الورقة رقم " 4 "
بالصدفة ، كانت إحدى القوافل تمر من هنا ، من هذا المكان .
وبالصدفة ، كانت معهم امرأة تحتضر .. وماتت في هذا المكان .
وبالصدفة ، تم اختيار هذا التل الصغير ، لتدفن بجانبه ، ويصبح علامة لقبرها .
كان اسم المرأة " رفحا " .
لاحقاً ، صار اسم التل الصغير " رفحا " .
مع مرور الوقت ، صار كل ما حول التل " رفحا " .
* بالصدفة !.. بالصدفة !.. بالصدفة !
تريد وبلغة شاعرية مثيرة ، ورغم أنف التاريخ ، أن تصنع تاريخا ً لجغرافيا مهملة .
ـ رأيك لا يهمني .. هل أستطيع أن أكمل ؟
* تفضّل .
في وقت ما ، صار هذا المكان الذي لم يكن سوى نقطة صغيرة في صحراء شاسعة ولاسعة ، مكانا ً مفضلا ً لبعض القبائل ، تمره في مصيفها ومشتاها ، وفي رحلات بحثها عن الماء والكلأ .
هنا تقاتل البدو على بئر ماء .
ومن هنا مرّت قوافل تجار " العقيلات " قادمة من قلب " نجد " في طريقها إلى " بغداد " و " الشام " .
ومن هنا مرّ الفرسان ، والشعراء ، والغزاة .
ومن هنا مرّ " الحسين " و " المتنبي " عليهما السلام !!
* هههاي .. أضحكتني !..
" عليهما السلام " إذا ً ؟
الآن بدأت تفهم اللعبة . أولاد وبنات الرواية الجديدة في السعودية ليسوا أفضل منك . هكذا تستطيع أن تستفز تياراً عريضاً ليبدأ بمهاجمتك، فأنت تعلم أن الحسين محل اتفاق ومحبة عند السنة والشيعة . وكما تعرف فالهجوم على أي عمل كتابي هو أفضل الوسائل للترويج له ..
برافو .. برافووو ..
وهنا ، وعلى أطراف " رفحاء " ترى " بركة زبيدة " هذا المشروع الذي أنشأته زوجــة الخليفــة العباسـي " هارون الرشيد " لسقاية الحجاج الذاهبين إلى مكة والقادمين منها.
ومن هنا أيضا ، مرّت هذه الأفعى المعدنية العملاقة ، ذيلها في الخليج العربي ورأسها في البحر المتوسط !
في منتصف القرن الماضي ، وتحديدا ً في عام 1948م ، وبأمر من الملك عبدالعزيز آل سعود ، قررت شركة " أرامكو " أن تمد أطول خط أنابيب " التابلاين " لضخ النفط ونقله من مصادره في المنطقة الشرقية على الخليج العربي، من " بقيق " تحديداً حتى " حيفا " الفلسطينية على ساحل البحر الأبيض المتوسط . وأتت الاحداث السياسية لتغيّر مساره إلى سواحل " صيدا " اللبنانية ، لتنقله الناقلات العملاقة من هناك إلى مستهلكيه في العالم الغربي .
بالصدفة ، يمر هذا الخط العملاق بـ " رفحاء " .
ويقرر المسؤولين في شركة " أرامكو " وضع محطات ضخ وصيانة لخط الأنابيب كل ثلاثمائة كيلومتر .. وبالصدفة تكون المحطة اللاحقة في " رفحاء " . وليست وحدها " رفحاء " فهناك في الجانب السعودي خمس مضخات :
النعيرية ـ القيصومة ـ رفحاء ـ عرعر ( وكانت تسمى : محافظة خط الأنابيب ) ـ وآخر محطة : طريف . ولابد لهذه المحطات من مهندسين وعمال ، وأمن لحمايتهم وحماية المحطة . ومستشفى صغير لعلاجهم ، ومعدات حديثة لاستخراج الماء الصالح للشرب من باطن الأرض.
وهكذا أتت الوجوه الغريبة من كافة المناطق والجهات ، يحملون أسماء عائلات وقبائل لا يعرفها أحد . هناك من أتوا كعمال في الشركة ، وهناك من أتى مع " الإمارة " ، وهناك من استوطن في هذا المكان الذي صار آمنا ً ، وهناك العائلات التي أتت من " القصيم " وما جاورها إلى هذه البلدة – التي بدأت تنمو – بحثا ً عن الرزق والتجارة .
تغيّر المشهد كثيراً : صارت هنالك بعض بيوت الطين بجانب الكثير من الخيام وبيوت الشعر . وفي وسط البلدة أنشئ أول مسجد ، وحول هذا المسجد تشكلت نواة سوق " رفحاء " من بعض الدكاكين الصغيرة . أما في الجهة اليسرى فكانت هناك " الوقفة " وهي سوق الغنم والإبل وصار البدو يأتون إليها من كافة الجهات المحيطة بـ " رفحاء " لشراء وبيع المواشي .. ويحدث أن يباع فيها ما هو أبعد من هذا !
أما " أرامكو " فبناؤها مختلف ، وحديث ، وتحيط به الأشجار وسياجٌ حديدي يمنع غير العاملين فيها من الدخول إليه . ينظر البدو إلى هذا المبنى بذهول وإعجاب ..وهم لا يعرفون منه شيئاً باستثناء المستشفى !.
صار في " رفحاء " مركز إمارة وشرطة وسجن .. ولاحقا ً – بعد سنوات – مدرسة ابتدائية يديرها شاب حجازي اسمه " أنور عبد القادر فلمبان " !
ولـ " رفحاء " حديّن .. حد قديم رُسم قبلها ، ويجعلها عراقية . وحد رُسم بعدها ، ويجعلها سعودية . ولا تدري هل كان هذا صدفة أيضاً ، أم أنه مهارة السياسي ، أم خطأ في رسومات الجغرافيين .
بهذا الشكل نشأت " رفحاء " الحديثة .
كأنها صدفة تاريخية جعلت الزمن ينتبه إليها ، ويقف عندها قليلا ً ..
أو كأن " رفحاء " ليست سوى خطأ مطبعي في وثيقة سياسية !