منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قِصصٌ تُروى .
الموضوع: قِصصٌ تُروى .
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2009, 01:17 AM   #22
عائشه المعمري

كاتبة

مؤسس

عبدالعزيز الفارسي


نخلةٌ واحدةٌ في أرضٍ شاسعة..

نخلةٌ وحيدة



"وتختفين يا نكهة اللُبان..
هكذا دون إنذارٍ سابقٍ بالرحيل. تسابقين الفجر ورحيل العصافير وتخلّفين طفلاً يتعثر بجراحه، عاجزاً حتى عن أوهن النداء: "أرجوك عودي". فلِمن تتركينه؟! المسافات ـ صغيرتي ـ لا تؤوي العجزة. فأرجوك عودي..."
الحكايةُ أبعد من الدمع. تغور في صميم الجرح.
منفيون ـ بُنيّتي ـ رغم احتكاك الحزن بالحزن. مشردون في امتداد الحلم. لو تسألين الآن: ما أنت؟! ما تفعل؟! سألغي ذاك الرماد. سألغي الذاكرة وأبدأ من جديد. سأقول مثلاً:


"لا أعرف من أكون. فقد وجدتني في هذه اللحظة أحتسي حضورك المتشرذم. وأبحث عن فقيد داخل مقلتيك. وهأنذا أجد عينين كعينيه.."
أو ربما قلتُ:
"صديقين. لا أذكرُ ما فعلتُ هذا اليوم. زارني هاجس الخروج من غرفتي فتركتها في كنف الريح ومضيت. أطلقت العنان لكل جوارحي. فقدتُ بعد ذلك كل التفاصيل. فلربما صادفتُ متسكعاً يفتش عن ظلال الخطو مثلي، فوضعت يدي في يده. مشينا بين الأزقة. ضحكنا معاً دون أن نعرف اسمينا. أفشينا سرّينا الدفينين. ثم افترقنا دون تبادل عنوانينا قائليْن: "فلنترك لقاءنا الثاني للزمن كي يحدده". أو ربما احتضنت مُسِنّاً على فراش الموت، أنهك أقرباءه انتظار رحيله. أو ربما ركضتُ خلف طفلة شقية أفلتت من يد أمها لتعبر الشارع أمام سيارة متوحشة. أو ربما صادفت روح أنثى مهاجرة لم أرها قط، ولم أسمع لها صوتاً، ولم أقرأ لها حرفاً. روح أنثى تنسلُّ خلسة من سحابة بيضاء وتجيء تربت على كتفي المثقل. ألا تسكن الأرواح السحب؟! أو ربما عدتُ إلى الغرفة ظناً مني أنها وطني الممزوج بنكهة اللبان. أوه. ها أنت تفجرين الذاكرة وتعودين من جديد. صغيرتي قلت لك: "جنّبيني الحديث عما مضى. أريد شراء النيسان بأي ثمن". فلِم تنداحين من ذاكرتي الآن وتنتثرين حضوراً؟ حسناً. سألغي ما قلت، وسأبدأ من جديد:
"وتختفين يا نكهة اللبان..
هكذا دون سابق إنذارٍ بالرحيل..."
أو لاخترتُ لك أن تكوني سيداً، أصنعه من أرق الورق، وخاطبته قائلاً:
"لو أعطيتني الإذن ـ سيدي ـ بالتحدث لاخترت هذا الاستهلال:
"يا أيها الواقف على الجرح، وتنظر إلى البعيد.. تمهّل فثمة كائنٌ تحت قدميك؛ يُدعى القلب".
هو استهلال مغرٍ وبّراق يولّد في النفس، الحزن والتعاطف والفضول. هذه الأشياء تجبرك على سماعي دون مقاطعة حتى النهاية. لكني لن أستهلّ حديثي بتلك العبارة، لأنك لم تأذن لي بالتحدث يا سيدي. أبصارنا تخلق ما نرى، وأنا أوجدتك الآن هنا لتسمع مكرهاً ما أقول. المكره لا يعطي الإذن، لذا سأستهل بما يلي: "وطني المكسو بسرابيل الصمت، اخترتك قلباً للعاصفة.. فكن قلبي".


ومن أنت يا سيدي؟
لا يهم. كثيرون أولئك الغرباء يوجدون لحظة بوح، فكن منهم سيدي.. ثم امض بعيداً بالبوح!
"وطني المكسو بسرابيل الصمت، اخترتك قلباً للعاصفة.. فكن قلبي!"
لا. سأقف. هذا الاستهلال عقيم، ويفضي إلى فراغات سوداء تبتلع أنوار النفس. سأترك ما قلت ـ يا سيدي المُكره على المجيء ـ وأبدأ من جديد:
"يا أيها الحزن المشعّث..
يا أيها القلب المدجج بالخواء: وطني المسافات التي نفت الغريب إلى أقاصي العاصفة" لكن ليس هذا ما أريد قولـه! كيف لي تطويعِ حرف عنيد؟ كيف لي ترويض جملةٍ متمردة؟ أعطني سيدي جملة أستهل بها بوحي. هب لي رقصات حرفٍ على شفير الحكاية وسأحكي. صدقني: سأحكي.
سأقول ـ يا سيدي الذي أُحضر فوق غمامةٍ من وجع الانتظار ـ كم تزمجر داخلي الكلمات الصاخبة، الهادئة، المتهورة، الرزينة، الخضراء، الجدباء. لكني أريدُ بداية. أريدُ جملةً قُدّت من فولاذ صلبٍ، أملسٍ، متماسك، لا يملك الرائي أمامه إلا الطرق بالأصابع وهز الرأس إعجاباً: "فولاذ ممتاز". أريدُ أحرفاً سُكّت من ذهبٍ برّاقٍ. أريدُ نكهة فاكهةٍ تذوب داخل الفم تجبرُ المتذوق على قطف بقية الثمار. أريدُ بداية. أريد بداية وبعدها سأحكي لك، وأصف، وأقول".
لكنني لن أقول، فورق الأرق تحرقه الكلمات. ويتبخر السيد المُحضرُ، فوق غمامةٍ من وجع الانتظار.. وستختفين أنت بالتأكيد، وسأعود إلى كتابة حزن جديد. سأقول واصفاً حزناً آفلاً كنت أعرفه:
"أسمعك يا صوت الذي يأفلُ بمحض الحزن؛ يا الماضي في التلاشي غير آبهٍ بدربك، يا عابراً فوق شظية الوجع.. أسمعك، فحدِّث، وأطل الحديث للدمع والليل وجيوش السائرين في أوجاعهم. لا سامع هنا غير الله، فأفض في حديثك وأسهب. قل. إني أسمعك.
إن كنت تنوي الصمت، فلِم اخترت إذن الهرب إلى هذا الكهف؟! لِم انتظرت آخر الخريف حيث الريح باردةً تعصف بأوراق الأشجار وأوراقك، ثم أتيت؟! لِم اخترت السماء مكسوة بالغيم تنذر بالثورة وهربت إلى هنا؟! ألم تفعل ذلك لتحدّثني يا صوت الذي يأفل؟! قل إذن.
قالت تحرث الحزن بقلبك لينبت الدمع:
"سوف توصلني إلى مرحلةٍ أكره فيها ذكر اسمك. صدقني قد أصل إليها من شدة معاناتي المستمرة. وأنت كما أنت. لا فائدة مرجوة من طباعك القذرة أحياناً. لن تتغير. هل تعلم لماذا أقول ذلك؟ لأنها ليست المرة الأولى التي أشتكيك فيها إلى نفسك. لكن لا جدوى، فأنت أنت، وأنا أنا، والدنيا تسير. إن كان من الضروري تغيّر أحدنا، فحتماً سأكون أنا".
ثم مضت تحزم أمتعتها بصعوبة بالغة. يعيقها تكوّر جنينكما في بطنها. لم تترك شيئاً من ملابسها إلا ورمته في الحقيقة. وأنت.. كما عهدتك في كل موقفٍ مُذهل ومباغت: لا تزيد عن فعلين؛ الصمت والتأمل. كانت تبكي بحرقة، وتسيل الدموع مختلطة بشعرها المتناثر على وجهها. بدا وجهها كلوحة من عبث التردد والرحيل. ورحتَ تتأمل هذه اللوحة بشيءٍ من الإسقاط على عمرك.. يا أيها الآفل!!
ثمة فرق بين بكائكما. هذا ما حدّثتك نفسك به. هذا التلاشي يا صديق ليس إلا دمعة ذرفها قلبك، ثم قيل للخطوات: كوني، فكانت. والذي شق هذا الكهف.. لو ملأ قلبك الأرض دمعاً، وجرت دموعه أنهاراً من التلاشي، ما شعر به البشر. ما لم تذرف عينك الدمع، فأنت في أعرافهم: ضاحك!!! لذا لم تلمها حين قالت وهي تغلق الحقيبة:
"أنتَ عديم الشعور بهذه الحياة. لا تعرف طعم الإنسانية.. ومهما رأيتَ من فواجع، فلن تبكي. أتعرف لماذا؟ قلبك أصم وأعمى. وأنا لن أهدي قلبي لمثله" ثم مضت باتجاه باب المنزل. وأردفت:
"من فضلك. خذني إلى بيت أهلي. هذا طلبي الأخير منك. لو كان بطني يسمح لي بالقيادة لفعلت. لكني مضطرة لطلب ذلك منك. سأتركك لكل هذه المرارة التي أسكنتني فيها مذ تزوجتك".
هذه المرارة يا أيها الآفل.. هي جنّتك. عشتَ تستمد منها قوة لمجابهة هزائمك... والآن ظنّوها ناراً تكويهم. فالله معك. الله معك أيها الآفل. أوصلتها إلى بيت أبيها. قالت لك: "حين تستعيد إنسانيتك.. تجدني هنا".
ولم تجد أنت غير هذا الكهف خوفاً على إنسانيتك... إني أسمعك. هيا أفض وأسهب في حديثك.. هيا.."
لكنه يموت من كمدٍ بفعل الانتظار ولا يضيف لحديثه حرفاً جديداً. ويختلط نداء رفاته بنداء غريبٍ آخر منفيّ تآمروا عليه. يأتي صوته مع الموج ليقلق الأصنام. ها أنا أسمعه يقول:
"لا يسعني الآن البكاء. هذا الرماد هو ما تبقى منّا. نحتارُ الآن أين ندفنه والماء يحيط بنا من كل صوب. لا يابسة تبدو، والعطش يكاد يفتك بنا. لم أطلب الكثير. أريدُ شبراً لا أكثر. وأريده هناك؛ في الأرض المسماة: "وطني"... شبراً واحداً نقبرُ فيه جميعاً. في الأوطان المنسوجة من خيالات الألم يُحرق الموتى، ليتمكنوا من دفنهم في مساحة ضيقة من الوجع. فاقبروني قبل أن أقبركم".
وترتجف الأصنام وتقيم الحواجز لمنع الصوت، لكنها لا تفلح. ويظل الصوت الغريب منذراً حتى يمتزج بكل جوارحي، فأصرخ كما يصرخ.
أو لربما تماديتُ في إلغاء الذاكرة، وقلتُ معاتباً ذاك الرجل المتمرد داخلي:
"وتنوي بداية حُزنٍ جديد...
لا قدميك ترتجفان، ولا يرمشُ لك جفنان. لا قلبك يرتعش أو يهتز فيك ضمير. تبدأ بمحضِ العادة وتمضي كأيّ عابرٍ أغوى المسير. تقول للوراء:
"أيها الأمسُ: أنا لا أنظر إليك بغضبٍ، وليس يقتلني الأسى على ما أسكنتُ فيك"
ثم ترحل ولا تلتفت.
ويحك يا مهاجر... ويحك يا مكابر... أتعي ما أنت فاعل؟!
.. وتمضي غير آبه.
أناشدك بالله الوقوف.. قف..
قف..
قف"
أو ربما عدتُ طالباً يشكّلني ويضربني إذا أخطأت. وأخالني أدرس معني كلمة"
وحيد. قال المعلم يقرّب معنى الكلمة إلى ذهني:
"نخلة واحدة في أرض واسعة نخلةٌ وحيدة"
وأكبر لأرى سحابةً تسير بمفردها في سماء الرغبات فأصرخ:
"وحيدان يا سحابة....
أنتِ في هذا الشاسع الأزرق.
أنا في هذا الداخل الأسود!"
أو ربما خاطبت وجهي:
"حُزناً على ذبول العزم، أزرع شوكك لتنبت الحياة.
وكنا يا وجهي المتساقط هاربيْن من الحقيقة المُفجعة: "الميلادُ بداية الحُلم لبصيرةٍ مُغمضة العينين".
فقل يا وجه: "إلام تمضي بأقدامٍ متآكلة كُتب على خطاها الضلال؟"
ألست مني؟! وماؤك المسكوب.. ألم يودي ببعضي معه؟! ها نحن الآن وحيدين إلا من الحق. نرتب الفصول المسكونة بالبشر. ننتقي. نغربل الأفئدة. دعني أتلاش فيك يا وجه، ولتتحدّث ولترسم ولتخطط"
أو ربما عدت عاشقاً فقد محبوبته دون سابق إنذار. يكتب بكامل جنونه:
"وكنتُ أستيقظ من ليلي مختنقاً بالخطوط والدوائر والأشكال اللامفهومة. أترنّح في معمعتها. أبحث عن عينيك؛ بصري الذي يُشكّل رؤيتي للكون. ولم أزل محتقناً مذ رحلتِ، غير مُصدِّق أني أعيشُ دون عينيك! والآن، لأنَّك بعيدة هناك، سأُنفِذها؛ أصابعي المرتعشة في المعمعة. سأكون. سأسكب داخلي أولئك الذين ينسجوني. سأبحر في جرحي الذي يقطر أزمنة القحط. فلتعبثي يا أصابعي مقلّمةّ الأظافر رأفة بالعالم".
لكن أصابعي تتهشم. ويجيء نداءٌ يعبرني. يذكرني بالفجر والشرفة التي أقف عليها الآن وأنصتُ إليه:
"لا يا وحيد...
لا يا ابن الشمال والجروح المزمنة. قف هاهنا وحدّق في اتساع الريح، وفراغات الضمير. أينقصك وجع، لتستورده؟ قف يا وحيد وفكر. أرجوك فكر".
وأظل أفكر وأفكر، وأنبش ذاكرتي من جديد. أبدأ النداء بكامل وعيي:
"وتختفين يا نكهة اللُبان..
هكذا دون إنذارٍ سابقٍ بالرحيل. تسابقين الفجر ورحيل العصافير وتخلّفي طفلاً يتعثر بجراحه، عاجزاً حتى عن أوهن النداء: "أرجوك عودي". فلِمن تتركينه؟! المسافات ـ صغيرتي ـ لا تؤوي العجزة. فأرجوك عودي...".
مسقط
9/8/2003
***

 

عائشه المعمري غير متصل   رد مع اقتباس