منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - حاملت!
الموضوع: حاملت!
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-13-2018, 03:07 PM   #2
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


الزائر







(يحكيه أحمد شكري )











كانت ليلة باردة لكن بلا أمطار ...

وقفت في الشرفة أتأمل المساحات الشاسعة من الحقول المحيطة بمنزلي الريفي ..لا شيء سوى صوت صرصور الغيط الرتيب ونقيق الضفادع الذي يبعث على النوم حقيقة ..لكنني نمت بما فيه الكفاية ..لعلي الوحيد الذي لا يحلو له الكتابة إلى على أصوات صرصور الغيط ونقيق الضفادع ..فقط أنا بانتظار أن تأتي الفكرة ..



النداهة .. تباً يا للسخافة .. هذا بسبب تأثير جو الحقول على مخيلتي ..



إذن فلنحاول الابتعاد عن الحقول والصراصير والضفادع ..أغمضت عيناي ..الجو يزداد برودة من حولي ..هناك ندف من الثلج بدأت تلامس أنفي ..ضباب وغابات تكسوها الجليد ..سأتجمد لو بقيت لحظة أخرى في هذا العالم ..



فجأة أضاء مصباح الإلهام في عقلي .. وفتحت عيناي ..

وجدتها...

هممت بالدخول وغلق باب الشرفة قبل أن تهرب الفكرة لكنني

سرعان ما تجمدت في مكاني ...

استدرت في بطء .. عيني تجوب الحقول التي كساها

الظلام بكساء من الرهبة والغموض ..كانت هناك بعض الأضواء

القادمة من الطريق السريع على بعد عدة كيلومترات لم تزد الأمر

إلا رهبة ..لكن عيني كانت مثبتة على شيء ما يتحرك هناك ...

شيء له معالم بشرية .. لكنها لاتبدو مألوفة.. لايبدو من أهل القرية ...

و ليس من سكان المريخ حتى لا تذهب بعيداً ..

إنه يقترب في تؤدة من منزلي المتواضع ..تباً ..لم آت ههنا

من أجل استقبال الفضوليين ..لقد تركت القاهرة المزدحمة بكل

ضوضائها وعوادمها السامة وجئت إلى منزلي الريفي بحثاً عن

فكرة جديدة ..من ثم أعود مظفراً بقصة جيدة تصلح للنشر ...

لكن هذا الغريب جاء ليعكر خلوتي و ...

لقد صار على مسافة قريبة جداً ودخل دائرة الضوء المحيطة

بالمنزل ...لكن أي مهرج هذا ؟ ..



توقف أسفل الشرفة ..ورفع طرفه إلي مبتسماً في ود..

ذكرتني ملابسه الغريبة بمشهد روميو وهو يتودد إلى محبوبته جولييت

أسفل الشرفة ..ممثل مسرحي كان يؤدي أحد الأدوار الشكسبيرية

وضل طريقه إلى المسرح .. المشكلة انه لايوجد مسرح قريب من هنا والمشكلة كذلك أنني – لو لاحظتم – لا أشبه جولييت لو كان الأحمق

يفكر في ذلك ....

لوحت له بكفي قائلاً في سخرية :

- مرحبا ..السيرك ليس من ههنا..

انعقد حاجبيه كأنما يفكر في معنى كلامي ... هل هي إهانة أم ...

أخيراً صاح بلكنة غريبة لاتصدق :

- لقد فررت من عالمي ولجأت إليك ..لقد قطعت مساحات شاسعة

من الفيافي والقفار حتى أصل إليك ..

هرشت رأسي في محاولة لاستيعاب الموقف ... الموضوع

ليس موضوع ممثل مسرحي إذن ..هذا المهرج قادم من أجلي ...

- حسناً .. لكن كيف سمحوا لمثلك بالفرار من مستشفى الأمراض العقلية؟

صاح بأسلوب شكسبيري راقي وهو يلوح بكفه بحركة مسرحية :

- عفواً أيها السيد ..أنا لا استوعب الكثير من مصطلحات عصركم

لكنني ـ لو سمحت لي ـ لن أظل واقفاً هنا للأبد ..فليسمح لي السيد

بالدخول ...



ـ والله !.. أعطني سبب واحد يجعلني أسمح لك بالدخول .. ؟

هنا وقف في اعتداد وقفة ملوكية وانسدلت حرملته الزرقاء حول

كتفية فأضفت عليه هيبة ووقار..

ـ لقد فررت من عالمي وجئتك طالباًالعون ...

ثم اكتسى وجهه بحيرة مفاجئة لا أدري سببها وهو يستطرد :



ـ أنا هاملت أمير الدنمارك !



***

كان هاملت يرتجف .. وقطرات المياه تتساقط من شعره المبلل

وكنت أنا أحاول جاهداً تجفيف حرملته العجيبة بشتى الطرق

أخيراً وضعتها على حبل الغسيل وثبتها جيدا من ثم تركتها لتسقط من فورها ....



تباً ..نظرت إليها ملقاة في الشارع ثم نفضت كفي وعدت إليه في براءة ...

قلت له محاولاً الاعتذار..

- لا أجد كلمات مناسبة اعتذر بها عما حدث ..

نظر لي في حيرة وأسى قائلاً :

ـسكب المياه على الزائرين طريقة غريبة في الترحيب ..



تنحنحت قليلاً في حرج قبل أن أقول :

- في الحقيقة لم تكن تلك طريقة في الترحيب ..ظننت أنها خدعة

ما وأنك ـ عفواً- تسخر مني ...

قال في عدم فهم وعينه تجوب أركان المنزل :

ـأسخر منك ..! أنا لا أفهم طبيعة تفكيركم .. أخشى أن يكون هذا عائقاً أمام تلبية رغباتي ..



كدت أسأله عن طبيعة رغباته التي دفعته لزيارة كاتب مثلي

فتذكرت أنني نسيت الشاي على الموقد فقمت كالملسوع وعدت حاملاً صينية الشاي.. شاي لهاملت أمير الدنمارك !..الحقيقة أن هذا أفضل ما يمكنني تقديمه.. فأنا لا اتخيل هاملت يشرب حلبة مثلاً ..أو كراوية ..

رباه ..شيء رهيب هو ذاك الذي يدفع هاملت شخصياً للخروج من عالم شكسبير محطماً الحاجز بين الواقع والخيال .. رشفت عدة رشفات من الشاي ناظراً إليه في ترقب.. متى سيبدأ في الكلام ..؟



حتما سيموت بعد أول رشفة وسأجد نفسي في ورطة ..

تذوق قليلاً من الشاي ثم نظر لي في قرف وقال :



ـ تشربون أشياء غريبة في عالمكم ...

- إنه يساعد على التركيز ..

شاع في وجهه الارتياح على نحو مفاجئ وقال في حماس :

- جيد جداً فالموضوع الذي جئتك من أجله يحتاج منك أكبر قدر

من التركيز ...

- سأموت كمداً لو لم أعرف ذلك الموضوع ...



هنا وضع هاملت كوب الشاي على المنضدة أمامه ..ثم قرر أن يفصح :

- لم يكن خروجي من عالم شكسبير تجربة سهلة .. بل كان تمرداً صريحاً

على ذلك الأديب العملاق ومن أحد أشهر شخصياته .. أنا لست هاملت ابن الملك القتيل

بقدر ما أنا ابن شكسبير ذاته...لكنني اتخذت القرار واخترتك من بين سائر الكتاب لتدون لي قصتي بعيداً عن أغلال شكسبير ...

ازدرت لعابي بصعوبة ..قلت له بجدية :

- اخترتني أنا ... أنا لست ديكينز حتى تقارن بيني وبين والدك شكسبير

- لهذا السبب اخترتك ..أنت كاتب مغمور ..لو سمحت لي أن أقول

لذا لن يتوقع شكسبير وجودي عندك ..لعله الأن يتشاجر مع الكسندر دوماس متهماً إياه بخطفي أو يجذب لحية ديستوفيسكي لعلي أكون مختبئاً تحتها ..لكنه لن يفكر في وجودي هنا أبدا ..

بدأت أعصابي تتوتر ..تخيلت الأخ شكسبير يجوب الشوارع بحثاً عن بطله

الهارب والويل كل الويل لمن يأويه .. انتزعت نفسي من أفكاري السوداء



ونظرت إليه فوجدته يبتسم في ثقة..قال :

- أنا واثق أنك ستفعلها ...

قلت كاتما غيظي :

ـ ومن أين أتيت بتلك الثقة ؟ ....

نظر لي ملياً كأنما يستعيد ذكرى وجه ما .. قال في ارتياح :

- أنت تذكرني به دائماً ... هورشيو صديقي الصدوق ..مصدر الحكمة في روايتي وهو كذلك راويها ..فلم نبتعد كثيراً إذن.

حاولت هضم كوني أشبه هورشيو لكنني لم استسغ ذلك .. كلامه يبدو مدحاً

من جهة ..وربما كان خدعة لتوريطي في الأمر من جهة أخرى وحينما يظهر شكسبير أتحول لكبش فداء..

- اسمع أيها الأمير الشاب .. بما انني أذكرك بصديقك هورشيو الحكيم فعليك أن تستمع لصوت الحكمة في كلامي ..ليس من الحكمة أبداً أن نتحدى شكسبير متوهمين أننا قادرين على صياغة قصته بشكل أفضل ..ثم ما الداعي لذلك أصلاً ؟

مالذي لا يعجبك في قصتك ؟



تناول هاملت كوب الشاي وأفرغ ما بقى منه في حلقه دفعة واحدة كما يفعل السكارى في الحانات محاولين نسيان هموم الواقع الأليم ..



ثم نظر إلي بعينين حمراوين كالدم ..وأجاب :

ـ بل قل ما الذي يعجبني ..عمي الذي قتل والدي ..أم أمي التي تزوجت عمي قاتل والدي .. أم حبيبتي أوفيليا التي ماتت بسببي.. أم ...

وتوقف قليلاً وهو يتحاشى نظراتي وكأنما يقول لي :أنت تعرف الباقي..



قلتله مكملاً عبارته المبتورة :

- أم.... موتك في نهاية القصة ...اليس كذلك ..؟

هز رأسه في بطء وأسى فابتسمت أنا متخيلاً مدى لغز الحياة ومدى تعلقنا بهاحتى لو كنت مجرد شخصية خيالية خرجت من إطارها الأدبي لكي تطالب بحقها في البقاء ..

قل هذا ياصديقي ولا تصدع رأسي بحديثك عن والدك القتيل وعمك قاتل أبيك وامك الخائنة وحبيبتك التي ماتت في غمرة انتقامك ...

ـ تريد كما نقول نحن ..فيلم عربي ...

- لا افهم ما تقصد ..المهم انني أريد قصة بعيدة كل البعد عن المأسي والكروب..والدسائس والاغتيالات ...



عقدت ساعدي أمام صدريونظرت إليه في ثبات ..

- لن يكون هذا سهلاً .. سوف أساعدك فقط ليكن الأمر سراً بيننا ولاتخبرأحداً بعلاقتي بالقصة ...

ـ حتى لو أخبرت أحداً ..قلت لك أنت كاتب مغموووووور ...

قلت وانا اتحاشى لكمه في أنفه المتغطرس :

ـ سمعت هذا من قبل .. وكلمة مغمور تلك ستفت في عضدي ولن أخرج

لك النص الأدبي الذي تريده ..واضح ...

لوح لي بكفه قائلاً :

- واضح ..فقط ..أعطيني النص البديل أرجوك ..

جذبت نفس عميق وأغمضت عيناي في محاولة للتركيز .. يريد قصة بعيدة

كل البعد عن المأسي والكروب والدسائس والاغتيالات و..

هنا فتحت عيناي على اتساعهما وصحت في انتصار :

- وجدتها ... خذ عندك .....



***

 

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس