منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - رواية قنابل الثقوب السوداء أو أبواق إسرافيل.كتارا
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-29-2022, 01:07 AM   #49
إبراهيم امين مؤمن
( كاتب )

افتراضي


الحي والميت

دخل رئيس ناسا على جاك في الصباح الباكر بعد محادثتهما بالأمس بشأن مناقشة رسالة الدكتوراه، واستنهضه من أجل الذهاب معه إلى جورج رامسفيلد -كان جاك آنذاك مندمجًا في مراقبة النجم من خلال المراصد وصور الأقمار الصناعيّة التي تأتيه أولاً بأول- قال جاك: «اذهبْ وحدك وأخبرني عما يريده هذا الصعلوك.»
نظر إليه دهشا وهو يقول: «صعلوك! هيّا، هيّا يا ولدي.»
تحرك جاك معه متثاقلاً، واستقلّا سيارته الطائرة ومضيا -يصحبهما بالطبع حرس المهام الخاصة المكلف بحراسة جاك- دخلا البيت الأبيض، وقابلاه، بينما حرس جاك جلس مع حرس البيت الأبيض يتضاحكون معًا.
قال الرئيس الأمريكيّ: «طبعًا هذا اللقاء غير رسميّ.» وظل يثرثر كثيرا، يسمعه رئيس ناسا بينما جاك ينظر في طيور الحديقة ويتوجع خشية على أن يلتهمها الثقب الأسود.
وفجأة، رأى على أحد أشجار الحديقة ثعبانًا يتسلل إلى شحرور يغرد وهو يطعم صغاره في وكر على الشجرة، فانتفض جاك من مكانه وجرى نحو الشجرة ثمّ تسلّقها كالقرد وانقضّ على الثعبان وقتله.
انتفض الرئيس الأمريكي من مكانه مذهولاً وشاهد الحدث وقال: «أمجنون هو؟»
قال له رئيس ناسا وهو متحرج: «معذرة سيدي الرئيس.»
ولم تمضِ إلّا لحظات وعاد جاك وقعد في مكانه وهو يقول غير مكترث للاثنين معًا: «لابد أن نعمل على السلام لمن دعا إلى السلام.»
قالها جاك رغبة في أن تصل إلى أذني رامسيفلد، حيث يتوقع بأن رامسيفلد سوف يعمل على شن حرب عالمية ثالثة بإيعاز من يعقوب إسحاق.
جلس رامسفيلد مرة أخرى وهو يكتم غيظه وقال من فوره: «هل من الممكن أن تقوم وكالة ناسا ببناء مصادم هذا الفتى المصريّ؟» وعلى الفور وجه كلامه لجاك خصيصا: «إنّي أعلم قدرتك الخارقة على الابتكار لذلك دعوتك يا جاك لعلك تستطيع بناءه.»
قال جاك: «لن يستطيع بناءه إلا واحد فقط، أتعلم من هو؟ فهمان ابن الشهيد فطين المصري.»
تمتم رئيس ناسا وقال : «وكالة ناسا فضائيّة سيدي الرئيس، وجاك تخصص فيزياء فلكية وفضاء، هذا الشأن ليس من اختصاصنا.»
ضرب الرئيس الأمريكيّ جبهته وقال: «لقد غفلتُ عن ذلك، إذن تستطيعون أن تصنعوا لنا طائرة محجوبة عن الرؤيا.»
قال جاك ساخرًا: «يا ليتك أنت تبتعد عن المشهد وتُحجب، هذا أعظم اختراع بشري.»
ثمّ نظر إلى رئيس ناسا واستنهضه فتثاقل ولكنّه جذبه فمضى معه مكرهًا.
نظر إليهما الرئيس الأمريكيّ ثمّ قال: «فتى أخرق، أحمق.»
وكان فوق الشجرة ببغاء فقال: «يا أخرق، يا أحمق.»
استقلّا السيّارة وبمجرد أخْذ مسارها في الهواء انتابتْ رئيس ناسا نوبة ضحك هيستيري ولم يسأله جاك عن السبب، فلمّا توقف عن الضحك قال: «جاك كلّ العالم يعلم بأنّكَ قادر على بناء ما ذكره الفتى في رسالته بجنيف.»
فحدّقه جاك وقال: «أسرعْ سيادة الرئيس، أسرعْ بنا إلى ناسا.»
فقال رئيس ناسا باسمًا: «اِعملْ له مصادم مِن الكرتون وريّحه.» قالها وضج بالضحك، ثم تعالت ضحكاته أكثر وقال: «أقول لك شيئًا جيدًا، اعملْ له طائرة وألبسها طاقية إخفاء.»
نظر إليه جاك هنيهات، لم يتمالك نفسه فانفجر ضاحكا على الرغم من أنه قلما يضحك في حياته حتى في الصغر.
قال جاك: «معذرة سيدي أن ضحكت في حضرتك بهذه الطريقة.»
- «تعتذر لي لضحكة في حضرتي وتترك رئيس أمريكا وتعتلي شجرة من أجل إنقاذ شحرور، فضلا عن سخريتك الواضحة منه وفظاظة كلماتك له؟!»
أجابه: «الشحرور صوته جميل، وجورج صوته نشاز، ربنا يخلّصنا منه فهو رأس الأفعى.»

***

بعد استشارة الجيولوجيين تقرّر بناء مصادم الهادرونات المستقبلي FCC-2 في إحدى مناطق الوادي الجديد تحت الأرض بمائة متر -ولقد اُختيرت هذه المنطقة بسبب أنّ باطن قشرتها الأرضيّة هادئة لا تثور فتحدث زلزال أو بركان، كما أنّها ذات مساحة كبيرة، فضلاً عن سهولة توفر المياه الجوفيّة في المحافظة كلّها- وحُدد حجم المنطقة الصحراويّة المراد حفرها -وهي دائريّة وها هيّ مساحتها:الطول120 كم، والعرض 15 متراً والارتفاع 80 و 250 مترا- ورسم فهمان حدود المنطقة التي سوف تُحفر إلى عدة مناطق ما بين المتر والمائة متر مربع والقليل أقل من المتر وكذلك المائة.
وأُحضرت معدات الحفر، وتصافّ العمال ومعهم الآلات الحافرة الحديثة، يتقدمهم أفراد المؤسسة العسكريّة من أقل رتبة إلى أعلاها -يعملون بلا أجر- ثمّ طوائف الشعب على اختلاف أعمارهم بلا أجرٍ أيضًا.
وحضر اليوم الأول لبداية العمل الرئيس مهديّ والمجلس العسكريّ، ومع أول حفيرة قام الرئيس مهديّ بحمل التراب منها وألقاه في عربة اللوري؛ وبذا يكون قد أعطى رمزاً للتواضع والفداء.
ثمّ كلّم أفراد الجيش بأنّ يعملوا ويكدّوا من أجل مصر، وانصرف هو ورجاله.
وظلّ الحفرُ على مدار عامٍ كامل لم يتخلّف فهمان فيه ولا يوم واحد، كان يعطي رسمه الهندسيّ للحفّارين لينفذوه، إذ إنّ هناك ارتفاعات معينة، وكذلك انخفاضات وجدران مقعّرة، وأخرى محدّبة، وذلك لتتناسب وشكل المصادم وأجهزته ومعداته فضلاً عن غرف المبيت.
وهذا هو الشكل النهائيّ للمنطقة التي سوف توضع فيها أجزاء وتركيبات المصادم -شكل دائريّ يتكون من ثمانية قطاعات كلّ قطاع قوس محددة من كلا طرفيها فواصل مستقيمة تفصلها عن بعضها (تعمل كمداخل متعددة الاستخدامات)- وأثناء هذه الفترة كان خبراء المصاعد الكهربائيّة في تواصل مستمر مع الحفّارين؛ هذا التواصل من أجل صنع بعض المصاعد بالقرب من الأماكن المحفورة لتساعد الأوناش فيما بعد في نقل الثرى واستخراجه من الأعماق إلى الخارج لتحمله اللواري فيما بعد.
وخارج المصادم كان هناك لفيف من الخبراء يعملون على تصميم ليناك 64، وقد شرعوا العمل فيه لأنّه خارج منطقة الحفر بالإضافة إلى أنّه مسرّع سيستغرقُ وقتًا طويلاً جدًا حتى الانتهاء منه، وكانوا يصممونه من الرسم الهندسيّ المثبت في رسالة فهمان، وقد احتاجوا إليه كثيرًا، إذ واجهتهم عقبات كثيرة أثناء التنفيذ.
وكلُّ أعمال المصادم آنذاك تظهر للرئيس مهديّ ورجاله على حواسيبهم.
وقد كانوا يستوردون بعض قطع الغيار من الخارج بناء على اجماع الخبراء المصممين عليها، ثم تمر على وزير التكنولوجيا ليمررها فيما بعد إلى الرئيس مهدي الذي آل على نفسه وقرر أن يباشر أعمال المصادم بنفسه لما له من اثر في نفوس المصريين بعد أن باعوا كل ما يملكون من أجل بنائه.
يتداول بين الناس بان كل الشعب المصري كان يساهم في عملية الحفر.

***


هاتف رئيس ناسا جاك ليذكّره بموعد مناقشة الرسالة مع خبراء ناسا التي قدمها له منذ ثلاثة أشهر، كان جاك وقتها يشاهد آخر ما أُنجز من حفر المصادم FCC-2.
فقد كان الإنشاء في الأساس يظهر على شاشات التلفاز.
وانعقدت الجلسة، وبعد نقاش طويل دام أكثر من خمس ساعات اعترضوا على ما جاء في رسالته، وقد تركهم جاك غاضبا بعد أن سبهم جميعا. وهذا أبرز ما حدث في المناقشة.
قال له بكْ: «إنّ ما اقترحته في رسالتكَ من شراع شمسيّ يسير بعشْر سرعة الضوء بالتقنيات المذكورة فيها من محطات ليزر ومفاعلي اندماج وانشطار نوويّ ومحطتي الخلايا الشمسيّة وجهاز يدعم الحياة من غذاء وأكسجين وماء مستحيل تطبيقه على أرض الواقع، ولقد أُعجبتُ بذكائكِ وسعة إدراكاتك من قبل عندما شرحتَ لي نفس هذه التقنية في ثاني لقاء جمع بيننا، تذكره طبعًا، كنت أمام الشاشة التي تعرض المصاعد الفضائيّة، ورددت عليك بأن الفكرة عبقريّة ولكن..عمليًا مستحيلة.»
لم يجد ما يرد به جاك عليه.
استطرد بك: «يا جاك النجم لن يتحوّل إلى ثقبٍ أسود؛ بل إلى قزم أبيض لصغر حجمه، هذا إذا تحوّل أصلاً. ولن أوافقك كما لا يوافقك كلّ من في المجلس على هذا .»
نظر جاك إلى رئيس ناسا وقال له: «وأنتَ توافقهم على ذلك؟»
قال: «يا جاك يا ولدي أنا حائر وليس لديّ خيار إلّا أن أكون مع رأي الجماعة ولكنّي لا انتقص من قدرتك العلمية وأمانتك.»
قال جاك له: «إذن لن توفر لي ناسا الدعم اللازم للرحلة، ولن تقبل جامعة بيركلي الرسالة.»

هب منتفضا وصاح بهم غاضبا: «تقولون مستحيل التطبيق على أرض الواقع، أنا جاك أقول لكم أنّي أستطيع أن أفعل هذا المستحيل، وأتمنى أن يجانبكم الصواب ويتحوّل بعد تفجيره إلى قزم أبيض ولكنّه لن يتحوّل إلّا لثقب أسود، أنا منذ سنين أرصد حركة النجوم والثقوب وأقولها في أفواهكم جميعًا، هذا النجم سينفجر ويتحوّل لثقب أسود وعندها أنتم المسئولون عمّا سيحدث للعالم.»
قال رئيس ناسا: «اهدأ يا جاك، اهدأ يا ولدي، هم يخافون عليك.»
ازداد غضبه وقال مستاء: «يخافون عليّ، يكفي ما يفعلون على القمر من استخلاص آلاف الأطنان من هيليوم-3 لصنع القنابل الهيدروجينيّة،يكفيهم هذا.»
وترك المناقشة وولّى مستاءً غاضبًا بعد أن قذف بكرسيّه على الأرض.
سعى خلفه رئيس ناسا ونادى عليه أكثر من مرّة فلم يردّ عليه.
وفور خروجه هاتف رئيس ناسا رئيسَ جامعة بيركلي ليخبره بشأن رسالة جاك وقصّ عليه كلّ ما حدث.
فقال رئيس الجامعة: «لا يملك أحد أن يقول لجاك لا، حتى لو قالت اللوائح لا، ولو قال الرئيس الأمريكي نفسه لجاك لا.رغبته هو التي ستنفذ.»

ما إن دخل المنزل حتى فتح التلفاز وما زال الغضب يتملكه من إجماعهم على مخالفة ما يرى في الرسالة، وعلى إحدى قنوات المعارضة التي تعارض نظام حكم جورج رامسفيلد يقول أحد المعارضين في شأن التدخل الأمريكيّ في الأرض العربيّة: بينما المراسلة مستمرة بين الرئيس الأمريكيّ جورج رامسفيلد وأصحاب القرار في إسرائيل حول إحكام الحصار على الأنفاق والتدخل في المنطقة العربيّة بشكلٍ سافر.
كذلك فإنّ يعقوب إسحاق لا يكفّ عن تحريض رامسفيلد لوقف أعمال إنشاء مصادم الوادي الجديد، لكنّ دائمًا محاولاته تبوء بالفشل بسبب ولاء الشعب المصريّ بكافة طبقاته لأنظمته الحاكمة والعكس .
ولم ينته المعارض من كلمته حتى أقبل على الشاشة وخرقها بأصبعه الفولاذيّ .
والهاتف يرن منذ دقائق ولا يكفّ عن الرن، فأمسك به ليحطمه، فنظر في الرقم فوجده يخص رئيس ناسا فردّ عليه.
قال له: «يا جاك، إنّ رئيس جامعة بيركلي يخبرك بأن تختار الموعد الذي تحدده لمناقشة رسالتك.»
انفرجت أساريره بعد سماع هذه الكلمة فهدأ وسكن.

***

دكتوراه في الخيال العلمي
وعلى مشارف نهاية العام الأول لبناء المصادم لم يخض مهديّ الانتخابات الرئاسية، إذ تمّ له التجديد فورًا، وكان الرأي العام المصريّ يدعو إلى خوض الانتخابات وخاصة فلول النظام القديم، فضلاً عن الذين يضربون في الخفاء وتحت الأحزمة، لكن خروج الشعب عن بكرة أبيهم ليدعوا له لفترة ثانية قد ألجم ألسنتهم وأزاغ أبصارهم وزلزل أقدامهم.
السنة الثانية
*استغرق عمل التشطيبات اللازمة عامًا كاملا، كما تمّ بناء مبانٍ فوق النفق مباشرة وقد تمّ تشطيبها أيضًا، تلك المباني الغرض منها فيما بعد تلقي البيانات القادمة من تجارب المصادم لإحصائها.
وتمّ الانتهاء من كلّ المصاعد الكهربائيّة، تلك التي تساعد الخبراء في التنقل عبر كلّ غرف المصادم ومساحاته المختلفة، كما أنّها تساعد على نقل مكونات المصادم إلى الأماكن المناسبة والتي سوف توضع فيها أجهزته، وبمجرد وصولها إلى الأماكن المناسبة يعكفون الخبراء على دراستها وكيفية تركيبها.
وما زال الخبراء خارج المصادم يعملون على تصميم المسارع الخطيّ ليناك 64 وقد قطعوا فيه شوطًا كبيرًا.
بينما آخرون يعملون على تكوين أكبر المجسات على الإطلاق وهو مجس أطلس، كان يشير فهمان للخبير فتوضع القطعة في المكان المشار إليه.
انسلبَ فهمان أثناء مشاهدة تشطيبات أعمال البناء ل FCC-2 وتركَ الإنشاءات الفنيّة والهندسيّة وذهبَ إلى حجرته المخصصة له ليشاهد مناقشة رسالة الدكتوراه لصديقه العزيز.
***
فتحَ التلفاز.
تقديم الرسالة: آخر السنة من هذا العام "ليس المراد شهر ديسمبر".
قال الإعلاميّ: بعد لحظات يحين موعد مناقشة رسالة الدكتوراه التي وضعتْ تصورًا لشراع ضوئيّ يستطيع السفر بعشْر سرعة الضوء، وهذا الشراع الآن موضع مناقشة وفحص.
كما أنّها تحتوي على جهاز شامل لكلّ سُبل دعم الحياة أثناء الرحلة طويلة الأمد إلى الفضاء السحيق، وهو أيضًا محل مناقشة وفحص.
هذه الرسالة التي ناقشها خبراء ناسا معه منذ عام ولم يقتنعوا بمحتواها إذ اعتبروها من الخيال العلميّ، مما يترتب عليه عدم دعم ناسا للمشروع.
المناقشة
وبدأت المناقشة بعرضه التقديمي، عرض فيه كل مقترحاته بشأن قاعدة الإطلاق القمرية والشراع والجهاز الشامل.
وانتهى العرض، وانصرفت اللجنة بعدها مباشرة وهي في قمة الضيق والتبرّم.
ولمّا ولجوا بابَ الحجرة سقط كلّ منهما في مكانه يستبقي نفسه وكأنّما كان على أكتافه أثقال طرحها منذ ثوانٍ، ومنهم من أطلق ضيقه زفرات في الهواء، يلوذ بعضهم ببعض لإيجاد مخرج من هذه الكارثة.
فالجامعة كلّها مكتظّة بالناس من أجل تهنئته، والقيادات السياسيّة الأمريكيّة والإسرائيليّة ينتظرون حصوله على الدكتوراه ليفتخروا به أمام العالم.
قال أحدهم: «ما هذا الشراع الذي يتكلّم عنه؟ أيريد أن يُدفع من غير وقود؟ إنّه مجنون.»
ردّ عليه آخر: «يقول إنّ حزم المحطات الليزريّة العملاقة ستدفعه عن طريق استخدام الطاقة الكهربائيّة المتولدة من المحطات الشمسية نهارًا ومفاعلي الاندماج والانشطار النوويّ ليلاً، يبدو أن جاك جُنّ.»
قال واحد منهم: «والجهاز الشامل الذي يدعم الحياة هذا له شأن آخر.»
ثمّ أمسك رأسه بكلتا يديه قائلاً: «رأسي سينفجر.»
قال أفضلهم رأيا: «أنا لدي اقتراح يخرجنا من هذا المأزق.»
حدّقوا به جميعًا وقالوا: «ائتنا به أرجوك.»
قال: «نمنحه دكتوراه في "فيزياء الخيال العلميّ"، وبذلك نتحاشى الصدام مع القيادات السياسية الأمريكيّة، ونتحاشى أيضًا السبّ واللعنات من الشعب الأمريكيّ، ولن يكتب عنّا التاريخ أنّنا غيّرنا ضمائرنا لأنّنا منحناه الدكتوراه في خيال وليس واقع.»
أجمعوا أمرهم على ذلك، وبمجرد خروجهم للمناقشة أعلنوا على الفور منحه الدكتوراه في الخيال العلميّ.
أسكتت الدهشةُ كلَّ الجمْع المتابعين للرسالة فالتصقتْ ألسنتهم في سقوف حلوقهم للحظات، إذ كانوا ينتظرون مناقشة حادة لساعات طوال، حتى أولئك الذين يتابعون عبر الشاشات صمتوا محدّقين بها.
وتخطّفتْ قلوب اللجنة عندما شاهدوا هذا التحديق بهم مع الصمت الرهيب.
وفجأة. هبّوا جميعًا فرحين مهللين شاكرين اللجنة.
صرخ جاك بعد إعلان خبر منحه الدكتوراه بهذا الأسلوب، صرخ قائلاً: «أنا لم أقدّم لهذا العالم خزعبلات أيّها المجانين، أنا لا أهذي، أنا لست مجنونًا. أيّها البلهاء، النجم سيتحوّل، وشراعي سينجح، جنبوا العالم الفناء أيّها الحمقى.»
والناس يتابعون انفعالات جاك وصراخه عبر الشاشات حتى تساقط الدمع من محاجر عيونهم ليعلن هذا الدمع أنّ جاك هو الصادق، وهو الإنسان.
لقد شاهده فهمان وهو يصرخ فقال : لم يعرف أحد أنّك على حقّ إلّا أنا يا صديقي، وأسأل الله أن يلطف بك.
أمّا رئيس ناسا فلم يتمالك دموعه وقال مرتعدًا: كم أخشى عليك يا ولديّ من لؤم هذا العالم، وأسأل الله أن يلطف بك.



اعرف عمق البحر قبل أن تسبح فيه


السنة الثالثة
هذا العام تدفقَ الكثير جدًا من العملة الدولاريّة من المصريين المقيمين في الخارج إلى المصارف المصريّة حتى قيل إنّه لم يعد يملك أيّ مصريّ مالاً في الداخل والخارج إلّا شهادة استثمار المصادم FCC-2.
تمّ إخلاء المصادم من كلِّ العاملين تقريبًا، ولم يوجد به إلّا خبراء ومهندسو التركيبات وبعض المعاونين من الذين ينقلون لهم قطع غيار التركيبات عبر المصاعد، ومن ثَمّ وضعها في الأماكن المخصصة لها والتي سوف تستقرّ فيها إلى الأبد.
وقد تمّ توفير الدعم اللوجستيّ لقطع الغيار من كافة الدول التي يعمل خبراؤها على تصميم وإنشاء المصادم.
ما زال فهمان يجلس ويحاور المهندسين بشأن تركيبات أجهزة المصادم، وما إن ينتهوا من جهاز يضعونه في المكان المخصص له والنهائي لحين اكتمال كلّ التصاميم ليخرج FCC-2 إلى النور.
بينما فريق كاشف أطلس يعملون فيه ليل نهار.
أمّا ليناك 64 وهو الحلقة الأولى المسئولة عن تسريع البروتونات فقد انتهوا منه توًا.
وعلى بداية هذا العام"ليس يناير وإنّما أول السنة الثالثة لبناء المصادم" تمّ عقْد لقاء سريّ بين يعقوب إسحاق ورامسفيلد لإتمام مشروع الشرق الأوسط، على أن يتولى فترة رئاسيّة ثانية مقابل إتمام مشروع المنطقة حتى النهاية.
وفي ديسمبر من هذا العام تولّى جورج رامسفيلد رئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد خوض انتخابات مزوّرة.
وضعوا الخطة وهي الخطوة الثالثة من المخطط الصهيونيّ.
وهذه بعض الشروحات في ورقة الاتفاق بين رامسفيلد ويعقوب إسحاق.
الخطوة الثالثة تنقسم إلى قسمين..
القسم الأول: هو تفتيت كلّ دولة عربيّة إلى دويلات صغيرة.
القسم الثاني: إثارة الخلافات بين هذه الدويلات المفكّكة فيما بينها على الحكم، ثمّ العمل على تأجيج الحروب الطاحنة بينهم بسبب ترسيم الحدود وحصص المياه الدوليّة، وبالتالي تتنازع الدول العربيّة كلّها فيما بينها وتتحوّل المنطقة كلّها إلى دمار.
وهذان القسمان هما التمهيد لدخول أمريكا وحلفائها إلى المنطقة العربيّة.
من التحديّات التي يجب على يعقوب ورامسفيلد إنجازها وهي من القسم الأول .. العمل على إثارة الأكراد على الحكّام وتبنيهم عقيدة الانفصال عن الدولة، وإثارة الشيعة على السنة في الدولة الواحدة، وإثارة بعض التيارات الإسلاميّة التي تنفصل أيضًا عن الدولة، والدعوة إلى حقِّ النصارى لإقامة دولة خاصة بهم داخل دولتهم الأمّ للخروج من الاضطهاد والحفاظ على أمنها وهويّتها ودينها، وبصفة عامة مراعاة حق الأقليات على مستوى العالم في تقرير مصائرهم .
كلُّ هذا يجب أن يحدث ثمّ يقرّه رامسفيلد ليظفر العالم بحالة من الأمن والاستقلال.
ثمّ يأتي دور التحديّات الخارجيّة وهي القسم الثاني ..
منها العمل على تأجيج الخلافات القديمة، والتي كانت تظهر بوادرها أحيانًا وتختفي مرّة أخرى على مرِّ تاريخها ألَا وهى النزاعات الإقليميّة، سوف تتأجج اليوم بفعل الوقود اليهوديّ الأمريكيّ الذي سوف تلقيه على نيران الفقر والحاجة لدى هذه الشعوب فتشتعل مطلقة أبواق الحروب، مستغلة في ذلك نقص مصادر المياه وقلة النفط في المنطقة.
وبالتالي سيعملون على تفشّي الحروب بين دول المصبّ والمنبع فيما بينهم.
كذلك من التحديّات لهذا القسم إثارة العراق على إيران والعكس، والجزائر والمغرب، وسوريا على تركيا والعكس، وكذلك السودان على مصر والعكس، و... الخ .
السنة الرابعة والأخيرة
نصب المجسات
وهي المسئولة عن رصد الجسيمات التي تنتج نتيجة ارتطام البروتونات.
-تمّ وضع الكواشف في مكانها وهي بالضبط ..
-كاشف أطلس ATLAS .
-وكذلك ال CMS كاشف الميون اللولبي المدمج.
-وكاشف أليس ALIC.
-وكاشف LHCB W ويطلق عليه "الجمال beauty".
-كاشف مُتعقّب الألياف الضوئيّة اختصارًا SciFi، يجمع مائة ألف كيلومتر من الألياف الضوئيّة ويبلغ قطر كلّ منها 0.20 ملليمتر وبزيادة عدد الألياف عمّا كان عليه في سيرن تزداد درجة كشفه لنتائج الارتطام .
كلّ هذه الكواشف ترصد البيانات الناتجة من ارتطام حزمتي البروتونات.
-تمّ نصب المغانط: وهي تقوم بتسريع البروتونات التي تسير في الأنبوبين.
-تمّ نصب الأنبوبين فائقي التخلية وفيهما تتسارع حزم البروتونات لحين التصادم.
-شبكة الحوسبة: وهي المسئولة عن إحصاء نتائج التجارب التي رصدتها المجسات.
-جهاز الليزر الفائق: هذا الجهاز لم يدخل في تكلفة المصادم ولم يصممه خبراء المصادم بل هدية أرسلتها الصين إلى مصر رغبة منهم في التعاون المصريّ الصينيّ في مجال التكنولوجيا.
-التكلفة: لقد بلغ تكلفة إنشائه مائتي وتسعون مليارًا من الدولارات، تشمل مرتبات الخبراء والعمال.
وأصبح من الواضح أنّ الشعب المصريّ على حافة الهلاك بسبب مجاعة قد تضرب البلاد خلال بضعة أشهر.
فمعظمهم الآن ينامون على الأرصفة عرايا بعد بيع خيامهم وجحورهم وملابسهم المرقعة .
ينامون على الأرصفة ويسيرون في الطرقات بالفانلة والشورت المرقعين .
خلال الأربع سنوات الماضية تمّ إنشاء مصادم فهمان، مصادم الهادرونات المستقبلي FCC-2.
وهذه فترة قليلة جدًا لبناء مصادم بهذا الحجم بسبب توفر إيجابيات ساعدت على إنجازه بهذه السرعة.



منها حبّ الشعب لمهديّ، وتطور الآلات في هذا الزمن، وتسارع الخبراء من كافة أنحاء العالم للمشاركة في بنائه رغبة من كبار ساساتهم أن يكون لهم دور فعّال فيما بعد في حسم الحرب المحتملة عن طريق اكتشاف سلاح جديد من هذا الصرح العلميّ، وكانوا يأملون منهم صناعة سلاح يفتك بالأسلحة النوويّة.
أمّا أقوى عامل على الإطلاق هو رباط الجيش المصريّ بجانب المصادم.
لقد كان دور الجيش المصري دورًا ثلاثيًا، ففضلاً عن الإسهام الذي فرضه مهديّ عليهم فقد كان الدرع الحصين بمخابراته ضد أيّ فوضى قد تحدث خلال عمليات الحفر والبناء وتصميم الأجهزة.
و كانوا يعملون ويحملون على أكتافهم الثرى ويصطفون أفواجًا ويسيرون سير العسكريين، كانوا خدمًا للفنيين من مصممي المصادم لكن الواحد منهم يحمل عزة وشرفًا ليس لهما نظير.
وقد كان مهديّ يتابع أعمالهم في موقعهم عن طريق عمل زيارات على فترات متباينة ليشدّ من أزرهم ويبثّ فيهم روح العزيمة والإصرار، كذلك كان يتابعهم عبر كاميرات المراقبة التي تصوّر الموقع كلّه.
وقد كان كثيرًا يطأطئ رأسه تعبيرًا عن الرضا حتى كاد أن يقول لهم إنّي راضٍ عنكم فهل أنتم راضون عنّي.
وكان يشعر في نفسه أنّه أبوهم وأخوهم حتى عندما يُجرح أحدهم كانت مشاعره النبيلة هي التي تضمد جراحهم.

الافتتاح الكبير للمصادم fcc-2
في مشهد عظيم حضره الرئيس مهديّ وصحب معه أعضاء المجلس العسكريّ وبعض رؤساء العرب الذين نجت بلادهم من الفوضى، كما أنّهم نجوا أيضًا من كمين الصراعات الإقليميّة وحصص المياه، شأنهم في ذلك شأن مهديّ.
كما حضر وزراء وسفراء ودبلوماسيّون من قارتي آسيا وأوروبا.
وفضلاً عن الخبراء الذين شيدوا المصادم تحت قيادة الفذّ فهمان فطين المصريّ، فقد حضر خبراء آخرون أكثر عددًا، وبذلك تجاوز عددهم عشرة آلاف فرد.
هذا الجمع السياسيّ والعلميّ حضر للافتتاح والذي ستتمّ فيه أول تجربة على أعظم مختبر علميّ شُيد في التاريخ.
وعلى شاشات التلفاز يشاهد الاحتفال معظم رؤساء الدول الأوربيّة والأسيويّة الذين أرسلوا خيرة خبرائهم لعلّهم يساعدونهم في حربهم المحتملة على أرض العروبة.
يتعشّم أكثرهم أن يأتوهم بتقنية طائرة مقاتلة محجوبة عن الرؤيا، أو ابتكار شيء يسير بسرعة الضوء كالانتقال الفوريّ البعيد.
وعلى طول مائة وعشرين كيلومتر احتشدتْ الجماهير المصريّة من جميع أنحاء الجمهوريّة، خرجوا من الأكواخ والخيام والكهوف والمنازل التي يقطنونها إلى الحضارة التي كادتْ تلامس السماء والممتدة من أنفاق تحت الأرض حيث يوجد المصادم fcc-2.
تظهر معظم الأطفال في صحبة أمهاتهم وآبائهم، تستخرج الأمهات رغيف الخبز ويقطّعنه أرباعًا، وأمهات أخريات يقطّعنه أخماسًا وأعشارًا ثمّ يناولنه في أيادي أطفالهنّ.
وملابس الرجال والأطفال والشيوخ لا تكاد تستر أجسادهم وخاصة الرجال والشباب، أمّا الأطفال فكان آباؤهم وأمهاتهم يقطعون من ملابسهم ليوصلوها في ملابس أطفالهم على هيئة رقع.
وتظهر فئة لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة، هيئاتهم حسنة، يستقلّون سياراتهم التي لا يُسمع أصواتُ هديرها بسبب دبيب أقدام أصحاب الكهوف.
شرعوا كلّهم للاحتفال، فكانوا يصفّقون بأيديهم ويصفّرون بشفاههم ويقرعون الأرض بنعالهم.
من بعيد يشاهد الساسة والخبراء التمثال الرابض فوق النفق، ترفرف أجنحته لا تكلّ ولا تملّ، إنّه تمثال فطين المصريّ الذي لولاه ما بُني هذا المصادم.
ويحدّق فهمان الواقف بمقدمة لفيف الخبراء والفيزيائيين إلى أبيه المنتصب فوق المصادم وهو يتمسّح بخطابه باكيًا، يقول: صدقت أبتِ ها أنا بجانب رئيس بلدي يحوطني برعايته.
والآن، الآن، حانتْ لحظة التقدّم، يتّجه مهديّ والسياسيّون إلى البوابة الرئيسة للمصادم لافتتاح المختبر.
يتبعهم فهمان ومن معه من الخبراء.
الآن.. الآن..
حانتْ لحظة الافتتاح ، فُتحت البوابة الرئيسة، فتقدّم وزير الدفاع ليفسح الطريق للرئيس مهديّ ووزراء وسفراء ودبلوماسي البلاد الغربيّة والعربيّة، بيد أنّ الرئيس مهديّ نظر إليه بازدراء وأدار سبابته نصف دائرة في الهواء مفتوحة باتجاه الأرض وقال: «غبن، غبن يا سيادة الوزير.»
ثم قال مستدركا: «ألمْ تنحدر مصر بسبب هذا على طول القرون الماضية؟! ألم نقبعْ في دهاليز التخلف ونغرقْ في بحار لجيّة بسبب هذا يا سيادة الوزير؟!»
لم يفهمْ الوزير ما يروم إليه الرئيس مهديّ فسأله دهشًا: «ما أغضبك سيادة الرئيس؟»
فردّ مهديّ متأثرًا: «أتريد أن نهوى بعد أن اعتلينا السحاب، أغضبني نسْب الفضل إلى غير أهله، أغضبني تقدّم مَن وجب عليه أن يتأخر، وتأخّر مَن وجب عليه أن يتقدّم.»
ثمّ أومأ بيده إلى فهمان وقال: «هذا الشبل.»
ثمّ أومأ بها عاليًا نحو التمثال فقال: «من ذاك الأسد.»
ثمّ نظر إلى فهمان وقال: «تقدم يا ولدي ونحن خلفك، حُقّ لك أن تتقدّمَ بعد أبيك الشهيد.»
فترك فهمان موقعه من بين الأساتذة ويُبكيه خطاب أبيه الذي ألصقه على صدره، وتقدّم ليفتح باب العلم والحضارة، ليفتح المصادم.
وتقدّم من بعده الرئيس مهديّ وبقيّة الجمْع.
وتمّ الافتتاح وتأهبّوا لعمل تجربته.
من الخارج التفّ بعضُ الأساتذة حول المسرع ليناك 64 لوضْع دفقات البروتونات للعمل على الطاقة المنخفضة له حتى يطمئنوا عليه.

 

إبراهيم امين مؤمن غير متصل   رد مع اقتباس