.
.
وداعا أيها الرجل الطيب،مازلت اذكر ابتسامتك الأولى،وترحيبك الأول،وعبثي الأول في أرجاء مكتبتك التي نحب،والتي نعتبرها وجهتنا الأولى كلما عرّجت بنا الأيام صوب القاهرة.
في وسط المدينة تتسيد المساحات كلها،وكأن كل الذين يمضون أمامك يرددون ذات السؤال "إلى أين تتجهون"؟
فيجيب الجميع : نحو عم مدبولي
هذا الرجل الذي صنع ثقافة خاصة به وبنا كمتلقين يبحثون عن المتميز والأميز مما تفرزه عقول المبدعين العرب شعراء، روائيون، قصاصون ،كتاب مقال،أرباب فكر،كل من مر بتلك المكتبة العريقة يؤمن بقيمة المكتبة من قيمة صاحبها عم مدبولي.
في فبراير الماضي كنتُ في القاهرة،وكان جدولي العملي مزدحما منذ الثامنة صباحا وحتى السادسة مساء،كنت أتحرق شوقا لساعات قليلة أفرغ فيها ليتسنى لي الذهاب إلى مكتبة عم مدبولي،كنتُ لا ألوي على شئ ،شراء الجديد مثلا ،لا ،لم يكن هذا هدفي الأول،كان هدفي الأول أن ألتقي ذاك الرجل الفارِه،الطيب،الفارع،لكنني للأسف لم ألتقيه،سألت عنه كان غير حاضر في ذاك الوقت،لم أسأل عن السبب،لكنني خرجت رغم غنيمتي من الكتب حزينة لأنني لم ألتقيه،هذا الرجل كان أول من شاهدت في أول زيارة لي للقاهرة في الثمانينيات،لذا كنت حريصة على أن أؤم مكتبته كلما حطت بي الرحال في القاهرة،وكنت ومازلت أكثر حرصا على أن أرتاد جناح مكتبة مدبولي في كل مدينة أحط رحالي فيها ويُصادف أن تستضيف أو تنظم معرضا للكتاب.
أجزم أن عم مدبولي لا يذكرني،وربما لا يعرفني من الأساس لكنني أعرفه جدا،أعرف تلك الملامح المصرية الأصيلة،أعرف ذاك المثقف الكبير الذي قدّم للثقافة العربية وللقارئ العربي الكثير.
اليوم وعن سبعين عاما يرحل عم مدبولي أشعر بدمعة تخنقني كأنني للتو كنتُ في زيارة لمكتبته فألقيت عليه تحية الإسلام ورد بأحسن منها،ثم قدّم لي أحدث الإصدارات ،ونصحني بقراءة هذا الكتاب،وذاك،وذاك.
عم مدبولي لمن لايعرفه هو رجل مصري بسيط جدا بدأ حياته بائعا للصحف على عربة صغيرة متنقلّة،إلى أن أصبح خلال سنوات صاحب أكبر دار نشر في وسط القاهرة،يزيد عمرها الآن على 50 عاما.
جاء في الخير الذي نقلته قناة العربية اليوم حول وفاته رحمة الله عليه :
"عُنِيَ عم مدبولي، الذي لم يكمل تعليمه، بإرضاء الأذواق المختلفة للقراء، إذ كان ينشر أعمالا لأبرز الأدباء والمفكرين العرب إلى جانب الكتب ذات الطابع الشعبي.
وفي السنوات الأخيرة اهتم مدبولي بنشر موسوعات في الفلسفة والتصوف والتاريخ، دون أن ينحاز لشخص أو تيار، ومن أبرز الأمثلة نشر موسوعة تاريخية من ستة آلاف صفحة عنوانها "تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادي حتى نهاية القرن العشرين، من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفع".
وكان حريصا على توفير الكتب المحظور طبعاتها وتداولها في مصر، ومنها كتب لمحمد حسنين هيكل ورواية "أولاد حارتنا" للروائي المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب، حيث ظلت تطبع في بيروت منذ الستينيات لكنها كانت تتاح لمن يطلبها من مكتبة مدبولي.
وتعرض مدبولي عام 1991 لتهديد من متشددين أصوليين بسبب توزيعه رواية عنوانها "مسافة في عقل رجل"، وفي العام نفسه صدر حكم قضائي بسجنه للسبب نفسه، حيث وجهت للرواية تهمة ازدراء الأديان. وتضامن المثقفون مع مدبولي حتى أن الرئيس المصري أوقف تنفيذ الحكم.
وظل كثير من الكتب التي يصدرها مدبولي موضع شك من طرف السلطات، ومنها بعض مؤلفات نوال السعداوي وآخرها كتاب "الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الديني"، حيث قال مدبولي لرويترز آنذاك إن شرطة المصنفات الفنية داهمت مكتبته وقبضت على أحد العاملين بها وتحفظت على 280 نسخة من الكتاب، بتعليمات من مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة.
تجدر الإشارة إلى أن الحاج محمد مدبولي قد دخل موسوعة أعلام مصر في القرن العشرين، التي صدرت عن وكالة أنباء الشرق الأوسط بوصفه أبرز ناشر مصري."
رحم الله تعالى العم مدبولي رحمة واسعة،وأسكنه بفضل منه فسيح جناته،والعزاء لكل قلب مر من هناك ،فاشتم رائحة الحبر،واستمع لنداء الورق يغريه أن تعال هنا كتاب جديد لم تقرأه من قبل،فاغتنم الفرصة،تفوز بمعرفة جديدة.
..