١
أيها العقل من رآك؟
عبد الله القصيمي
إن احتمالات ثورة المغامر ضد الحاكم الفاضل أقوى من احتمالات ثورته ضد
الحاكم الشرير. إننا قد نجرؤ على اصطياد الحيوان الفاضل أكثر من جرأتنا على
اصطياد الحيوان المفترس.
إذا كان الفساد لا يقتل فكيف يقتل النقد؟!
لو كان نب ي مصابا بالبرص، بع َ ث إلى قوم من الب رص، لكانت الإصابة بهذا الداء
شرطًا من شروط الإيمان بالله!
إن المؤمنين بالله وبالأديان يصنعون ما قاله نهرو عن الهنود: "إنهم يعبدون البقر
ولا يفعلون له ما يجب. ولو أنهم أعطوا البقر ما يريد ولم يعبدوها لكان
احترامهم لها أفضل."
إنهم يتصورون الله قيصرا أو زعيما ضالاً، ينشرح صدره للنفاق وقصائد
الامتداح، ويفقد بذلك وقاره.
إن الدعاء والصلاة لله اتهام له. إنك، إذا دعوت الله، فقد طلبت منه أن يكون أو
لا يكون. إنك تطلب منه حينئذ أن يغير سلوكه ومنطقه وانفعالاته. إنك، إذا
صليت لله، فقد رشوَته لتؤثر في أخلاقه ليفعل لك طبق هواك. فالمؤمنون
العابدون قوم يريدون أن يؤثروا في ذات الله، أن يصوغوا سلوكه.
٢
إن الذي لا يعلم بوجودي لا يعد مسيئًا إل ي. ولكن المسيء هو الذي يعلم بوجودي
ويعلن اعترافه بي، ثم ينسب إل ي الشرور والنقائص.
إن الشيخ الذي يملأ لسانه بالله وتسبيحاته، ويملأ تصوراته بالخوف منه ومن
جحيمه، ثم يملأ أعضائه وشهواته بالكذب والخيانة والصغائر وعبادة الأقوياء،
لهو أكفر من أ ي زنديق في هذا العالم.
إن الإله، في كلِّ افتراضاته، هو سلوك، لا ذات فقط. فإذا لم يوجد سلوك إله فلن
توجد ذات إله.
لقد وجِ دنا، فأردنا وجودنا، ثم وضعنا له تفسيرا عقليا وأدبيا.
إننا نحب حياتنا وأنفسنا بقدر ما نستطيع، لا بقدر ما نعرف. إننا لم نعرف شيئًا.
إنه لا يوجد منطق في أن نخلق المرض لكي نتعالج منه، أن نسقط في البئر لكي
نناضل للخروج منها. وليست حياة الإنسان، في كلِّ أساليبها ومستوياتها، سوى
سقوط في البئر ثم محاولة الخروج منها.
إن جميع ما يفعله البشر ليس إلا علاجا لغلطة وجودهم.
إن الإنسان هو وحده الذي تحدث عن الآلهة ودعا إلى الإيمان بها.
٣
لقد خلق الإله الإنسان لكي يعبده ويطيعه. ولكنه كان يعلم قبل أن يفعل ذلك أنه
لن يعبده ولن يطيعه. فهل كانت رغبته في عبادة الإنسان له غير ناضجة، أم
كانت خطته لتحقيق رغبته غير كافية؟
إن من أسوأ ما في المتدينين أنهم يتسامحون مع الفاسدين ولا يتسامحون مع
المفكرين.
إن المطلوب عند المتدينين هو المحافظة على رجعية التفكير، لا على نظافة
السلوك.
إن افتراض أن العقائد القوية هي التي تصنع الأعمال الكبيرة غير صحيح. إن
حوافز الإنسان، لا عقائده، هي التي تصوغ كلَّ نشاطاته.
الإنسان، قبل تدينه، وجد أن من الصعب عليه أن يكون ملتزما بضوابط الحياة
المثلى، فتدين لأنه وجد أن من السهل أن يكون معتقدا.
أكثر الناس خروجا على التعاليم هم أقوى من وضعوا التعاليم. إن أفسق الحكام
والمعلِّمين هم أقوى الناس دعوةً إلى الأديان والأخلاق.
لو كانت الفكرة تعني التقيد بها لما ابتكر الناس الأديان والمواعظ والأخلاق
المكتوبة.
لو كان الإيمان ملزِما لكان مستحيلاً أن يوجد في التاريخ كلِّه مؤمن واحد.
٤
الناس، في كلِّ العصور، هتَّافون على مستوى واحد من الحماس. هتفوا لجميع
الحكام والزعماء والعقائد والنظم المتناقضة: هتفوا للإيمان بالله والإيمان
بالأمجاد، للمَلكية والجمهورية، للديمقراطية والدكتاتورية، للرأسمالية والشيوعية؛
هتفوا للعدل والظلم، للقاتل والمقتول.
إن الناس لا يؤمنون بالأفضل والأخلاق، بل بالأكثر صخبا وتجاوبا مع
الأعصاب المتعبة.
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير
الأشياء التي تتحدث عنها.
الناس لا يتحدثون عن الأشياء كما هي، بل كما يريدونها.
إنك حينما تَ صدق أحيانًا إنما تريد أن تهرب من الصدق.
إن اللغة تعني دائما الفرار من معنى اللغة.
الناس لا ير حبون بالداعية ويتبعونه، ولا يؤمنون بالنبي ويرون معجزاته،
احتراما أو اقتناعا أو رحمة، بل احتجاجا وبحثًا عن صارخ متألِّم ليصرخوا
وراءه، ليصرخ لهم وعنهم، ليصرخوا به.
إن آلهة الإنسان وعقائده ومثُله وأخلاقه هي مجموعة أخطائه اللغوية.
إن الفرق بين الشيء ونقيضه يساوي الفرق بين رغبتنا فيه ورغبتنا عنه.
٥
قتلي لعد وي عدل، وقتلُ عد وي لي ظلم. رأيي وديني صواب، ورأ ي المخالفين
ودينُهم خطأ. هذا منطق كلِّ الأذكياء – وكلِّ الأغبياء.
إننا لا نعادي المخالفين لنا لأنهم ضد الفضيلة أو ضد الإيمان والحق، ولكن لأنهم
ضدنا. إنهم مخطئون لأن إرادتهم ومصالحهم تُناقض مصالحنا وإرادتنا.
إننا دائما نحن الوحدة القياسية للآلهة والمذاهب والناس وكلِّ الأشياء. إن كلَّ
شيء يجب أن يف سر بنا. حتى الآخرون الذين هم مثلنا، يجب أن يف سروا بنا –
وإلا فهم خونة ضالون.
إن الخلاف بين الشعوب والأفراد ليس على المذهب والتفكير، ولكن على الكينونة
والإرادة.
إن ما يصنعه الإنسان هو أعظم من الإنسان. إن أفكاره ومثُله وعقائده هي دائما،
وفي التاريخ كلِّه، أطيب وأنظف وأذكى منه – مع أنه خالقها.
كم هو غير منطقي أن يكون المخلوق أعظم من الخالق، ثم لا يستطيع هذا
المخلوق الكبير أن يغير خالقه الصغير!
ما أعظم أن يصنع الإنسان نفسه بالأسلوب الذي يصنع به حضارَته وأدواتها!
لقد كانت عبقرية الإنسان أن يخلق الأشياء على نموذج نقائصه، لا أن يخلق نفسه
على نموذج نظرية مثالية ليصبح بلا نقائص، ليصبح شيئًا فوق نفسه.
٦
ما أعظم الفرق وما أطول المسافة بين أخلاق البشر النظرية وأخلاقهم السلوكية
والنفسية!
إن أشد الناس إيمانًا بالنظريات يتعايشون ويتلاءمون مع النظم المخالفة
لنظرياتهم.
إن النظرية هي تحويل الواقع إلى صورة فكرية. ولا يمكن تحويل النظرية إلى
صورة مادية.
إن البشر لا يصنعون انفعالاتهم؛ إذن هم لا يصنعون أخلاقهم، لأن الأخلاق
ليست سوى انفعالات قد ح ولناها إلى تعبيرات أخلاقية.
إن كلَّ تربية البشر الأخلاقية والاجتماعية الصالحة تعني تعليمهم نوعا من
السلوك، لا نوعا من الشعور و الحب، لأن الشعور والحب لا يعلَّمان.
إن الأخلاق، في كلِّ العصور، هي إتقان ف ن التكلف والكذب والتزوير. حتى
الإحسان للآخرين والإشفاق عليهم هو عطف على الذات، لا عليهم.
إن من أعطاك فرصة أن تعرض إشفاقك عليه هو من أحسن إليك.
إن الفرق بين الفاضل والرديء هو اختلافهما في تلاؤمهما مع الأشياء لاختلاف
المستويات والظروف التي تواجههما والتي يعيشان فيها.
إن الفضيلة هي أن يتوافق الإنسان مع الطبيعة – لا أن يتجنبها أو يخافها أو
يعجز عنها أو يح رمها أو يعبدها.
٧
الرذيلة، في جميع أساليبها، هي أن يصطدم الإنسان بالطبيعة.
إن الحياة حركة، لا تشريع. إنها لا تُتَعلَّم، بل تخرق التعاليم. أما الإنسان فهو آلة
وحافز.
إن الذين ينزعون إلى تقييد حياتهم بالمح رمات، تدينًا أو تغنِّيا بالفضيلة، إنما
يكشفون بذلك عما في أنفسهم من استعداد للهرب من الحياة.
الذين يح رمون على البشر سلوكًا أو شيئًا ما إنما يعنون أن يح رموا عليهم الذكاء
والحرية والمقاومة.
إن التحريم يعني أنه يوجد شيء فوق البشر؛ إنه دائما دلالة أليمة على أن
الإنسان محكوم من بعيد.
إنه لولا رجال أصحاء جاءوا يبشِّرون بالحياة ويصنعونها ويمارسوها، جاءوا
يدعون إلى مجد الأرض ويشيدوا بمجد الشهوة والغريزة بسلوكهم ومنطقهم، لما
استطاعت الإنسانية أن تعبر الصحراء الرهيبة الفاصلة بين البداوة والحضارة.
الفضيلة قدرة، لا فكرة.
كيف يستوعب العقل البشري أن الآلهة تغضب على الذين يضحكون ويفرحون
وترضى ع من يحزنون ويبكون؟!
٨
أهل الأديان يريدون تحويل التاريخ كلِّه إلى مبكى بعد أن ح ولوه إلى معبد. لقد
ابتكروا خصاء الرجال ليفقدوهم كلَّ طموح إلى الحرية والتمرد والاستقلال
والمقاومة، ليفقدوا حوافز المجد والغضب للكرامة عند فقدانهم الرغبة الجنسية.
إن الشهوات هي التي تغير الأفكار وهي التي تخلقها. عواطفنا هي التي تحكم
عواطفنا، وشهواتنا هي التي تحمينا من شهواتنا.
عندما نشعر بفقدان الحماس لشهواتنا تفقد عقوُلنا كذلك نشاطَها.
إن الفضيلة ليست شيئًا غير الشهوة. إن محاولة الحصول على الفضائل بإضعاف
الشهوات كمحاولة الحصول على الشيء بإعدامه، كمحاولة تقوية الرؤيا بفقء
العين.
إن الله لم يخلق هذه الدنيا وهذا الكون إلا بحثًا عن السعادة لنفسه.
الاستقامة والأخلاق نوع من الفن، شهوة وقدرة وإرادة وموهبة وذكاء وظروف
تتلقى ذلك وتتعامل معه، تل ونه بلا قداسة أو نب وة.
الأخلاق معركة ينتصر فيها أقوى الأسلحة الضاربة. والمعارك إنما تصنعها
وتفصل فيها الشهوات. فالأخلاق شهوات تلاءمت مع ظروفها.
إن الأخلاق عند الإنسان وحكمه على الأخلاق يتبدلان بتبدل وضعه الاجتماعي
أو حالته النفسية أو صحته. إن أ ي اختلال في إحدى غدده أو كبده يغير شعوره
وتصوره وتفكيره واستجاباته الأخلاقية. إن الضعفاء يتصورون الأخلاق على
غير ما يتصورها الأقوياء.
٩
إن الذين لا يجيدون الابتسام قد ينتهون إلى تشريع البكاء والدعوة إليه كعبادة.
إن صفات آلهة الإنسان موجودة في ذات الإنسان، لا في ذات الآلهة.
إننا لا نستطيع أن نخرج من عبودية شهوة أو أن نرد طغيان شهوة إلا بشهوة
أقوى.
ما أكثر المؤمنين الذين يرتكبون جميع ما يستطيعون من معاصٍ، معتمدين على
التوبة في آخر المطاف، أو معتمدين على سعة المغفرة.
إن أية عقيدة لها تأثير على سلوكنا بقدر ما تستجيب لشهواتنا.
أقوى الناس اشتهاء للدنيا هم من أبدعوا أقوى الأوصاف وأكثرها تعريةً وفضحا
لشهوات الآخرة. لقد جاءوا بأبذأ الأساليب في التشويق إلى اللذات المنتظرة
هناك. والذين كانوا شعراء في وصفهم لنساء الآخرة كانوا حتما شهوانيين جدا
في أشواقهم نحو نساء الدنيا. لقد اشتهوا ما هنا فوصفوا كشعراء ما هنالك.
إن الشهوات هي الجياد الأصيلة التي رفعتْ جميع العظماء على صهواتها ليحتلوا
أكبر أماكن التاريخ.
إن تسليح الأفراد بالشهوات القوية كتسليح الجيوش بالأسلحة القوية: ليس لأي
منهما فضيلة أو معنى إلا بذلك.
إن كلَّ إنسان أو شعب يفقد الحماس تصاب مواهبه كلُّها بالعجز.
إن أعظم شيء يتفوق به الإنسان على كلِّ ما في الوجود هو موهبة التحدي.
١٠
يا شعوبا أنهكها البحث عن الفضيلة! جربي البحث عن الرذيلة – فقد تجدين بها
ما تفتقدين من فضائل.
إن الله لا يريد أن نكون وحدنا مؤمنين، ويكون غيرنا كافرين – يفعلون هم
الشهوات والعبقرية المح رمة والإبداع والحياة، ونفعل نحن الفضائل للموت
والطاعة والخوف؛ يفعلون هم الحضارة، ونفعل نحن المواعظ والأنبياء.
الضعفاء أقرب إلى الأخلاق لأنهم أعجز عن عصيانها؛ وهم أيضا أبعد عن
الأخلاق لأنهم أعجز عن تحقيقها وتحصيلها.
إن العلم والحياة لا يصنعان الأخلاق، وإنما يصنعان القوة. إن القوة دائما ضد
الأخلاق؛ لهذا لا ينتظر ازدهار الأخلاق مستقبلاً، بل نمو القوة الإنسانية.
إذا اتبعتُ الحقَّ واحترمتُه فليس لأني فاضل، وإذا اتبعت الباطل فليس لأني
شرير، ولكن لأني في الحالتين إنسان. إني أفعل ذاتي دائما.
أنا أفكر وأتكلَّم كشريعة، ولكني أحيا وأنفعل وأخطئ كطبيعة.
لا يولد موقفُ الإنسان معه. كلُّ إنسان يولد بلا موقف، حيث يصنع موقَفه تحت
عدد لا حصر له من الاحتمالات الحمقاء.
نحن نسمي بطلاً كلَّ من لم يجد الفرصة لكي يكون نذلاً.
الأخلاقي هو من ي صدق مرة واحدة ليكذب عشرات المرات.
يتبع