منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - سَاعَةٌ مِنَ التَّوَاصُلِ المُبَاشَرِ | [9] | أَبْعَادُ اللون
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-25-2015, 07:50 PM   #2
بلقيس الرشيدي
( " تِملأك بالأسئِلة " )

افتراضي


سَاعَةٌ مِنَ التَّوَاصُلِ المُبَاشَرِ | [9] | أَبْعَادُ اللَّوْنِ
(الضُّوْءُ وَالظِّلُّ فِي مُوَاجَهَةِ الْكَلِمِةُ)




كانتْ، وما زالتْ، اللَّوحة الفنِّيَّة البديعة تُجسِّد الإبداع الإنسانيِّ الرَّفيع في أبهى صوره وأنقاها وأبقاها، وتعكس جمال روح الفنَّان الأصيل وجلال نفسه وعظمتها، وتدلُّ دلالة أكيدة على رُقيِّ الشُّعوب المُحبَّة للفنِّ والأدب وعلى وعيها المُتقدِّم وتحضُّرها، ومع تطوُّر التِّقنيَّات، وتزايد الإنجازات العلميَّة، وتراكم الخبرات، وتدفُّق الإمكانات؛ عبَّر الإنسان عن هويَّته وواقعه وآماله وطموحاته، وعن زمانه ومكانه وبيئته ومجتمعه، وارتقى بتطلُّعاته إلى تطوير ذاته وتحسين ظروفه وأحواله، وسما بمشاعره وأفكاره وهذَّبها وشذَّبها وأدَّبها وطوَّعها بوسائل عديدة ومُتنوِّعة؛ كان الفنُّ والعلم والحكمة والأدب على رأسها وفي مُقدِّمتها.


يُشكِّل الفنُّ بأنواعه العديدة رافدًا رئيسًا وأساسيًّا من روافد منظومة الثَّقافة الإنسانيَّة؛ حيث ترجم -ويُترجم- في أعمال فنِّيَّة مُؤثِّرة أفكار النَّاس ومشاعرهم وأحلامهم وتطلُّعاتهم. ومنذ آلاف السِّنين، أي منذ أنْ بدأ البشر في مُمارسة الفنون، بدءًا من الرَّسم على جذوع الأشجار وجدران الكهوف، وحتَّى زماننا الحاضر وعصرنا الحاليِّ؛ ساهم الفنُّ في تقدُّم الحضارات وتطوُّر المدنيات وازدهار العلوم والفنون والمعارف، وكانت علاقته مع التَّقدُّم والتَّطوُّر علاقة تبادلية وتصاعديَّة ودائمة. ولقد صنَّف فلاسفة الحضارة اليونانيَّة الفنون الجميلة إلى ستَّة أنواع رئيسة هي: فنُّ العمارة، وفنُّ الموسيقا، وفنُّ الرَّسم، وفنُّ النَّحت، وفنُّ الشِّعر، وفنُّ الرَّقص. ومنذ العصور القديمة؛ والفنَّان يبحث في جوهر المادَّة المُلوَّنة والمُلوِّنة، وفي مقاومة الألوان للضُّوء، وفي رمزيَّتها، وفي تأثير الضُّوء والألوان على العين والعقل، وتأثيرها في اللَّا وعي.


تعريف اللَّون: هو طاقةُ مُشعَّة، لها ذبذبات موجيَّة؛ تقوم المُستقبلات الضُّوئية في أعيننا باستقبالها، ثمَّ بترجمتها إلى ألوان. ولكلِّ لون ذبذبة تختلف في قوَّتها ومداها عن ذبذبة غيره من الألوان.


{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} | [سورة البقره/69]


يتبيَّن لنا من الآية الكريمة أنَّ اللَّون الأصفر يسرُّ النَّاظر إليه أو المتأمِّل فيه؛ لا سيَّما الطَّبقة الفاتحة منه، والَّتي يُشتقُّ منها لون الذَّهب. واللَّون هو أثر "فيسيولوجي" ينتج في شبكيَّة العين؛ حيث يُمكن للخلايا المخروطيَّة القيام بتحليل ثُلاثيِّ اللَّون للمُشاهد، سواء كان اللَّون ناتجًا عن المادَّة الصبغيَّة المُلوَّنة أو عن الضُّوء المُلوَّن. إنَّ ارتباط اللُّون مع الأشياء في لغتنا؛ يظهر في عبارات مثل: "هذا الشَّيء أحمر اللون"، هو ارتباط مُضلِّل؛ لأنَّه لا يمكن إنكار أنَّ اللَّون هو إحساس غير موجود إلَّا في الدِّماغ، أو في الجهاز العصبي للكائنات الحيَّة.


"إنَّ أشعَّة الضُّوء، بالمعنى الدَّقيق للكلمة، ليست ملونة. لا يوجد في الأشعَّة سوى طاقة مُحدَّدة، وقادرة على تحريض الشُّعور بهذا اللَّون أو ذاك." (إسحاق نيوتن/1730). وعلم اللَّون يتضمَّن المقدرة على الإدراك الحسِّي للَّون بالعين البشريَّة، وأصل الألوان في الموادِّ، ونظريَّة اللَّون في الفنِّ، وأيضًا فيزياء اللَّون في الطَّيف الكهرمغناطيسي. فللَّون القدرة علي تغيير نفسيَّة الإنسان؛ ذلك لأنَّ كلَّ لون من الألوان مُرتبط بمفهومات مُعيَّنة ويملك دلالات خاصَّة. وعن طريق "اختبارات الألوان" يُمكن بيان الحالات العاطفيَّة والفكريَّة للإنسان؛ فمثلًا: الأبيض يُمثِّل العفَّة، والأسود يُمثِّل الحزن، وهكذا...


لقد أدرك (ليوناردو دافنشي) أنَّ اهتمام الفنَّان بالألوان؛ إنَّما يفتح له أبوابًا عديدة وفسيحة وجديدة. فإنَّ وضع لون على اللَّوحة يتطلَّب توافقه مع الألوان الَّتي تُجاوره، فاللَّون الأبيض عندما يجاور أحد الألوان؛ فانَّه يُعطي قوَّة لذلك اللَّون، بينما اللَّون الأسود يُقلِّل من قيمته، والرَّمادي يجعله أكثر وضوحًا. إنّ الألوان الَّتي نراها في اللَّوحات؛ إنَّما تعيش في أحاسيس الفنَّان الدَّاخليَّة قبل كلِّ شيء. ولكن ما هو مصدر هذه الألوان؟ وكيف تكوَّنتْ؟ ومن أين تأتي؟ وبأيِّ حالةٍ تمرُّ؟ وما هي تحرُّكاتها أو نشاطاتها قبل أنْ تكون في شكل اللَّوحة؟ هل هي تسكن في أماكن بعيدة في الأعماق؛ ندعوها عند الحاجة فتأتي؟ أو أنَّها تنمو ببطءٍ -كالبذرة- وتتغذَّى من قوى غامضة؟.


إنَّ ذهنَ الفنَّان هو الَّذي يستمرُّ في تربيةِ هذه الذَّاكرة المغمورة للخروج على اللَّوحة، ولو ضمن أحاسيس مُبهمة ومُحاطة بالشَّكِّ. فما هو لغز الألوان؟ الألوان كأحاسيس ورؤى، والألوان كمادَّة على اللَّوحة. عند التَّكلُّم عن الألوان كأحاسيس وأخيلة؛ أرى من الضَّروري أنْ نأتي على ذكر الكُتَّاب والأدباء والشُّعراء؛ الَّذين ذكروا الألوان في صورهم الافتراضيَّة؛ فثمَّة أبيات شعريَّة مزجتِ الألوان بالأحاسيس، لوحات خياليَّة من رسم الشُّعراء، لوحات يتلقَّفها ذهن السَّامع ويراها في تخيُّلاته.


في حُلَّةٍ خَضْرَاءَ نَممَ وَشْيَها :: حَوْكُ الرَّبِيْعِ وَحُلَّةٍ صَفْرَاءِ | (البحتري)


إنْ كانت الألوان انطباعات أوَّلًا؛ فإنَّها استُخدمتْ فيما بعد للتَّعبير عن الفرح أو الحزن، ثمَّ أصبحتْ كرمز للشُّعوب والأديان، وهكذا... إنَّ الألوان تلعب دورًا مُهمًّا في حياتنا، وهي ضرورة نفسيَّة أيضًا. كانتِ الألوان في البداية مجال بحث الفنَّانين، ثم أصبحتْ فيما بعد من اهتمام العلماء، ابتداءً من القرن السَّابع عشر.


كأنَّ سَوادَ الليلِ والصبح طالعٌ :: بقايا مجالِ الكحلِ في الأعينِ الزّرقِ | (تميم بن المعز)


ولعلَّنا نستخلص من كلِّ ما ذُكر بإسهابٍ؛ حتميَّة العلاقة الحميمة بين الألوان والجانب النَّفسي عند الإنسان وذكرياته؛ فإنَّ الطَّبيعة المُحيطة بهِ -منذ طفولته- لها أهمِّيَّة في تكوين وعيه بالألوان؛ فليستْ ذاكرة مَنْ وُلِدَ في الصَّحراء كذاكرة مَنْ وُلِدَ قرب غابة خضراء.


وأخيرًا، اختم ببيتٍ شعريٍّ لـ (ابن زمرك) -خُطَّ على جدارٍ في قصر الحمراء-:


تعدَّدَ فيها اللَّون والنُّورُ واحدٌ :: فأنْ شئتَ قُلْ ضِدًّا وأنْ شئتَ قُلْ مِثلا




أحبَّتي الكرام، لنْ أُطيل عليكم، وأدعوكم إلى محاور النِّقاش:


1- هل يُمكن للكلمة/للقصيدة أنْ تحلَّ محلَّ اللَّوحة، أو العكس؟ وهل يُعوِّض وُجود/حُضور أحد الفنَّين -فن الكتابة، وفن الرَّسم- انعدام الآخر أو غيابه؟
2- دائمًا ما يتآخى الفنَّان الرَّسَّام والشَّاعر؛ فيكونانِ لوحة وقصيدة. لأيِّ مدى يُضيف الشَّاعر للرَّسَّام، ويُضيف الرَّسَّام للشَّاعر؟
3- هل تُساهم الكلمة في فتح آفاق اللَّوحة الفنِّيَّة وفي سبر أغوارها وتسليط الوهج الإعلاميِّ عليها؟ وهل تُساهم اللَّوحة في تحريك الكلمة وتحريرها؟
4- أيُّهمَا أقربُ للقصيدة وللكلمة؛ الآلة الموسيقية، أم اللَّوحة؟ لترافقها وتشكِّل معها اندماجًا وجدانيًّا واتِّحادًا خياليًّا؛ تتكامل فيه الفكرة والصُّورة.
5- كما تعكس كتابات كاتب من الكُتَّاب حالتة النَّفسيَّة الَّتي عاشها من لحظة ولادة نصٍّ من نصوصه وحتَّى اكتماله، وما قبل ذلك وما بعده، هل ينطبق الأمر ذاته على اللَّوحة وفنَّانها؟ بحيث يُمكننا من اللَّوحة معرفة الحالة التي عاشها الفنَّان ومعرفة أطوارها.
6- مع ظهور برنامج "الفوتوشوب"، وغيره من البرامج التِّقنيَّة المُشابهة، أَترى أنَّنا سنُعاني -في المستقبل- من ظاهرة اختفاء الرِّيشة الفنِّيَّة المعروفة وانحسار الحاجة إليها وإلى الرَّسم التَّقليدي؟
7- ما الَّذي يُثِير رغبة أصابع الفنَّان في الإبداع ويُحرِّضُها ويُحرِّضه على إبراز فنِّ الرَّسم بما يليقُ به ويُشبع نهم المُتلقِّي ويُرضي ذائقته؟!





 

التوقيع


..
..

ذَاتُك مرآتُك فأنظُر كَيف تُحب أن تكُونَ " ملامِحُك " !

https://twitter.com/ja_top?lang=ar

.

بلقيس الرشيدي غير متصل