منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قردة وخنازير (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-28-2019, 03:04 PM   #21
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(2)

التقط بندقيته وغادر الكوخ محنقاً..
ظل يمسح بعينيه المرهقة الصحراء القاحلة، هناك على مسافة لا بأس بها توجد سيارة متوقفة تنبعث منها الأضواء. إنه محنق لأن عالمه الخاص قد اخترق من قبل الغرباء، يحدث هذا على فترات متباعدة فليس وحده المتشرد هنا.. لكنه الوحيد الذي يتشرد لمبدأ..
الجديد هنا أن هناك أنثى حمقاء واقعة في مشكلة ما..
السيارة مكشوفة كسيارته، وبجوارها مجموعة من المتشردين يطوقون فتاة في مقتبل العمر مهلهلة الثياب ومنكوشة الشعر.. كانوا في قمة الانبساط والضحك وهي تسبهم وتضربهم ..
إنهم مستمتعين بضرباتها.. يعرفون أنها تلعب بقواعدهم هم.. سينتهون منها حينما يملون اللعبة.. نفس منطق النخبة..
هاجت مشاعره وغلى الدم في عروقه .. لقم البندقية وضغط على الزناد فانتفضوا جميعاً.. وقبل أن يتحرك أحدهم سمعوا صيحة حسن التحذيرية :
ـ ضعوا أيديكم فوق رؤوسكم..
بادر الجميع وبلا تردد إلى أمره حتى الفتاة المعتدى عليها، و قبل حتى أن يروه قادما نحوهم وهو يصوب بندقيته بإحكام..
تمتم الأول :
ـ من هذا العجوز؟..
همس الثاني :
ـ يبدو إسماعيليا..
أما الفتاة فقد وقفت تتأمله وهو يقترب بخطوات واسعة ثم قالت لهم بنبرة ساخرة:
ـ الإسماعيليين لا يسمحون بإهانة امرأة في أرضهم..
زجرها الثالث قائلاً :
ـ إنهم يرجمون الساقطات كذلك..
انتهى حسن إليهم فأشار للفتاة كي تخفض يدها، ثم التفت باشمئزاز لبقية المجموعة.. هو يعرف هذه النوعية التي تحيا على هامش الدنيا.. هؤلاء الحثالة لم يقدروا على العيش داخل نظام النخبة ولم ينضموا للمتمردين لأنهم لا مبدأ لهم ولا هدف.. يقضون الساعات في التسكع والعبث بالصحاري.. ربما عثروا على شيء ما يخطف من هنا أو يسرق من هناك.. لقد عانى من أمثال هؤلاء المتشردين كثيراً حينما وفد إلى الصحراء أول مرة .. كان هذا قبل أن يعلمهم الأدب طبعاً..
هتفت به الفتاة :
ـ يريدون سرقتي؟
هتف الثالث :
ـ أنها تكذب عليك يا رجل .. إنها كذابة أبنة..
قاطعة حسن بصرامة:
ـ لا تتطاول عليها أمامي..
ثم أشار للفتاة فلحقت به، واحتمت بظهره منهم، فلم يرها وهي تخرج لسانها لهم.. أشار لهم بالبندقية صائحاً:
ـ سأعد حتى ثلاثة.. إذا لم تغادروا بعدها.. فلن تغادروا أبداً.. واحد..
انطلق ثلاثتهم نحو السيارة وأولهم يصيح في جزع:
ـ حسناً يا أبت فقط لا تتعصب هكذا..
واصل حسن بصرامة :
ـ اثنان..
وثب الرجلان الباقيان إلي السيارة والأول يدير محركها بسرعة هاتفاً:
ـ هيا أيتها اللعينة..
ونظر لحسن في بغض وحرك شفتيه بكلام غير مسموع خمنه الأخير بالطبع.. صوب البندقية نحوهم وهو يهتف :
ـ ثلاثة..
وانطلقت سيارة الأوغاد الثلاثة مثيرة خلفها عاصفة من الغبار..
خفض حسن بندقيته ثم أطلق زفرة حارة.. دار على عقبيه ليتأمل عن كثب الفتاة التي وقفت خلفه وهي تبتسم له بامتنان.. أشار باتجاه كوخه قائلاً :
ـ كوخي على مقربة من هنا.. ستكونين فيه بأمان..
ـ لو كنت مكانك لأطلقت النار عليهم مباشرة..
ـ الحمد لله أنك لست في مكاني..
مشت خلفه وهي تقول :
ـ أنت شجاع..
ـ هل كنت تعرفينهم؟
باغتها السؤال فهزت كتفيها قائلة :
ـ ر.. ربما..
غمغم وهو يواصل المشي صوب الكوخ :
ـ أنا لا أريد مشاكل هنا..
ـ كنت أقول لك أنك عجوز شجاع..
ـ وأنت فتاة خرقاء تجوب الصحاري مع حفنة من المتشردين.. أليس لك أهل؟
ـ لقد كنت تهددهم ببندقيتك منذ قليل..
توقف وقال لها بدهشة :
ـ هؤلاء الحثالة أقاربك؟..
ـ ليس تماماً.. لقد نشأت بينهم ولا أعرف لي أحد سواهم..
هز رأسه في فهم ثم واصل المشي ..
إنه يعرف حياة الضياع تلك.. يوماً ما خشي على ولده الوحيد من مثل هذا المصير.. ربما كان مصيراً أسوأ من مصير الاندماج مع النخبة أو مع الثوار على النخبة.. التشرد..
وصلوا إلى الكوخ.. دخل وأشار لها لتجلس على الفراش.. الكوخ ليس به مقاعد.. فراش وطاولة وكتب متناثرة هنا وهناك..
ـ ما اسمك؟
تساءل وهو ينظر لها بتركيز .. قالت وهي تتثاءب:
ـ لوسي..
ـ تشرفنا.. وأنا حسن..
ـ تشرفنا.. هل أنت متشرد؟
ـ نعم.. ولا..
ابتسمت له بركن فمها، فشعر بشيء يختلج في صدره.. هذه لا تعدو كونها طفلة غريرة.. ضحية أخرى من ضحايا النخبة الأممية.. وهي كذلك في عمر ولده عماد.. قال لها موضحاً عبارته :
ـ متشرد بمعنى لا أهل ولا وطن فنعم .. أما على طريقتك أنت وعائلتك اللطيفة فلا..
هزت رأسها في فهم وإن كانت لم تفهم شيئا.. سألها:
ـ هل أنت جائعة؟..
قالها ولم ينتظر إجابة.. ألقى إليها بفخذ أرنب، وجلس يرقبها وهي تأكل بنهم.. كانت جائعة.. متشردة.. ولم تستحم منذ دهور..
وكان بداخله صراع محتدم بين شعورين متنافرين.. شعور نحوها بالشفقة البالغة.. وشعور نحو نفسه بأنه أحمق كي يأمن لمتشردة مثلها في كوخه..
قالت لما رأته يطيل النظر إليها :
ـ هل ستتركني أبيت هنا الليلة؟
ـ بشرط..
هزت رأسها مستفهمة.. فأكمل :
ـ أن تستحمي أولاً..
بدا على وجهها الذعر وعدم التصديق.. لم تتوقع أن يكون العجوز بهذه القسوة البالغة كي يطلب منها الاستحمام.. أخيراً ابتلعت ريقها وقالت باستسلام:
ـ من أين تأتي بالماء هنا؟
ـ هناك بئر قريب عدة كيلومترات من هنا..
ـ وتملك بئراً ؟!
ـ هو ملك لبعض أصدقائي من البدو..
سكتت هنيهة.. ثم عادت تسأله بمسكنة وهي تهرش في شعرها المنكوش :
ـ لابد أن أستحم؟
فرك عينيه قائلاً :
ـ هذا شرطي الحالي..
ـ وستحميني من عصابة دان؟
عصابة.. ودان.. تذكر ملامح الرجال.. إنهم ليسوا متشردين عاديين.. إنهم إحدى العصابات اليهودية التي تعج بهم الصحراء .. هذا ما كان ينقصه..
ـ هل تعتقدين أنهم سيعودون؟
ـ لن يتركوني بسهولة..
ـ ماذا أخذت منهم؟
فردت كفيها أمامه قائلة في براءة :
ـ لا شيء..
نظر لها بمعنى : أنت تكذبين.. فابتسمت له برقة جعلت قلبه يخفق من جديد.. غريبة تلك الفتاة .. تجمع بين التشرد والرقة في آن..
قال لها بلهجة أبوية كان مفتقدها منذ زمن :
ـ تعرفين.. ربما أمكنك المكث هنا لفترة أطول.. لكن عليك أن تتخلي عن حياة التشرد مع عصابة دان وغيرها.. سأعطيك فرصة ربما لن تتكرر..
قالت وهي تجول ببصرها في أرجاء الكوخ واضعة كفيها في خاصرتها:
ـ يمكنني أن أنظف لك الكوخ وأطهو لك الأرانب..
ـ وأنا يمكنني أن أنظف لك عقلك وأجلي لك بصرك..
التفتت إليه بدهشة..
ـ أنت تتكلم بطريقة غامضة وغير مفهومة..
ـ ببساطة.. سأعيد تربيتك من جديد.. لتكوني فتاة صالحة..
ـ هذا أغرب ما سمعت من رجل..
سكت برهة وهو ينظر إليها طويلاً.. كان يلمح عبر بريق عينيها صورة باهتة لولده عماد.. ودون أن يشعر وجد نفسه يهمس لها :
ـ لا أدري لماذا الآن يا لوسي؟.. لا أدرى..
نظرت له في غباء، فأطرق هامساً لنفسه :
ـ لكن.. الحمد لله على كل حال..
اقتربت منه ومالت عليه سائلة :
ـ تعرف الله؟..
ظهر الإعياء على وجهه فجأة فصاحت به :
ـ ماذا دهاك؟
ـ لا شيء فقط ستقتلينني برائحتك.. متى استحممت أخر مرة؟
تراجعت للخلف، ثم أخذت تعد على أصابعها ناظرة للسقف، فوثب بها حسن وجرها من يدها ناحية الفراش..
ـ لا أريد أن أعرف..
ثم انحنى ليسحب طست ضخم من أسفل الفراش مردفاً:
ـ هذا هو المغطس الخاص بي.. سأحضر لك الماء وسأتركك لتنعمي بحمامك ..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس