منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - حديث الغمام
الموضوع: حديث الغمام
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2007, 02:39 AM   #14
عبدالله الدوسري
( كاتب )

الصورة الرمزية عبدالله الدوسري

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 51

عبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعةعبدالله الدوسري لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


( 7 )


* المجنون الصغير *



انفرجت بوابة موقف السيارة في البيت المقابل لبيتنا وأنا أسير على مقربة منها ،، فرأيت في الفناء وجه يتألق بنور الشباب لفتاة كانت تسقي حوضا للزهور ،، وبمجرد أن وقعت عيناي عليها عانقت سرا ً من أسرار الحياة المتفجرة ،، تفتحت بها أبواب السماء فأغدقت عليّ فيضا ً من بركات الحب ،،



كان ذلك البيت يملكه صديق قديم لأبي وهو رجل مهيب يحترمه جميع سكان الحي لقوة شخصيته ،، يعيش مع زوجته وابنة وحيدة بعد زواج إخوتها ،،


كانت تلك المرة هي الأولى التي ألمح فيها ابنة الجيران وقد كانت حينها في الرابعة أو الخامسة والعشرين من عمرها ،، أما أنا فقد كنت في الرابعة عشرة !! ،،



ومن عجب أن صورتها رغم العاطفة التي ابتعثتها اختفت تماما ً وراء سحب الماضي ،، بل تعذرت على الوضوح حتى وأنا فريسة سحرها ،،


لا أعرف لون وتسريحة شعرها ولا لون عينيها ولا طول قامتها أو درجة امتلائها ،، ذاب كل ذلك في سائل سحري ،،


وكنت إذا تذكرته أو خيّل إليّ ذلك فعن طريق غير مباشر وبإيحاء عفوي كشذا العطر الذي يباغتك من " قزّاز " وأنت ماض غارقا ً في أفكارك ،، وكأن قلبي لم يكن يحركه شئ إلا إذا انتهى إليها بسبب خفي ،،


ولذلك همت في أزمنة متأخرة نسبيا ً بقسمات وملامح وسمات ولفتات لنجوم توهمت أنها تذكرني بما غاب عني منها ،، بل ما أحببت صفة في وجه إلا وكانت هي وراءه حقيقة أم وهما ً !! ،،



وبسبب ذلك الحب الخاطف عانت حياتي العاطفية من أزمات متواصلة معقدة كأنها السحر الأسود ،،


والعجيب أنه كان حبا ً بلا موقع ولا مواقف ولا تاريخ يذكر ،، رأيتها من خلال البوابة ثوان ليس إلا ففقدت إرادتي وألقي بي في طور جديد من أطوار الخلق ،،


آمنت بأني عاشق ،، وعرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر ويصحو وهو نائم ،، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم ،، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الضوء ويستلقي فوق الأفق !! ،،



وجعلت أحوم حول بيت الجيران كل يوم علني ألمحها مرة أخرى ،، وسمعت مرة صوتا ً ناعما ً ينادي السائق فاهتز قلبي وافترضت في الحال أنه صوتها ثم آمنت بذلك ،،


ورأيتها للمرة الثانية في مناسبة حزينة ،، عندما صدمت سيارة شقيق صديق لي أمام البيت ،، كنت عائدا ً من المدرسة فوقفت مع الحشود المجتمعة مشدوها ً لمنظر الصغير وهو غارق في دمائه وصوت الإسعاف يطن برأسي ،، ولم أنتبه إليها إلا أثناء إغلاقها للنافذة ،،


رأيتها لحظات فخفق قلبي خفقة مباغتة ولكني لم أنعم بالرؤية بسبب الحادث ،، وفقدت النشوة في قلب كسير محزون ،،


واجتاحتني عواطف متناقضة كما اجتاحني تيار الخلق المتلاطم ،،


ولم أرها بعد ذلك إلا في إحدى الزيارات لوالديها برفقة زوجها وذلك قبيل انتقال جارنا من الحي ،،،


وكانت مدة ذلك التاريخ الذي مر بلا أحداث أقل من عام واحد ،، ولكنه كان أعجب عام في حياتي ،،



لم أجد ما يحذرني من التمادي في عاطفة لا جدوى منها ألبته ،، كنت صغيرا ً وكانت أفكاري عن الحب ساذجة مستعارة من الروايات وما عرفته من تاريخ الأدب العربي ،، فأيقنت بأني " مجنون ليلى " ،، وأقنعت نفسي أن حبي هذا يقطع بأني أحببتها في تاريخ سحيق مضى ،، ربما في العصر الجاهلي كما يزعم ريدر هيجارد !! ،،



وتمثل ذلك الحب في صورة قوة طاغية متسلطة لا تقنع بأقل من التهام الروح والجسد ،، قذف بي في جحيم الألم ،، صهرني ،، وخلق مني معدنا ً جديدا ً تواقا ً إلى الوجود ،، ينجذب إلى كل شئ جميل وحقيقي فيه ،، وبقي الحب بعد اختفاء خالقه ما لا يقل عن خمس سنوات مشتعلا ً كجنون لا علاج له ،، ثم استكن على مدى العمر في أعماقي كقوة خامدة ربما حركتها نغمة أو منظر أو ذوبان قبلة أو ذكرى فتدب فيها حياة هادئة مؤقتة تقطع بأنه لم يدركه الفناء بعد !! ،،



وكلما تذكرت تلك الأيام غرقت في الضحك أو أذهلني العجب ،،


وتساءلت بدهشة عن سر الحياة التي عشتها ،، وهل كان أصابني مس من الجنون ،، وأسفت غاية الأسف أنه لم يقدر لذلك الحب أن يخوض تجربته الواقعية ،، وأن تتلاقى في دوامته العنيفة السماء والأرض ،، وأن أمتحن قدراتي الحقيقية في معاناته ومواجهة أسراره على ضوء الواقع بكل خشونته وقسوته ،،



وحينما بلغت درجة من نضج الشباب والتجربة اقتنعت بأن ابنة الجيران ألقيت في حياتي كمثير ،، لم تكن إلا شفرة تشير إلى شئ ،، تعيّن عليّ أن أحل رموزها للوصول إليه ،،


ولقد تحللت حياتي إلى مآسي وانتصارات وسخافات ولكني أكره أن أذكر تلك الأيام كغيرها من خالد الذكريات باستخفاف ،، فكيف يستخف إنسان بأروع سني العمر ؟! ،،



مررت منذ أيام بحينا القديم فوجدت بيت الجيران قد هدم مخلفا ً أرضا ً جرداء تمهيدا ً لإقامة مركز تجاري ،،


ابتسمت وأنا أنظر إلى الأرض الفضاء ،، وعبرني إحساس بالأسى ،،


فتذكرت الفتاة ،، التي لم أرها منذ تلك الزيارة الأخيرة لأهلها ،، ولم أدر عنها شيئا ً بعد ذلك ،، حية أم ميتة ،، سعيدة أم شقية ،، وكيف هي حياتها في هذا العمر ،، وحين تبلغ شيخوختها؟! ،،


وأيا ً كان خبرها ،، ورأي العقل فيها ،، ألم يكن من حقها أن تعرف أنها لعصور عدة توجت على عرش من النجوم وأنها تسامت في محراب الوجود كالأثير المقدس ،،


وأنها فجرت في قلب صغير حياة ما زالت تنبض بين الحين والحين بذكراها


* * *

 

التوقيع

المتشرد

عبدالله الدوسري غير متصل   رد مع اقتباس