منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - " مُهم ـل "
الموضوع: " مُهم ـل "
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-29-2020, 11:28 AM   #71
عَلاَمَ
( هُدوء )

الصورة الرمزية عَلاَمَ

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 50467

عَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعةعَلاَمَ لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي




نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


" رسالة .. "




دمشق 19/5/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وحارة


حين بعثت إليك برسالتي السابقة لم أكن متأكداً أنك لازلت في صنعاء، بعثت بها مغامرة، أما بعد أن تلقيت الجواب فقد فرحت (ألا زلنا قادرين على الفرح؟) وبدا لي أن الدنيا لا تخلو من الجزر الخضراء والبشر واحتمال الفرح أيضاً. سلاحنا الأخير أن نظل متفائلين ، وأن نحاول. نعرف أن الأمر ليس سهلاً أو ممكناً، لكنه يستحق المحاولة!
الكتابة في السياسة (وحياتنا كلها سياسة) ليست مأمونة، فعين الرقيب الحولاء تصبح، وهي تقرأ رسائل الحالمين أمثالنا، عشرة على عشرة، وترتب على كل كلمة جملة من النتائج، الأمر الذي يعرض المرسل والمرسل إليه إلى متاعب وربما مخاطر هو في غنى عنها، ويجعل الشرطة الداخلية والخارجية تستنفر. وتتحول الكلمة، أية كلمة، إلى مسلّة لا يعرف الإنسان كيف يفرزها أو كيف يتخلص منها. إن حق المراسلة المكفول بشرعة الأمم لا نملكه ولا نقوى على ممارسته، وهذا يجعل رسائلنا أقرب إلى لسان العصفورة كما يقولون، فما بالك؟ إذا حاول الإنسان أن يقول رأيه وقناعاته في أمور حساسة؟

إن إحدى مشاكلنا مع الكلمة أننا نحوّلها إلى نقيضها، أن نحلّلها بكمّ هائل من الظلال والبقارع (البراقع) ولذلك غالباً ما نتكلم أكثر من لغة، أو أننا لا نفهم ما يقال على حقيقته، وهذا إذا كان يغني الفن ويعطيه تفسيرات كثيرة ومختلفة، فإنه في أمور أخرى يخلق إرباكاً لا يلبث أن يحوّل اللغة إلى مجموعة من الألغاز، ويصبح التفاهم صعباً أو متعذراً. وربما هذا ما ساد، خاصة في اللغة السياسية، بحيث أن الكثيرين يتكلمون ولكنهم لا يقولون شيئاً، أو أنهم يتكلمون ويصعب إيجاد القواسم المشتركة بينك وبينهم. وهكذا تتحول اللغة إلى مجموعة من الأشراك بدل أن تكون جسوراً أو طرقاً عريضة للتفاهم مع الآخر!
الأمر من جوانب عديدة، شديد العسر وبالغ الصعوبة، ويفوّت بالتالي إمكانية الوصول إلى الحد الأدنى المطلوب من التفاهم.

نتحدث عن كتابك حول كردستان، الأفكار والحلول المقترحة منذ ثلاثين سنة، والتي تناقش اليوم. لا أريد أن أكون متشائماً وأقول: أن ما يقال الآن يشير ولا يقول، وأن الحديث لا زال متلعثماً وبعيداً. وتتحدث أيضاً حول التساؤلات، لكن ما يحز في القلب: أننا لا نقرأ إلا ما نريد أن نقرأه في الكلمات لا الكلمات ذاتها، وأننا نفهمها حسب رغباتنا وأهوائنا لا على حقيقتها ودلالتها الصحيحة، ولذلك فإن لغة الصم لا تزال هي السائدة.
إنني الآن مربك أكثر من أية فترة سابقة، إذ رغم وضوح الكثير من الأفكار والصور والاحتمالات، ووصولي إلى قناعات وأحكام تكاد تكون نهائية، إلا أنني عاجز أو غير قادر على التعبير عنها كما أريد، لأن السلاسل والإحراجات، وايضاً الأسى، يجعل لأشياء كثيرة مذاقاً مراً، ويجعل لها منظوراً مختلفاً عما هو سائد، ومن هنا فالإنسان إما أن يصمت أو أن يموه، أو أن يلجأ إلى الفن بكل ما فيه من مكر ومواربة وتخييل.

خلال أسابيع قليلة سوف أرسل لك روايتي الجديدة – القديمة، لأن موضوعها بمقدار ما هو حاليّّ وعصري وضاغط فإنه قديم ومستمر وكلي في حياتنا. لا أدري إن جرؤت على قول ما كنت أو ما يجب ان أقوله أم أنني انسقت في التيار المتواطئ إياه فدفنت الجروح والأخاديد لعلها تجد يوماً طريقة في الوصول إلى حلول من نوع ما!
وهل الشرطة الذين صببت عليهم نقمتي هم الجلادين أم الضحايا، وهل نحاول إخفاء الجلادين الحقيقيين حين نستعير النسخ والأقزام والأبواق لكي نرى صورتنا فيها ومن خلالها، وهل هؤلاء هم المسؤولون أم مجرد أدوات؟
لقد ضربت الطينة بالعجينة، كما يقولون، واستخرجت من الصلال والصلصال الميت شيئاً افترضت أنه يملك حياة. هل أتوهم؟ أحلم، لا أعرف.

والعاصفة التي مرت.. هل يمكن لعاصفة مثلها أن تمر دون أن تقلب الكون كله؟ والناس هناك ، في الحلّة والناصرية وعشرات الأماكن الأخرى.. هل لا زالوا هم نفس البشر قبل وبعد العاصفة؟
إن في القلب جروحاً لا أتصور أن أحداً، شعباً، غيرنا قادر على احتمالها والاستمرار. وأن هذا بذاته يحتاج إلى الكثير من التأمل والدراسة والمقارنة، بهدف معرفة نقاط القوة والضعف في بشر من هذا النوع، وبالتالي الوصول إلى المعادلات التي تجعل الموت في النهاية هادئاً وطبيعياً، وإنسانياً أيضاً، لمثل هذا النوع من الكائنات الحية!.

أخي العزيز
لا أريد أن أزيد الهموم أو أن أفتح الجروح، لكن ما نعيشه اليوم يستعصي على الفهم أو التكيف معه، وبالتالي لا يمكن السكوت عليه أو إقراره، مع أنه الحقيقة الوحيدة الكلية والشاملة، ومها حاول أن يهرب الإنسان فلابد أن يصطدم بالظلمة والجدار والوحل، ولا بد أن يسقط.
لقد علمونا طوال سنين طويلة أن نصمت، أن نؤمن بالآخرة، بالحياة الباقية، والنتيجة أننا وصلنا إلى شيء واحد: الصمت، أو إلى اللالغة، وهكذا أخذنا ندور في نفس اللغة لا نغادرها. أكثر من ذلك نشعر بالغبطة في هذا الدوران الأبله.
قد أكون متعباً أكثر مما ينبغي أو أكثر مما أحتمل . وعلّي ، للتخلص من هذا ا لوضع، أن أسافر. لم أقرر بعد، ولا أعرف متى أو إلى أين، ولكني سأحاول. أعرف أن السفر ليس حلاً، ولا دواءً، ولكنه مثل المخدر أو الأسبرين، لعل الإنسان خلاله او بعده يتمالك نفسه من جديد، ويحاول أن يضع أولويات من نوع أكثر ملاءمة وأكثر فائدة.
سأحاول استعمال هذا الاسبرين خلال فترة أرجو ألا تطول، ولولا بعض الالتزامات التي أراها ضرورية لبدأت فوراً.

وماذا أيضاً ؟
كان يفترض في أن أكتب بطريقة مختلفة، إذ أعرف ما يثقل قلبك وفكرك، وبالتالي كان يجب ان أكون أقل أنانية، لكن بعد أن قرأت رسالتك، وبعد أن جلت في الأفق لم (أجد) غير هذه الطريقة!
من جملة المشاكل التي أواجهها أن اللغة ماكرة وملعونة، ومورّطة أيضاً. حبذا لو كنت قادراً على استعمال أداة أخرى. إن اللغات الأخرى، خارج اللغة، أكثر قدرة على التوصيل والدلالة، لكن يبدو أن الإنسان، بعد سن معينة، غير قادر على التعلم. ماذا لو كانت أداتنا الإزميل أو السكين أو حتى المحراث؟ ربما كنا أكثر سعادة وأكثر حرية لكن!

أخي
أرجو المعذرة، وقد رغبت من خلال هذه الرسالة أن أتكلم، وها أنا قد فعلت، ولذلك فإن هذه "التقاسيم" فاصل بين وصلتين ، قبل وبعد، وأرجو ألا تطول هذه التقاسيم وأن لا تستبد، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة، وآمل ان تكون بصحة جيدة، وأن تكون متفائلاً أكثر مني، مع عميق مودتي، ولا تنس أن تبلغ الأصدقاء تحياتي.



ـ عبدالرحمن منيف



,

 

عَلاَمَ غير متصل   رد مع اقتباس