغير ، جل همي فقدان والده وما أراهُ من أمر الصبية.

لم يبقَ إلا هذه الأم ، ألبست الصغير عباءتها وضمته ، مسحت رأسه طبطبت على ظهره ، سهرت تلك الليالي تراعي راحته في سباته.
تهت في مدار أليم ، ما أصعب المشاعر ، وما أصعب أحاسيسها وألم سياطها ، يا لها من رحلة .


بدأت السنوات تنطوي بدأ النضوج لهذا الصغير، وهو بالنجاح يسابق النجاح، كان يتقدم الصفوف بجرأة عالية، كان يسابق الرياح.
لا أدري كيف مضت الحياة ؟ .. لكنها كانت عامرة بالتفوق والأفراح.. لم تكن همي ولم تكن تعني لي شيئاً.. كنت أسابق الزمن معه لعلي أجد الأب حيثُ يقودني تفوّقه.
كان يعتلي القمم لأنّه يأمل بأن يرى والده ، وكانت الأم وراءه تدفعه دفعاً ، وتقول دائماً : أي بني تقدم ، تفنن وتعلم ، أي بني لا تلتفت إلى الخلف ، واستمر قدمًا، أذهب لعلك تجد أباك يوماً ، وكلك نجاح ، لا تلتمس الأوجاع ولا تيأس من كرم الله ، فلتسمو سماء مجد افتخرُ بك حينها.
تساءل الشاب ذات يوم ، هل لهذا أهتم ، هل لهذا سبيل في أن يكون مرضياً ، ما زال يرى أولئك الصبية ، مع أبائهم وذويهم ، مكتملة هي حياتهم ، ومازال وحيدا ، لا يجد شغفا لأي فرح حوله ، وما زال فقدان والده يؤجج الأحزان ، وكأن هناك أمل أن يراهُ يومًا .
كان يتمنى أن يلقاه ويقول له: والدي العزيز، أنظر وتمعّن في ما أنجزتُ وإلى النجاح الذي به ظفرت.
وما زالت السنين تتقدم، حتى نضج فكره نوعاً ما ، وفقدان أمل أن يلاقي أباه.
اكتفى من بذل المزيد ، اكتفى من هذا الجهد ، اكتفى من هذا الزهد ، قرر أن يلهو ، ويرافق صحبة تُنسيه همومًا تحاول أن ترديه.
لم يعد له أي حياة تحييه أملاً! .
رافق الصحبة ، ولهى لهوًا ، وغنّى الأغاني ، وجفّ فكرهُ ، واختفت آماله ، اختفى كل نجاح كان يرافقه ،
كان همّه صحبة السوء ، وأمّه تندب هذا الحال وتعجب لهُ ، وهو في لهوه لا يضربُ حسابا لتلك المشاعر الحزينة ولا اهتماما لأمّه المسكينة.
وفي صحوة منه ، تدراك ذلك ، بعدما خَنِقَ من الهم ، ووجد بأنّه لا ينفك عنه ، ففكر كثيرًا وتأملْ !،ليحدث نفسه قائلا: هل انتهي هنا ، وأنا هكذا ..هل استمر هكذا !
وأنا بدوري داخله ، أشعر بما يشعر ، وأفكر كما يفكر ، فألهمته بما يجب فعله حتى لا أضيع هنا داخل حزنه.
فكانت صرخته ونداء لمن كان يراعاه؛ من الأقارب والدعاة ، قائلا: استمعوا يا رعاة ، استمعوا إلي يا من كفل تربيتي ، هذا ليس أمري ولا طريقي ، هذا ليس همي ولا علاجي ، إنه الهروب من ذاكرتي ، إنه بلوغٌ لذلك المدى الحزين ، لم أطيق الاحتمال ، فآثرت النسيان والهلاك ، على أن أبقى في أحضان ذكرى ، فوالدي لا يغيب عن الأنظار ، لا يغيب عن خيالي وعن أحلامي ، أيها الرعاة هوناً ، فأنا لست سيء الطباع ، أيها الرعاة أنا أداري نفسي ، بلثمتي لكي لا تعرفوني ، فهذا الاختيار فهل هو المعقول أم ماذا ؟
أيها الرعاة خذوا بيدي ، أيها الرعاة لا تخذلوني فأخذل ، أيها الرعاة لا تديروا الأوجه عني ، أدخلوا أعماقي وأعلموا ماذا حل بذاتي ، أعمروا فؤادي بعطفكم الذي مل مني ، أيها الرعاة أنا هنا فلاحظوا وجودي.
لقد تلذذ وتنكل الزمن في تعذيبه، بدأ طريقاً للضياع ، وأنا بداخله أشعر بمعاناته كما هي فأطلت التفكير ، أطلت التأمل ، فسألته إلهاما: وماذا إن كنت يتيماً ؟
أنت لست الوحيد ، أشباهٌ لك في أقاصي الدنيا أيتام ، لكنهم ذو أمجاد ، لم يندسوا وراء الجدران ، فكانوا بلا انهزام ، بلا انعدام وجدان ، كانوا ذو إقدام ، ذو كتمان ، لتلك الأحزان .
-
في تلك اللحظات راودني شعور غريب ، مساسٌ من قوة مجهولة ، بدأت تتسرب إلى عروقي ، وتجري مجرى الدماء ، وصلت إلى القلب ، جعلته ينبض نبضًا ، مع ذلك النفض له ، فنبض نبضاً شديداً ، بدأت رغبته في التنحي عن تلك الأحزان والأقدار ، قرر أن يصنع قدره بذلك الاختيار ، تحت مشيئة القدير المتعال.
فكّر وقدر، في خيط أمل يبدأ بإمساكه، وقبل أن يصل إلى جذوة أمل.. تنبه لأمر! غاب عن ذهنهِ تماما وقال: أماه و أماه، تلك السيدة الحزينة، تلك المرأة العظيمة، ما هذا الذي أنا فيه، وما لذي فعلتهُ تلك السنين، بذلك الجفاء لأمي المسكينة.
طأطأ رأسه حزيناً ، أليماً ، فأمّه وراء تلك السنين ، كانت الماثلة أمامه ، جهدت في إقامة رشده ، كانت سببا في بقاءه معززا مكرّما.
ذهب إليها سريعاً، قبّل يداها، ورجليها، وبدأ بالبكاء وقال لها:
أماه اعذريني، سامحي جهلي ونقصان عقلي، أماه، أنتِ الشهد المصفى، والعسل المحلى، أماه، سيدتي وتاج رأسي، العبقُ الريحانِ منكِ، يحملني إلى ذلك المجد، أماه لهيب ألمي يحرقني، أماه طوال تلك السنين، لم أركِ سوى الآن، عذراً أماه، عذراً أماه.
ذرفت الأم دموع الفرح وبدأت تنهال عليه تأنيبا متحشرج الصوت حزينا ثمّ قالت وهي تحضنه:
أي بني ، وفلذة كبدي ، ومهجة فؤادي ، قف هيا ، وكف عن ذلك البكاء .
أي بني ، تعال إلي ، وكن معي كما كنتُ معك.
في هذه اللحظة ، وفي تلك الساعة ، شعرت بذلك الرشد فيه حيث أنّه لم يعد يشعر باليتم ولا الوحدانية وفي هذه الأثناء ، أتتني مرحلة دوران ، كأن العالم من أمامي يتبخر ، ويسودُ المكان ذلك الظلام.
ما هذا ؟ أصبحت في بؤرة لا حياة فيها
أتاني ذلك التخدير فأغمي علي.


؛؛؛؛؛؛؛

يتبع ...

 

علي آل علي غير متصل   رد مع اقتباس