الورقة رقم " 2"
رفحه ، أو : رفحا ، أو : رفحاء : ويتحوّل القلب إلى سرب حمام .. يطوقه الهديل والحنين .
وأي جملة تبدأ بهذه الـ " رفحاء " لا أدري إلى أين ستذهب بي .. فبإمكان رفحاء أن تأخذني إلى عوالم غريبة وعجيبة . تحوّلني إلى طفل يتيم مسكون بالحنين إلى أمه التي لم يرها ، ويحاول أن يصنع لها صورة خرافية عبر أحاديث الآخرين عنها .
* دخيلك .. جعلتني أشعر بالغثيان !..
هي ليست سوى مدينة صغيرة تقع في أقاصي الشمال السعودي ، تلك الجهة المنسية، فلا تجعلها بحديثك عنها تبدو وكأنها سان فرانسيسكو !
كل مدينة هي أنثى ، لهذا أرى أن العواصم والمدن الكبرى لسن سوى : عاهرات .. والمدن الصغيرة : أمهات .
ورفحاء أحيانا أراها أمي ، وأحيانا حبيبتي الاستثنائية .. وأحيانا ( عندما أغضب منها) عجوزاً شمطاء تُمارس السحر والشعوذة ، وتروّج الشائعات القذرة عن بعض البيوت البريئة .
رفحا ( بالهمزة أو بدونها ) لم تعــد قريـــــة .. ولكنها أيضا لم تصبح مدينة حتى الآن. هي شيء يقف بين الاثنين ، ولـهذا أشعرأنها تشبهني كثيرا ً ، لم أعد ذلك الولد البدوي الذي يفاخر بحكايا أجداده ولم أستطع أن أصبح ابن المدينة .. بل إنني أخاف من أخلاق المدن وعلاقاتها المرتبكة والمربكة .
ليست رفحاء وحدها الضائعة بين زمنين وشكلين ، بل إن أكثر المدن في بلادي تعيش هذا المأزق ، هي لم تحافظ على تاريخها الحقيقي – هذا إن كان لها تاريخ – ولم تستطع أن تكتب أو تنجز كتابة التاريخ الجديد . كل تاريخ رفحاء مكتوب بالصحراء التي تحاصرها من الجهات الأربع ، الأراضي التي لم يصلها العمران عامرة بالحكايات التي يرفضها التاريخ الرسمي . إلى الدرجة التي جعلتني أؤمن أن كل بناء جديد هو هدم لشيء جميل .
أشعر أحيانا أنني وهي من الكائنات المشوهة ، أو مثل تلك المخلوقات التي تعيش فترة انتقال تاريخية طويلة ( الفقمة : مثلاً ) هذا الكائن الذي لا تعرف هل هو بري أو بحري ، وهل حركة انتقاله تتجه به إلى البر أم أنه سيتحوّل بعد سنوات إلى كائن بحري ؟..
وأتذكر الآن كيف كان بعض بني عمومتي ، عندما كان بيتنا في الرياض يعج بالمسافرين القادمين منها ، يغضبون مني عندما اسألهم بمرح وأستفزاز " هاه .. كيف هي الاحوال في الفقمة " ؟ .. رغم أنهم يعلمون كم أحبها ، وكم أدخل في حوارات تتحوّل إلى خناقات لكي أقنع الآخرين أن رفحاء أهم وأجمل ألف مرة من الرياض العاصمة !
من يغضب منهم كثيراً أواسيه بقولي : "الخليج العربي بأكلمه ليس سوى فقمة كبيرة"!
في هذه الـ " رفحاء " التي أحبها – بكافة أشكالها ووجوهها – ولدتُ .. أنا محمد بن سلطان بن محمد الوطبان الشمري .. ولو أردتُ لواصلتُ عدّ أسماء أجدادي إلى "آدم " !