منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - (( في اغــتياب مدينة )) دعوة للمشاركة ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 07:30 AM   #23
نهله محمد
( كاتبة )

افتراضي


كان الجو خانقاً , وكأن نهراً تفجر في جبيني فجأة , يختلف الطقس هنا عما كان عليه في مطار جدة ومطار مصر تماماً ..
أعيد لف العمّة وأتمسك في مقبض الباب بأقصى محاولةٍ للبقاء ,
فالكثبان التي كانت تتناوب على رمي " جيبنا الشراعي العتيق " تجبرني على التمسك بأي شيء مخافة أن أجابهة أرضهم صارمة الحرارة ..
جف ريقي , وأبي مسترسلٌ في الجنون كعادته .
يعامل البراري وكأنها ملكٌ له , ويرسل للفراغ خلفنا غباراً كثيفاً يُعطي أملاً مموهاً للأرض المتقشفة بمرور الضباب في غير موسمه ..
كنا نسابق الزمن بأربع عجلات , وخارطة , و بوصلة أعارها أحد " الرشايدة " لأبي ,
لأنه يعرف أنه مقدمٌ على الضياع بصدرٍ رحب ..
الأخيرة لم تكن تقنعني في تغير مزاج إبرتها كلما اضطررنا للحاق بغزالةٍ شاردة من فوهة " الشوزن " ..
الذخائر , والماء أهم مايمكن الحفاظ عليه ,
فهناك في تلك الأرض التي تفتح أجوائها للرصاص الطائش لا يمكن أن تفرط في طلقة على الفراغ
و لا أن تشخص غدك , ولا التنبوء بإحداثياته .. ببساطة لأنها منطقة للتنازع على الحياة ممن لايعيشون إلا فيما دون الصفر ..
تماماً تشبه البراري التي كنتُ مولعةً باكتشافها في الأفلام الوثائقية , حتى في أدقّ التفاصيل ..
الحشائش المصفرة الطويلة , الزواحف الغريبة , أشجارها الشائكة جداً ,والتي غالباً ماتكون مهبطاً لبعض النسور والعقبان ,أو ظلاً للظباء المتعبة و للنعام الذي ما لمحته مرةً يدسُ رأسه في التراب كما يُشاع !..

طلقة واثنتان ,
سرعة مجنونة
وطلال مداح يغني " مدام معايا القمر مالي ومال النجوم "
و أنا في خضم ذلك أشعر برعبٍ لم أعتاده قبل تلك اللحظة,
أنوي قفل جهاز التسجيل ليضمحل الخوف مع العتمة ولكني مشغولة بتوثيق نفسي حتى لا أطير من المقعد ..
وباحترافية تامة يفتح أبي أضواء الجيب للحظة ويقفلها كي لاينتبه لنا قاطع طريق , ويواصل ..
يقف على مسافة بعيدة من غزالة منهكة .. منذ المغيب تقريباً ونحن نطاردها بلا توقف ..
إصرار أبي في معاندة الأرض لم أكتشفه إلا هناك وورثته لحظتها باختياري ودون مقدمات..
لكني فشلتُ في محاولة أن أكون مذهلة مثله , هو الذي أذهلني بحذاقته وأصابها صريعة من رميةٍ واحدة وموفقه جداً ..
كان الصيد وافراً يومها لكنّا اكتفينا بالكفاف واكتفيت بإعجابي المتزايد به دون توضيح ..
عندما رتبنا خيمتنا الصغيرة , كنتُ متعبة,مغموسةً في رائحة الدم ..وأبي منشغلٌ في تجميع الحطب لشواء الغزال .. قال وأنا أتأمل صمت المكان :
" هذه المدينة تعرف من أين تأتي زوارها ,
أرضٌ ذكيّة , لا تقفل في وجههم ديوان ضيافةٍ أبداً ..
حتقدم لهم قدراً من الحرية مقابل المال الزهيد أحياناً وتقدم الجنون أيضاً متى ما أرادوا الشعور بأنهم أفلتوا من قبضة المنطق وسياسة التعقل "

كنتُ أقلب حديثه , وأسمع أصوات حشرات الليل , وألحظ من بعيد عيون القطط البرية كاختصارٍ للبرق , تبرق وتختفي ..
و تنفرد أمامي الأرض عاجةً بالجراد بمقاساتٍه المختلفة بعضه يحوم حول أنوار السيارة المطفأة والآخر عبدٌ للفضاء,
لم أتصور الإقتراب يوماً من أرضٍ لاتناسب فطرتي إلى هذا الحد المقلق..!
لم يخطر لي ببال أن أتحول لمساعد قنّاص وأحمل خنجراً وذخائر احتياطية تأميناً على الحياة ..!
صوت الريح كان يحملالأسئلة /الخوف وينثره علينا من بعيد ..
وفيما انشغل القناص بالجوع , انشغلت بأن أكون صديقةً للنار بدلاً أن أكون لقمةً سائغة للبرد وللسباع , فالطقس أصبح قاسياً جداً على عكس ماكان يعنيه النهار تماماً..
كنت أفكر وقتها فيما كنا عليه اليومين الماضية,
وكم عبأني الفرح بجِيرَة المالك الحزين , والبجع والأوزات ,
مزهوةٌ أقدامي بالجري حول" بحيرة العسل ".. كنتُ قد أكتشف فيها لأول مرة معالم لم يحدث أن واجهتها إلا هناك.
مليا قلتُ للماء : يالحلم البراكين التي تنفث السواد صامته .
مراراً تفحصت الملح الذي حسبته جليداً وهو يشكل حزاماً كثيفاً حول البحيرة .. وفاجأني الجبس وهو يزيد من ألق الأرض بشكلٍ يثير حفيظة أرضك في مكانٍ ما ..
وفي " زجاللو " كانت متعة النظر إلى النخيل وقطعان الايائل مثاراً لشهية مفتوحة على الطبيعة الأم
والتي لم يلوثها سعال المصانع ولا عجرفة البشر . فيها مايجعلك تعود طفلاً تتراكض خلف الأشياء التي لم تألفها وتضحك بملئ شغبك..


( لا أعرف كيف سقط سحر " جيبوتي " من الخرائط السياحية, وكيف لم ينتبه أحد لشعبها الودود جداً ) ,
قالها أبي وأنا أحاول تجنب مكنستي , و البقاء لصيقةً بالأرض على التحليق الخياليّ فوق الكثبان و القفز خلف الأرانب والهروب من القلق واللجوء إلى وسط المدينة ...
جيبوتي , المدينة التي لا تعترف بالمكاييج ولا بنفاق خافي العيوب ,
و التي تمنيت لو عاشرتها فعلاً من غير أقاصيص أبي
..

 

التوقيع




لم يكتب فيّ أحدٌ قصيدة واحدة ..
ولا ربع كلمة !
كنت دوماً خلف كواليسهم أرقبهم يُقرون
بأن الضوء يتسرب من يدي ..
بأن واحة اعتدل حالها عندما كتبت عنها ..
بأن سنجاباً تأقلم مع صحراء عندما غازلته بأُقصودة ..
بأن المسارح غطاها الغناء ونفضت الغبار بالستائر ثم غسلتها بحبري ..
بأن الجحيم سيصبح بارداً أكثر كلما راسلته .. لديهم أمل أن ينطفئ ..


التعديل الأخير تم بواسطة نهله محمد ; 08-31-2010 الساعة 07:34 AM.

نهله محمد غير متصل   رد مع اقتباس