منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قِصصٌ تُروى .
الموضوع: قِصصٌ تُروى .
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-16-2009, 08:43 PM   #17
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

الصورة الرمزية عبدالعزيز رشيد

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2212

عبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي عدي الحربش (علي الزيبق)



(*Zytglogge)




"الوقت العجوز؛ ذاك الذي يدير العجلة، الأطول و الأعظم من الجميع! مصنعه مكانٌ سريّ، عملهُ صامت، و يداهُ خرساوتان"

(تشارلز ديكنز)


-1-

ينتصبُ برجُ الساعة (التزيت كلوكه) في الجهة الغربية من مدينة بيرن القديمة، و لو توقفتَ لأربعِ دقائق قبل تمامِ الساعة، لرأيتَ قافلةً غريبةً من ثلاثة دببةٍ معدنية تنبعتُ من أحدِ شبابيك الساعة الشرقية؛ أولُها يمشي على أربعة أقدام، و ثانيها على قدمين، و الثالث يمتطي جواداً مُطهماً. فوقَ الشرفة، يجلسُ مهرجٌ أحمرُ الملابس، هو في سحنتهِ أقرب إلى الشيطان، ما إن يرى قافلة الدببة حتى يبدأ بسحبِ يديه الإثنتين ليقرعَ الأجراس المعلقةَ فوقَه، و كأنهُ يقول: "أنا حارسُ الساعة، أنا حارسُ الوقت، أنتم تموتون و أنا أبقى، أنتم تبكون و أنا أضحك."

في الجانب الغربي من الساعة، تدور العقاربُ الذهبية الحاملة نقوشَ الشمس و القمر و النجمة و الضوء، بينما تتوزع ملامح أربعة أشخاصٍ على اللوحة المرسومة كخلفيةٍ للساعة: كورونوس (إله الوقت، و النسخة البدائية من الشيطان)، آدم و حواء و هما يخصفان من ورقِ الجنة و يداريان بهِ سؤاتيهما، و ملاكٌ مصفح بالحديد، تلوحُ فوق رأسه هالة ضوئية، يمسكُ بالسيفِ عامودياً في وجه آدم و حواء، ليسدَّ بهِ طريقهما إلى الجنة، و ليعلنَ بذلك عن بدايةِ الزمن الأرضي، بعد ارتكاب الخطيئة الأولى حسب القصة المسيحية.

هل هذه هي بداية الوقت كما حلا للفنان فيكتور سوربيك تسمية لوحته المنقوشة على وجه الساعة؟ و هل للوقت بداية أو نهاية؟ و هل له وجود ماديّ أصلاً؟ أسئلة لا حصر لها بدأت مع بداية الانسان، و لن تنتهي إلا بنهايته، و ليس أقلها أهمية ذاك السؤال الذي خطر في بال الشاب البيرني "ألبرت إينشتاين" و هو يراقب "التسيت كلوكه" أثناء ابتعاده عنها في الترام:

هل الوقت عالميّ أم فردي؟ مطلقٌ أم نسبي؟

"لو حملتَ ساعةً معك في الترام، و انطلقتَ مبتعداً عن "التسيت كلوكه" بسرعة الضوء، فإنّ عقارب "التسيت كلوكه" ستتوقف، بينما سيستمر دقّاقُ ساعة معصمِكَ بالدوران."

هكذا كانت إجابة إينشتاين في ذلك العصر الذي كانت فيه الأسئلة تتوالى محاولةً استبدال الإطلاق بالنسبية، و العالمية بالفردية. بدل عالمية أخلاق كانط، هناك سوبرمان نيتشه! بدلَ الأديان ذات الأجوبة المطلقة و المتسامية هناك الأسئلة الوجودية التي لا تتحقق إلا باتخاذ الفرد لخيارِه الحرّ.

"الفردُ يحملُ وقتَه معه، الفردُ هو مرجعية كل شئ، لا حاجةَ إلى المطلق، لقد استُبدِل اللهُ بالفرد!"

عُذراً سيد إينشتاين! لا يمكنني أن أعرضَ إجاباتِك هذه دون أن أحكيَ قصةً دارت أحداثها في جوف الساعة التي أوحت لك بنظريتك النسبية، في جوف "التسيت كلوكه"، جوف البرج..

في ذلك الوقت الذي كان فيه برجُ الساعةِ يُستخدمُ لحبسِ المومسات اللاتي يتعرضن لرجال الدين و يحاولنَ إغوائهم..



-2-

في تلك الليلة الباردة و المظلمة التي بدأت فيها قصتنا، كانت قطرات المطر تتساقط من أعالي السماء بشكل محموم و متتابع. انتفض أسقف كاتدرائية بيرن من فراشه، و انطلق مسرعاً نحو الشرفة المفتوحة في أعالي البرج الذي يحوي منامته. عند الشرفة، أخذ الأسقف العجوز يتطلع في الظلمة الحالكة، و يستنشق هواء الليل البارد، و هو يحاول أن يبعدَ عن ذهنهِ تفاصيل حلمه الرطب الذي أيقظه مفزوعاً من نومه. كان جرس برج الساعة يقرع في الخارج مؤذناً عن حلول منتصف الليل.

لم تفلح محاولات الأسقف العجوز في التخلص من تفاصيل حلمِهِ الذي أمتعه و أفزعه في نفس الوقت، إذ سرعان ما رمى الأسقف نفسَه في ثنايا هذه التفاصيل و هو يحاول استرجاع ملامح وجه المرأة التي رآها عاريةً وسطَ حلمِه.

في الحلم؛ كانت السماء صافيةً و فسيحة، و كانت الشمس مشرقةً و مريحة، بينما ارتمت التلال الخضراء في الأفق لتعطي الحلم خلفيةً بانورامية هائلة. على ضفة النهر، كانت امرأة الحُلم تجلس على صخرةٍ ملساء و قد تعرّت تماماً. كان جسمها العاري يشع بياضاً و نقاءاً، و كان ضوء الشمس ينعكس على جلدها البضّ ليحيطَ بها و يجللها بالنور، و كأنها ملاك أو قديسة. أكثر ما أزعج الأسقف عندما أفاق من نومه هو التأثير الذي تركته امرأة الحلم في جسدِه، و الذي انتصب شاهدا على الشهوة المُحرمة التي ما زالت تتقد في جسد الأسقف العجوز.

لمح الأسقف حركةً في الباحة الممتدة أمام الكنيسة، و عندما اشرأب بعنقه، تبينَ خيال امرأةٍ مرتجفة، تختبئ خلف تمثال الرجل الضخم ذي القرنين، و الذي يحمل ما بين يديه ألواح الوصايا العشر. كان التمثال يعود إلى موسى، و كان يشير فيه بإصبعه إلى الوصية الثانية: "أن لا تصنعَ صورةً أو شَبَهاً لما هو في الجِنان فوق."

أحسّ الأسقفُ بالغضب لهذا الانتهاك الصارخ لحرمة الكنيسة، و لكنه حينما استرجعَ حلمه، استدرك سريعاً، و هو يتذكر صورة المرأة القديسة المغتسلة وسط النهر. ربما كانت هناك علاقة ما بين المرأتين! ربما أرسلت إليه السماء هذه المرأة، في هذه الساعة، و تحت جنحِ الظلمةِ و البرد، كي يصلَ إلى امرأة حلمه: القديسة، الملاك، المِثال، المُطلق!

لبس الأسقفُ نعليه، ثم أسرع بهبوط السلالم الدائرية التي تربط منامته بمدخل الكاتدرائية. دفع الأسقفُ باب الكاتدرائية الضخم ليُحدثَ صريرا مزعجاً وسطَ الليل. أطلَّ برأسه، و أخذ يطوحُ بالمصباح يمينا و شمالاً. ابتلع الأسقفُ ريقه في ترقبٍ حينما تبينَ المرأة البغي و هي تختبئ بملابسها الرثّة خلف التمثال. أشارَ الأسقفُ بمصباحه ناحية المرأة البغي؛ لم تتحرك. حينما أشارَ مرة ثانية، تشجعت على الاقتراب ناحيته خطوةً واحدة. تراجع الأسقفُ إلى الداخل تاركا الباب الضخم مُشرعاً خلفه. ما هي إلا دقائق، حتى تبعته المرأة البغي إلى منامتِه في الأعلى، ليُغلقَ خلفها الباب الخشبي الموحش.

عندما أفرغَ الأسقفُ شهوته، لم يعد يرى في المرأة المحشورة تحته لا القديسة و لا الملاك و لا المِثال و لا المُطلَق! كان يرى امرأةً فاجرةً تلوثُ فراشَه، و كانَ يُحسّ بثقلِ الخطيئة الأولى يرزحُ فوقَ كتفيه. ماذا سيحدث لو أنّ هذه المرأة الفاجرة باحت لأحدٍ عن ما حصل لها في منامته؟ ماذا سيحدث لو أنها أشارت إليه من أحد مقاعد الكاتدرائية و هي تهمسُ: أنا أعرفُ هذا الرجل!

أمسكَ الأسقفُ بيدِ المرأة البغي و قادها إلى الأسفل؛ إلى غرفة الاعتراف. هناك، تركَها و سطَ الظلمة، و أسرع ليوقظَ قارع الأجراس من نومه الثقيل. حدّق قارعُ الأجراسِ باستغرابٍ في وجهِ من أيقظه، و عندما تبيّن ملامحَ الأسقف، انتصبَ واقفاً على قدميه. تمتمَ الأسقف:

"هناكَ امرأة خاطئة في غرفة الاعتراف، خذها إلى حارس الساعة، و أخبره أن الساعة لا تحتاج إلى صيانة هذا الأسبوع."



-3-

لبرج الساعة تاريخٌ طويل و مفزع. قبل بناء الساعة، كانَ البرجُ سجناً معروفاً يُستخدمُ لحبسِ المومسات و البغايا. بعدَ بناء الساعة، أُلغي هذا التقليد في العلن، و لكنه استمرّ في السرِ لحبس هؤلاء الذين لا يُراد لأحدٍ أن يسمعَ بهم أو يدريَ بموتِهم. كان الأمر نتاج معاهدةٍ ما بين أسقف كاتدرائية بيرن و الحارس القائم على تعهدِ ميكانيزم الساعة.

سلّمَ قارعُ الأجراسِ المرأة البغي لحارس الساعة، و عندما أدى إليه رسالة الأسقف فهمَ حارسُ الساعةِ مغزاها مباشرة: سبعةُ أيامٍ متواصلة وسط البرج تعني موتاً محققاً بسببِ العطشِ أو الجوعِ أو الجنون. قادَ حارسُ الساعة المرأة البغي إلى جوف البرج، و عندما أغلقَ وراءها البابَ الحديديّ، حدثَ أمرٌ غريبٌ للغاية: توقفَ الوقتُ بالنسبةِ إلى هِيلجا!

لم تقاومْ هِيلجا الأسقفَ و لا قارع الأجراسِ و لا حارس الساعة. كانت ترتمي بقدرها بين أيديهم و كأنها ورقةٌ استسلمت لعبثِ الريح. كانت بردانة و حافية و جائعة عندما بدأت قطرات المطر بالتساقط. عندما قاربت الساعة منتصف الليل لم يعد بإمكانها أن تصبر أكثر. ليلة مثل هذه لن تجلب لها مزيداً من الزبائن. كان عليها أن تخرج تحت المطر و الظلام و البرد علّها تجدُ رجلاً يرمي في رَحْمِها قطعاً نقدية. كان رجل الدين الحليق الذي نام معها قبل أسبوع هو أول من خطر في بالها و هي تمشي وسط الليل. عندما وصلت إلى الكاتدرائية، لم تجد رجل الدين الوسيم. بدلاً منه، وجدت ذاك الأسقف المُرعب الذي قادها إلى منامته في الأعلى، و الذي يبدو أنه كان سبباً رئيسياً في حبسها الآن في هذا المكان الموحش.

جلستْ هيلجا وسطَ الظلام، و أخذت تتذكرُ أحداث طفولتها في فرايبوج. كانت الطفلة العاشرة في بيت عائلتها الفقير و البائس. كانت تحمل دلوَ الحليب و تمشي به بينَ البيوت عندما شاهدتها العجوز التي تملأ المساحيق وجهها، و التي علّقت على صدرها النافر. لم يمر على هذه الحادثة سوى أسبوعين حتى توقفت العجوز ذات المساحيق أمام دارهم و بصحبتها رجلٌ حليق الرأس، مفتول العضلات. تحدث الرجل الحليق إلى والدها، و بعد يومين، رجعَ و العجوزَ بصحبته، ليأخذاها من بيت والديها إلى بيرن المظلمة الباردة، بيرن المرعبة، المكان الذي مارست في البغاء أولَ مرة. هل كان يجدرُ بها أن تقاوم؟ لقد هربت ثلاث مرأت، و لكن الجوع في كل مرةٍ كان يُرجعها إلى مهنتها الرخيصة التي تحشرُ في فمها ما يكفي كي يبقيها حيةً حتى الزبون التالي.

جلستْ هِيلجا وسطَ الظلام، و حاولت أن تتبينَ أي شئ حولها دون فائدة. كانت الظلمة أسمكُ من الباب الحديدي نفسِه. حاولت أن تصغي إلى ما حولها، لم تسمع سوى صوت أنفاسها اللاهثة. كم مضى على هِيلجا و هي جالسة وسط البرج؟ لا أدري! لقد توقف الوقتُ بالنسبة لهيلجا، توقفَ الوقتُ و هي في جوفِ البرج، جوفِ الساعة..

و لكن عطشها أخذ يزدادُ تدريجياً. جوعها أخذ يزدادُ تدريجياً. جنونها أخذ يزدادُ تدريجياً. ذكرياتها أخذت تتلاشى تدريجياً. لا بدَّ أن هذه مؤشرات على الوقت. لا بدَّ أن أسيرة الساعة تخضع لمنطقِ الساعة نفسِه.

انتفضت هِيلجا فجأةً من موضعها و أخذت تضربُ برأسها على الحائط. لا بدّ أن هناك طريقة لإيقاف الوقت! لقد تلاشت الذكريات تماماً من رأسها، لم يبقَ سوى لون أصفرٌ يختلط في داخل رأسها مع الظلمة التي تحيط بها من كل مكان.

لا بدّ أن هناك طريقة لإيقاف الوقت! أخذت هِيلجا تتلمسُ طريقها بخطى مجنونة، حتى عثرت قدمها بعتبةٍ تشبه الدَرَج. صعدت هِيلجا عَتبات الدرجِ على يديها و قدميها و كأنها هرةٌ مذعورة. عندما وصلت إلى الأعلى، اصطدمت بما يشبه الباب الخشبي. عندما دفعت هِيلجا الباب حدثت معجزة: لقد نسيَ حارسُ الساعة إقفال باب العليّة الموصل لميكانيزم الساعة!

غمرَ الضوء المتسللُ من أعلى عيني هِيلجا حتى كاد أن يعميَهما و يملأهما بالظلام. عندما فتحت هِيلجا عينيها ثانية، وجدت نفسَها أمام حجرة مستطيلة تتكونُ من ستة عواميد خشبية، تمتلئ من قاعدتها حتى أعلاها بالتروس و الحبال و الجنازير.

هذا هوَ! هذا هوَ طريق الخلاص! هذا هوَ طريقُ الموت!

رمتْ هِيلجا نفسها وسط الحجرة الخشبية، و سرعانَ ما سَحلتْ الجنازيرُ عظامها، و انغرزت التروسُ في أحشائِها الرخوة.

عندَها، عندما انطفأ النورُ في عيني هيلجا؛ توقفتْ عقاربُ "التسيت كلوكه" عن الدروان لأولِ مرة. أخذَ أهلُ بيرن يتطلعون في وجه الساعةِ باستغراب، و أخذوا يتحدثون فيما بينهم عن هذا الحدث غير العادي. الخبازُ تأخرَ في موعدِ إقفالِ مخبزه. الفتاةُ انصرفتْ دونَ أن تحظى برؤية عشيقها. الأسقفُ رقدَ في منامتهِ متأخراً. رجالُ الشرطةِ لم يبدأوا دورياتهم الليلية إلا متأخراً.

في ذلك اليوم الذي ماتتْ فيه هِيلجا، توقفَ الوقت!




___
* Zytglogge : (تُنطق: تزيت-كلوكه) بمعنى برج الساعة، و هي الساعة الشهيرة الموجودة في بيرن، عاصمة سويسرا.

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس