منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - [ ابتكارُ الكِتابةِ و ارتباكُها ]
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-31-2008, 06:03 PM   #1
د. منال عبدالرحمن
( كاتبة )

افتراضي [ ابتكارُ الكِتابةِ و ارتباكُها ]


يذهبُ البعضُ إلى أنَّ الشّعر هو موسيقى الكتابة و أنَّ النّثرَ هو كلماتها , فإذا اتفقنا على انتظامِ منظومةِ الشِّعرِ بقواعدِ الوزنِ و القافية و انضباطِ صياغةِ الشِّعر بالبحورِ و التّفعيلات و الموسيقى الشّعريّة, فإنَّ النّثرَ على أنواعهِ لا يخضعُ لقوانينَ محدّدة , إنّما تحكمهُ القدرةُ على سبكِ المعنى و صياغةِ اللفظِ و إيصال الفكرةِ و التأثير في القارئ . و هذهِ المعايير , تختلفُ من كاتبٍ لآخر , فتجدُ أحدهم يعتني باللّفظِ بالدّرجةِ الأولى , و آخر بالمعنى و هكذا .
و النثرُ لغةً : تحسينُ الكلام و قد قال أبو حيّان التوحيدي : "إن النثر من حيز البساطة، والنظم من حيِّز التركيب" , إذن فالنّثرُ بدأً من تحسينِ الكلامِ المحكيّ و صياغتهِ بطريقةٍ أدبيّةٍ جميلةٍ قادرةٍ على الإيحاء العاطفيّ و الفكريّ , و نقلِ أفكارِ الكاتِبِ من صيغةِ الكلامِ العاديّ إلى حيّزِ التّعبير اللغوي .
و من هنا يمكننا القول أنّ الأصلَ في النّثرِ هو البساطة .
و لمّا كانَ الأدبُ ملَكةً و موهبةً , فإنّهُ لم يقتصر على نوعٍ واحدٍ من الكتابة إنّما تعدّاها إلى مراحلَ كثيرة كانَ فيها للبلاغةِ و فنونِ الأدب جولاتٍ كثيرة , فكانت المقامات و الرّسائلُ و الخطابةُ و الروايةُ و الخاطرةُ و الشّعرُ المنثورُ و النّثرُ الشّعري .
و ممّا لا شكَّ فيه أنَّ تطوّر الحياة و ازدياد معرفةِ الإنسان و خبراتهِ و ثقافته لهُ أثرٌ كبيرٌ في تطوير الأدب , تماشياً مع الحاجات الاجتماعية المتجدّدة و الأكثر تعقيداً .
و الرمزية في الأدب كانت احدى نتائج هذا التطور , ففي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت مجموعة من الكُتّاب عرفوا آنذاك بالأدباء الغامضين , أعلنوا ولادة مذهب جديد في الكتابة و جاء في بيانهم الذي نشرته الصّحف الفرنسيّة آنذاك : إنّ هدفهم : " تقديم نوعٍ من التّجربةِ الادبيّة تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالة وجدانيّة , سواء كانت شعورية أو لا شعوريّة , بصرف النّظر عن الماديّات المحسوسة التي ترمز إلىا لكلمات , و بصرف النّظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمّنه , لأنّ التّجربة الادبيّة تجربة وجدانيّة في المقام الاوّل"
و كانَ من أبرز هذا المذهب آنذاك : بودلير و بول فاليري و البريطاني أوسكار وايلد .
ثمّ كانَ انتقال الرّمزيّةِ إلى الأدبِ العربي الحديث و ظهورها في الشّعر و النّثر كظاهرةٍ لا مذهب , إذ أنَّ الأدباءَ العرب الذين اعتمدوها في كتابتهم ظلّوا على مذاهبهم الواقعيّة أو الكلاسيكيّة أو الرومانسيّة و طعّموها بالرّمزيّة , كجبران خليل جبران مثلاً و صلاح عبد الصّبور و أدونيس و ميّ زيادة .
و الرّمزيّة إذ تعتمدُ على الغموض بالمعنى القريب و الإيحاء بالمعنى البعيد , تًعدُّ ثورةً على المعاني و الألفاظ العاديّة و التشبيهات و التّعابير المتكرّرة , إذ يُصبحُ في الرّمزيّةِ لكلِّ شيءٍ معنىً آخر , قادراً على الإتيانِ بالفكرةِ المُرادِ إيصالها , إنما على شكلٍ بديعٍ و مختلفٍ و متجدّد .
و هي تعتمدُ على التأثيرِ في نفسِ القارئ , إذ أنَّ مجموعةً من الإيحاءات تتجمّعُ في محاولةِ إيصال القارئِ إلى الحالةِ النّفسيّةِ للكاتب و بذا الوصولِ إلى نقطةِ تراسلِ الحواسّ و تبادلها في التّعبيرِ الأدبي , حتّى تستمعَ العينُ و ترى اليد !



مُفترق طرق :




الكثير من النّصوصُ النّثريّة المتكاثرة على صفحاتِ المجلّات و الجرائد و المنتديات الأدبيّة تعاني من اضطرابٍ في الناتّج الأدبيّ , اضطرابٍ ما بينَ الغموضِ المُبهم و الإيحاءِ المحفِّزِ للذّاكرةِ و الإحساس , و ما بينَ بساطةِ المُفردة و تعقيدِ اللّفظ .
فهناكَ نصوصٌ " فاخرةٌ " تقدِّمُ للقارئِ وجبةً لُغويّةً دسمة , غنيّةً بالمفرداتِ و الألفاظِ " غير العاديّة " , إلّا أنّها تفتقدُ للرّوح و لأبسطِ معاني الكلام , حتّى أنَّ بعضها لكأنّهُ اجتماعُ جملٍ اُقتبِسَت من كتب البلاغةِ , إلّا أنَّ لا روحَ تجمعها و لا رابطَ يأخذُ بالقارئِ إلى مرفأ أمانٍ يُمكِّنهُ من جمعِ المعاني التي أرادَ الكاتب إيصالها .
و هناكَ نصوصٌ فيّاضةٌ بالمعاني و الأحاسيس , إلّا أنّها تفتقرُ إلى أقلِّ عواملِ الكتابة و مقوّماتِ اللّغة و تتكاثرُ الأخطاءُ النّحويّةُ فيها إلى درجةِ الإحباط .

و بعضُ الكتّاب يقعُ في فخِّ الغموضِ بينما يُحاولُ أن يصلَ بما كتبَ إلى مستوى الرّمزيّةِ القادرةِ على وصفِ الواقعِ و تلمّسهِ بأيدٍ خفيّة تكشفهُ دونَ أن تجرحه , و تحكي عنهُ دونَ أن تفضحه , إلّا أنّهُ يكتبُ نصّاً يوحي للقارئِ للوهلةِ الأولى أنّهُ كُتبَ بلغةٍ أخرى !

إذن هناك خطٌّ رفيعٌ جدّاً يصلُ بينَ قدرة النّص على التّأثير على القارئ و الوصول إلى عقلهِ و قلبهِ ببساطةِ المشاعرِ , وبينَ بلاغة النّصّ و استخدامهِ للألفاظ القادرة على خلق لوحة تعبيريّة مُتقنة الجمال , بعيدة عن الاعتياديّة و التّكرار , من خلال اللّفظ المتجدّد و الإيحاء المُتقن .




فاصلة :




لا نستطيعُ الحكمَ على نصٍّ نثريٍّ بأنّهُ مكسورُ الوزنِ أو معطوبُ القافية , إذن لا قواعدَ تُحدّدُ فشلَ النّصِّ النّثري من نجاحه ,
لذا كانَ مجالُ الكتابةِ النّثريّةِ أوسع , و الاعتداءُ عليها أكبر !

 

التوقيع

و للحريّةِ الحمراءِ بابٌ
بكلِّ يدٍ مضرّجةٍ يُدَقُّ

د. منال عبدالرحمن غير متصل   رد مع اقتباس