الفصل الأول :
[ لا شيء سوى الخيال ]
" أنت ، من أنت ..
أبوح برسائلي ..
هل ألتقيك يوما ؟!
هل أكتشف أحلامي و أوهامي فيك يوما ؟!
يأخذني إليك هاجس غريب يتيم ، بلا وطن ..
حتى إذا انتهت مشاعر الحب .. غدا الخيال مسرحي إليك .. "
أطرقت رأسي أفكر ، وحيدة على ذاك المقعد الحديدي العتيق في المنتزه ، و الظلام يكسو ما
حولي . ظلام آسر ، يعطيني الهدوء اللازم لاستشعار أشياء اكتشفها عنك . أسمع خطوات أقدام مسرعة . ضوء ينهمر
علي فجأة !. إلهي ، هل جئت يا أنت ؟!!. صوت يسألني بحذر و استنكار : ( - آنستي ، ماتفعلين
هنا في هذه الساعة ؟! . ) . إنه ليس أنت . إنه شُّرَطي !.
رفعت رأسي بهدوء ، و نظرة شاردة في عيني زادت ذلك الشُّرَطي استنكارا : ( - آنستي ، هل أنت
بخير ؟!. ) . أطرقت رأسي مجددا ، تنهدت بقوة ، و أخذت نفسا طويلا . نظرت إلى موقع أقدامي . كان هناك
زهرة وردية ملقاة بجانب قدمي اليمنى ، و بجانب قدمي اليسرى كانت ورقة ساقطة من إحدى الأشجار . فكرت :
( كان لهذه الزهرة أن تكون منك يا أنت !. إنه الخريف قد حلَّ ، يا ترى ، هل ستأتي قبل الربيع ؛
حتى نحتفل بانتهاء سقوط أشيائي ؟!. ) . ذلك الصوت عاد يزعجني مجددا ، ضحِكْتْ . إنني أنا من أقلقت أفكاره
الطبيعية عن الناس !. شددت معطفي حولي ، و رتبت خصلات شعري ، وقفت ، و ابتسمت : ( --
استميحك عذرا سيدي الشُّرَطي ، لقد سرحت قليلا . لا تقلق ، فأنا لست مشرَّدة أو ما شابه .) . أمسكت عن
الكلام أفكر بقلق : ( يا إلهي ، هل أبدو كمتشردة ؟!!. لمَ نسيت مرآتي في المنزل ؟!. يجب على
السيدة المحترمة أن تبدو دائما بمنظر لائق!.) تذكرت الشُّرَطي . استطردت : ( -- عموما ،
سوف أعود الآن إلى وكري . عمت مساءا سيدي الشُّرَطي . ) . ذهبت أفكر تاركة الشرطي المسكين يتابعني
بنظره بذهول : ( لم قلت أنني سأعود إلى وكري ؟!. أوه ، كلا ، لن أسمح لتلك الأفكار الغريبة
بمعاودتي .). و بدأت أخاطب نفسي : ( كلا ، كلا يا بثينة . عليك أن توقفي هذه الخيالات
المخيفة . لن تقومي بالتحول إلى خفاش حتى لو كان هذا فقط من باب الخيال !. لن أسمح بهذا .) . ابتسمت
لنفسي . من الجميل أن يستطيع المرء مصادقة نفسه ، و من المضحك المبكي أن يكون الانسان بهذه الدرجة من الوحدة !.
عدت إلى المنزل . لم تساورني أي رغبة بفتح الأنوار. يبدو أنني فعلا سأتحول إلى خفاش في هذه الليلة!. رغم
عقلي المسكين الذي يتكلم عن السيدة المحترمة و ما يجب أن تكون عليه . أحيانا ، يتصرف عقلي بسطحية تمليها عليه
عادات تتسم بالاعتباط مفروضة عليه اجتماعيا . حقا ، إن عقلي يحتاج إلى إجازة .
نظرت من النافذة . يا ترى كيف تعيش الخفافيش ؟!. لطالما لفتت نظري ، رغم أني لم أر واحدا من قبل . كل ما
أعرفه أنها عمياء ، و سمعها حاد جدا ، و كل ما يشبهها في ذاكرتي هي أفلام مصاصي الدماء !. غريب جدا ، عشت
عمياء لفترة من الزمن ، و سمعي أيضا كان حاد !، على الأقل ، هذا ما أظنه. يا ترى ، لو استمع إلي صديقتاي ، أنا على
يقين من أن " أحلام " ستوبخني و تسخر من عجب خيالي ، و تقول لي : ( بثينة ، عليك أن تكفي
عن التفكير بهذه الطريقة و إلا ربما تحولت إلى خفاش يوما ما !، و حينها لن نكون أصدقاء ؛ لأن الخفافيش كريهة
جدا !.). أما عزيزتي " نوف " فسوف تضحك ملء شدقيها و تنظر إلي بحنان و تقول
:( دعك من هذا الهراء . كيف يعقل أن تصبحي خفاشة !!.) ، و من ثم سوف نتحدث عن
طفلتها التي تنتظر ولادتها بكل شوق !. أسندت رأسي على حاجز النافذة مبتسمة من جديد : " كم
أحبهم !! " .
تثائبت معلنة انتهاء ليلتي و عودتي إلى صوابي . قلت كأني أخاطب ماخلف النافذة : (
سأذهب للنوم ، و أتمنى من كل قلبي ألا تراودني أية أحلام عن الخفافيش ؛ لأني بصراحة أعتقد أن رائحتها نتنة ، و أنها
شريرة أيضا !. ) ، يا للغرابة !!، ربما هناك نزعة شريرة فيَّ تدفعني لتمني تجربة العيش كخفاش ، أو ربما
هي رغبتي في الإثارة !.