منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - ليس الآن.. (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2018, 10:32 AM   #35
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


(9)
وكان هناك ذلك الاجتماع العاجل حول الطاولة المستديرة، حيث تحاك المؤامرات دائماً ضد شعبنا ..
ماذا بعد الضربة الموجعة التي تلقاها المتآمرون ودمرت مخططات القرن؟ كانت هناك الخطة البديلة التي سيتم تنفيذها في المرحلة القادمة .. خطة سوداء تنبئ عن مدى سواد قلوب واضعيها ومدى الحقد الذى به يضطرمون ...
نسيت أن أخبركم أن العوادلي كان حاضراً لذلك الاجتماع، فقد تم استدعائه هو أيضاً للترتيبات القادمة.. وكانت الدماء قد عادت لوجهه المنهك الشاحب، حينما علم أن المرحلة القادمة تقتضي بقائه في بلاد الشعب الأصفر، بعيداً عن الخطر، حيث الهواء النقي الخالي من التلوث والأمان التام واحترام حقوق الإنسان!.. كان متحمساً جداً وهو يحك صلعته منتظراً التعليمات الجديدة..
ـ لابد أن يركع الشعب الأسمر ..
ـ لابد أن تزداد الدماء في الشوارع ..
ـ لابد أن ندعم الظلاميين من طرف خفي .. داخلي وخارجي ..
ـ لابد أن .. وأن .. وأن ..
هنا اقتحم القاعة شاب نحيل وصرخ في وجل :
ـ الظلاميون يجتاحون المدينة ..
نظر إليه سيد الشعب الأصفر في مقت ثم تساءل في برود :
ـ أي بني .. عن أي ظلاميين تتحدث ..؟
بالخارج كان المشهد أسرع من أن يوصف .. عشرات الفجوات في قاع المدينة تنضح بكائنات غريبة شاحبة واسعة العيون تلعق شفاها باستمرار في شبق .. كان كل مواطن في شوارع المدينة يواجه واحداً .. يصرخ في هلع ثم الأنياب الحادة تنشب في عنقه والدماء الحارة تنفر من وريده العنقي ..
الجنون يجتاح العديد من مدن الشعب الأصفر..
هذا ليس عنواناً لفيلم رعب من تلك التي يدمنها الشعب الأصفر ويصدرها لشعوب العالم.. بل هذا هو الواقع المرير الذي استيقظ عليه الشعب الأصفر بعد نوم عميق..
شعب يصرخ ودماء الحياة تفارق جسده مستغيثاً بسلطته..
ولا مجيب..
***
كان يجوب بسيارته الشوارع التي فرشت بالجثث..
بالمعنى الأصح كان يفر بعد أن انتهى أمر المدينة..
إنه أخر رجال السلطة الفارين.. رباه متى يصل للطريق السريع ويلحق ببقية الرفاق؟.. الأن يدرك مدى حماقته حينما تحرك ضميره وأخره عن اللحاق بهم.. الأن يدرك أنه تأخر أكثر من اللازم حينما رأى الهول الذي سبب تلك المذبحة يدركه..
حشد من الظلاميين يقودهم عزروت بنفسه..
لم يكد يلمحونه حتى علا صياحهم الحاد.. وانطلقوا خلفه كأسراب الجراد..
صرخ الشرطي وهو يدور بسيارته ليفر بجلده .. كان يجهل قدرات الظلاميين الخارقة في العدو على الأقدام..
ضغط على أسنانه وهو يلمح بعض أجساد الضحايا من بني شعبه الأصفر ترتجف على قارعة الطريق ولم تفارقها الروح بعد.. كانت هناك أيادي تشير إليه مستجدية لكنه لا يجرؤ على التوقف، أو حتى مجرد الالتفات.. سمع صوت التهشم المميز للعظام فأدرك إنه دهس بعضهم وهو يدور بسيارته.. وكانت تلك هي الخدمة الوحيدة التي قدمها رجل السلطة لأبناء شعبه.. وهو جعلهم يموتون بسرعة..
كان يأمل في مصير مختلف..
لكن بعض الظلاميين طار وهوى بثقله على سقف السيارة الذي انبعج من أثر السقطة بدوي مقيت.. وتعلق أخر بباب السيارة.. صرخ الشرطي كأنما مسه ألف شيطان وأدار المقود..
كيف استطاعوا الوصول إليه؟.. رباه.. كان عليه أن يزيد من سرعة السيـ...
ودارت السيارة حول نفسها مرة أخرى ليطير الظلامي الذي اعتلى سطحها ويرتطم بإخوانه المطاردين.. وانسحق الأخر الذي تعلق بالباب تحت إطاراتها وهي تدور.. هنا تكالب عليه الظلاميين من كل حدب وصوب.. وشعر الشرطي بجانب العربة يرتفع لأعلى.. تأمل الوجوه الشاحبة التي تتأمله من وراء الزجاج في جشع وصرخ مستجدياً.. هنا دوى صوت قيادته عبر المذياع :
ـ ماذا لديك يا جيسون؟.. جيسون.. لماذا لا ترد؟
لم يرد لأنه كان يبكي كالأطفال .. ثم تذكر فجأة أن لديه مسدساً..
ـ جيسون.. أجب.. هل أنت بخير؟
نظر للمذياع في حقد ثم إلى الوجوه الظلامية التي ترتطم بالزجاج الذي بدأت تظهر عليه الشروخ ..
استجمع أنفاسه وصوب المسدس جيداً وضغط الزناد..
وأمام أعين الظلاميين المتعطشة انفجر رأسه وتناثر الدم على الزجاج هدراً..
ـ جيسون..
يصرخ عزروت صرخة الجنون وهو يرقص وسط بركة من الدماء..
ـ جيسون..
العشرات يتقاتلون على جثته داخل العربة .. الكل يرغب في مزقة من دمه المهدور قبل أن...
ـ جيسون.. ماذا يجري عندك؟..
هنا رفع عزروت جهاز الاتصال إلى فمه، وهمس بصوت لاهث من فرط النشوة :
ـ ألم تفهموا بعد.. لقد قامت قيامتكم.

***
نوسام حمل بندقية الصيد على عاتقه وتأكد من أن الزوجة والأطفال بأمان في قبو بيته ثم أمر رجال الحرس بحصد أي كائن يتحرك على بعد نصف كيلو من مقر بيته.. والتفت إلى مجموعة تحمل قاذفات اللهب وقال بصوت أكثر التهاباً :
ـ جاهزون لحفل الشواء؟
ـ جاهزون سيدي ..
وأعطاه الرجال التحية في نفس الوقت الذي دوت فيه الطلقات .. امتقع وجهه متمتماً :
ـ لقد وصلوا ..
ثم حانت منه التفاتة إلى صورة جدارية ضخمة لجده الأكبر فريمان، وهو ينظر إليه بتلك النظرة القاسية المتفحصة التي طالما أثارت رعبه..
بادله نوسام نفس النظرة القاسية فبدا التشابه بينهما واضحاً رغم تباين المصير والمآل ..
ووجد نفسه يهمس لصورة جده :
ـ إنني أتساءل الآن عن مدى حكمتك؟...
***
وفي نشرة المساء، خرج السيد الأعظم لبني الأصفر ليعلن الحرب على كائنات الظلام التي تسللت لأراضي الشعب الأصفر بمؤامرة ما.. بعدها ظهرت على الشاشات قوات حاشدة تحمل قاذفات اللهب، وتلوح للشاشات في أمل.. مع سيل من التعليمات الصادرة من سلطة بني الأصفر :
ـ اللهب هو السلاح الفتاك الذي يقهر مخلوقات الظلام .. تأكد من أنك تحمل واحداً في دارك .. سيتم توزيع قاذفات اللهب بحسب القرب والبعد من المناطق المهددة ..
تأمل العوادلي قاذف اللهب الذي أعطوه إياه في حجرته بالفندق..
عليه أن يصوب تلك الفوهة للباب وحينما يشعر بأي حركة مريبة
يضغط على ذلك الزناد و..
هذه الطرقات الخشنة على الباب لا يمكن أن تكون لخدمة الغرف.. وهذا الفحيح لا يمكن أن يكون مصدره صنبور المياه..
تذكر وطنه الآمن في تلك اللحظات وعض شفته متحسراً..
الآن تأتيه فاتورة الحساب عبر الأميال..
صوب قاذف اللهب للباب وصرخ وهو يضغط الزناد.. صرخ وقد أصابه جنون الحريق..
وصرخ أكثر ولسان اللهب يمتد ليلتهم أثاث الغرفة من حوله.. لقد صنع لنفسه جحيمه الخاص على الأرض.. وتوقف العوادلي عن الصراخ المذعور..
الذي يذوب جلده بهذه الطريقة لا يجد وقتاً للصراخ أصلاً..
وبعد دوي الانفجار المتوقع لخزان الوقود اقتحم الظلاميون الغرفة ليجدوا وجبتهم مشوية..
العديد من المقاطعات تحولت لقطعة من اللهب من فرط استخدام تلك القاذفات بروح الجنون والذعر .. وخرج المسئول الأكبر لشعبنا الأسمر ليعلن في هدوء مستفز :
ـ على قيادة الشعب الأصفر ضبط النفس والسعي للحوار مع الظلاميين ..
لابد أن السيد الأعظم لبني الأصفر قد هشم شاشة المرئي بعد تلك الكلمة الحارقة أكثر من قاذفات اللهب ..
سيحتاجون لأيام وشهور حتى يفهموا ..
ماذا حدث وكيف حدث؟..
وكان هذا في الحقيقة .. هو كل ما يحتاجه شعبنا..
***
وبعيداً بعيداً .. عن كل ذاك الصخب..
كان هو جالساً يستمتع بهواء البحر المشبع باليود ..
ظل يتابع الجريدة من وراء منظاره الداكن .. ولأول مرة منذ فترة طويلة شعر بالراحة والطمأنينة تتسرب إلى نفسه القلقة التواقة إلى كل ما هو جديد من أخبار تخص شعبنا ..
"المرحلة القادمة ستكون أصعب ما يكون على شعبنا .. وأمنه وسلامته سيكونان على المحك .."
" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذا عهدي لك.. "
ولأول مرة منذ تداعي تلك الأحداث .. وجدت بسمة دافئة سبيلها إلى وجهه الصخري الصارم..
***

 

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس