منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قردة وخنازير (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-17-2019, 05:25 PM   #13
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


المتمرد

(1)

كتب باسم على الجدار :
( الاكتئاب في ذروة المجد البشري..)
ما حدث لصديقه وجاره إيهاب كان درساً قاسياً له ولغيره.. لقد زاره في وحدة مجانين إلوسيوم، ورأى بعينيه ما صار إليه.. صحيح أن الأطباء يقولون أنه يعاني من صدمة مؤقته، وأنه قد يعود لحياته الطبيعية من جديد. لكن باسم كان قد اتخذ قراره النهائي.. لابد أن يتوقف عن ارتياد العوالم الافتراضية التي تدفع الناس للجنون ببطء..
كان ينبغي عليه أن يكف يوم أن طلق زوجته ليلى في إحدى تلك العوالم..
المشادة جرت بينهما داخل لعبة ( الزومبي يجتاح المدينة ).. والسبب كان الخلاف على طريقة اللعب.. اللعبة زوجية وتقتضي اللعب بروح الفريق وإلا فتك بهما الزومبي الحانق.. لكن الأمور تطورت بينهما وحدث ما حدث..
لكن هل طلقها فعلاً بسبب تلك المشادة؟ أم لأنها فشلت في منحه الطفلة التي كان يتمناها.. كان بعكس غالب الرجال الذين يتمنون إنجاب الذكور ويتعبون معهم زوجاتهم.. لكن هذا لم يشفع له لدى زوجته.. لم تعطيه الطفلة التي تمناها من الدنيا .. ولم تكن ممن يتحلون بالروح الرياضية في اللعب كذلك!
الزواج في ذلك الزمن يحتاج شجاعة غير عادية.. إنه كزواج اليعاسيب.. تعرف أنك ستموت مبكراً جداً بالسلالي، فيكون قرار زواجك معناه أنك تريد أن تفعل شيئاً ما قبل أن تموت.. على الأقل ستجد من يدفنك.. والطلاق قبل الإنجاب معناه أنك غالباً ستموت وحدك كالكلب..
ثم حدثت واقعة صديقه إيهاب، فدق جرس الإنذار في عقل باسم وقرر أن يقلع عن ارتياد العوالم الافتراضية للأبد..
لكن فائدة العوالم الافتراضية أنها تنسيك واقعك الكئيب.. ومعنى أن تقلع عن ارتيادها أنك ستصاب بالاكتئاب.. إذن أنت مخير بين اختيارين إما الاكتئاب أو الجنون.. وهكذا فضل الاكتئاب فصار ملفه في العمل يحتوي على الكثير من الدوائر الحمراء المشعة، والتي كلما ازدادت كلما ازدادت احتمالات طرده من العمل..
من قال أن الاكتئاب لن يصل بك لحد تلف الأعصاب والجنون.. كل شيء في هذا العالم يقود للجنون في النهاية..
لهذا تلفت أعصاب باسم وصار كالقنبلة التي تنتظر الأحمق الذي سينزع فتيلها..

***

كان يعرف أن بقائه حياً مرهون بالوقت الذي سيستغرقه فحص حالته شرائحه في وحدة مكافحة التمرد. هل هي حالة تمرد أم جنون؟
وكان باسم ينتظر.. يخط على الجدار عبارات تسخر من النظام العالمي الجديد، ثم يستلقي على ظهره وينظر لسقف وحدته.. أحلام اليقظة هذه لا تتركه وشأنه .. حلم الفرار من ذروة المجد البشري..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
ويستيقظ من صحرائه على صوت أزيز شرائحه الذكية الجائعة.
لكن مهلاً هذا الأزيز يبدو أكثر حدة هذه المرة.. كما أنه قد بدأ يتشنج.. أه.. يبدو أن ساعته قد حانت.. في الصباح سيجدونه قد مات بالسكتة الذكية..
تمرغ في الأرض.. حاول التشبث بأحد قوائم الفراش، لكن أعصابه خانته .. ها هم قد جاءوا من أجلك..
***
ادخلوه في كابينة تخاطر تشبه ثمرة خرشوف كريستالية، ثم قاموا بسرد تاريخه المظفر أمام عينيه، قبل أن تظهر له صورة ثلاثية لفاتنة شقراء تلوك اللادن.. أعلنت له أنه مواطن ذو سجل غير مشرف.. إنه عار على مقاطعة إلوسيوم المجيدة.. هنا انفجر فيها باسم:
ـ وما الجديد أيتها القردة الشقراء؟
تباطأت سرعة مضغها للادن وكأنها تزن كلمات باسم الغريبة..
ـ هل تراني قردة شقراء؟
قال ملوحاً بذراعه في وجهها :
ـ نعم.. أنا أراك قردة شقراء.. لا تنس تدوين ذلك في سجلي الغير مشرف..
هتفت كأنها تخاطب شخص أخر لا يراه باسم :
ـ لديه هلوسة بصرية كذلك يا سيد جاد..
وثب باسم ناحية صورتها ثلاثية الأبعاد، وظل يوجه لها لكمات متتالية وهو يصيح :
ـ أنا لم أخرج كل ما لدي بعد يا أبناء الـ... هه.. هه..
ـ جنون عام.. مسكين..
وقف يلهث من فرط الجهد، لكنه شعر بتحسن حتى توقع أن يرى وجه الشقراء متورماً.. صاح وهو ينظر لوجهها البارد في غل :
ـ متى ستذهبون بي إلى الشريحة صفر؟
سألته باستمتاع:
ـ من قال لك أن هناك شريحة صفر..
ـ أكيد هناك واحدة..
ـ المؤكد أن هناك وحدة خاصة للمجانين..
خر باسم على ركبتيه وقبض على عنقه صارخاً :
ـ بل أريد أن أذهب للشريحة صفر..
اختفت صورة الفتاة، وسمع صوت باب الخرشوفة الكريستال يفتح.. استدار ليجد ذلك الروبوت العملاق ذي الكلابات يقترب منه.. وقبل أن يبدي أي حركة أطبقت كلاباته على أطرافه الأربع وثبتتها إلى الأرض..
بعدها شعر بتلك الوخزة فتشنج جسده قليلاً ثم بدأ يرتخي.. لقد تم حقنه بمخدر ما.. شعور لذيذ ووعيه يتسرب منه كما يتسرب الهواء من البالون المثقوب.. لقد ثقبه ذلك الروبوت؛ لذا سيظل يطير كأي بالون يحترم نفسه .. يطير.. يطير .. حتى يصل إلى ذاك الكوكب البعييييييييد............
...........................

***

حينما فتح عينيه ثانية وجد نفسه مقيداً في فراش وهناك خراطيم تدخل وتخرج من كل شبر في جسده.. حوله عدد من الصور ثلاثية الأبعاد تصور فصوص دماغه.. حركة أمعائه.. قلبه.. هناك رجل ودود يبتسم له برقة وهو لا يدري إن كان حقيقة أم صورة ثلاثية أخرى.. كان يرتدي زي الأطباء المميز..
قال له الودود :
ـ عود أحمد..
انفرجت شفتي باسم عن ابتسامة منهكة وهو يتمتم :
ـ لم أر أحدهم يبتسم في وجهي منذ قرون.. هل أنت حقيقي؟
اقترب منه الودود وهو يقول :
ـ لقد وجدنا أنك مجنون بشدة..
ـ ولي الشرف..
ـ سيتم إيداعك في وحدة خاصة بالمجانين الخطرين..
ـ أحب العزلة..
مال عليه الودود بوجهه وازدادت ابتسامته وهو يقول بخفوت:
ـ حمداً لله على سلامتك يا بطل..
همس باسم وهو يشعر بثقل في جفنيه:
ـ بطل؟
ـ تكلم على راحتك.. المكان نظيف كقلب طفل.. ولقد تم تخليصك من كل الشرائح البغيضة التي زرعوها في جسدك لتحصي عليك أنفاسك..
ـ من أنت بالضبط؟
ـ يمكنك أن تعتبرني مندوباً من عند الرفاق..
اتسعت عينا باسم وبدأت ضربات قلبه تتسارع.. الرفاق هو الاسم الذي يطلقه المتمردون على أنفسهم.. لكنه ممنوع على أي مواطن خاضع للنخبة بأن يسميهم بغير اسم المتمردين..
ـ كيف؟
تساءل باسم بصوت مبحوح فبدأ الودود يشرح له.. إنهم يرصدون أي بادرة تمرد تطرأ على مواطني الشريحة جـ الكادحة.. من ثم يتدخلون في الوقت المناسب لالتقاطهم.. من حسن الحظ أنهم نشطون جداً في مقاطعته إلوسيوم، لذا فحينما أفقدوه وعيه في وحدة التخاطر وقاموا بنقله للوحدة الطبية للكشف على قواه العقلية، كانوا لا يدرون أنه سيكون بانتظاره مندوب من الرفاق يتولى أمره..
ـ التنظيم لا يقبل متطوعين أبداً.. بل هو الذي يختار دائماً..
قال باسم وقد بدأ يستوعب المفاجأة:
ـ لقد كنت بدأت أشك في وجودكم أصلاً..
ـ هذا جزء من خطة الخداع..
الآن هو خارج عن سيطرة النظام العالمي.. لم يشعر في حياته بمثل هذا الإحساس.. كلمة حر لا تعبر أبداً عما يجيش بنفسه الآن..
ربما عبرت تلك العبرة الحانية التي سالت على خده.. سينضم للأخيار ويحارب الأشرار.. تماماً مثلما كان يفعل في ألعاب الفيديو..
ـ ماذا بعد؟
قالها وهو يغمض عينيه مسترخياً في فراشه فسمع صوت الودود يجيب :
ـ سيتم إرسالك إلى مقاطعة أخرى لتبدأ فيها من جديد مع إحدى أسرنا هناك.. ستذهب إلى .. تارتاروس..
فتح باسم عينيه متسائلاً :
ـ تارتار ماذا؟!
ـ تارتاروس.. ستصير هناك شخصاً مختلفاً.. ستنس كل شيء عن حياتك الماضية.. أنت منذ هذه اللحظة إنسان جديد..
تمتم باسم :
ـ أنتم متغلغلون جداً في النظام العالمي..
ـ النظام العالمي كأي نظام لا يخلو من الثغرات .. ونحن نحسن استغلال تلك الثغرات..
هنا سأل باسم سؤالاً مباشراً :
ـ ماذا تريدون من النخبة ؟
ظل الودود صامتاً وإن كف عن متابعة الشاشات.. ثم استدار ببطء ليواجه باسم.. لقد تلاشت ابتسامته الودودة وحلت محلها صرامة وقسوة غير عادية وهو يجيب:
ـ لا نريدهم على الإطلاق.. العالم سيكون أفضل بدونهم..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس