منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-28-2006, 01:11 PM   #7
خالد صالح الحربي

شاعر و كاتب

مؤسس

عضو مجلس الإدارة

الصورة الرمزية خالد صالح الحربي

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 50940

خالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


ـــــــــــــ
قصّة :العجوزان.. للشيخ علي الطنطاوي
ــــــــــــ


أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء.
وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب ، أو الكابوس الثقيل ،
ثم انفجروا يصيحون ، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها
وجود الشيخ فلم ينبسوا بها ، وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة.
والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده ) يتراكضون ويتراشقون
بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار ، ويتراشون بالماء ،
أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار ،
فيغوص الولد في أمواهها ، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه
فتخرجه من بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه
وتجفف خشية المرض جسده ، فإذا هو يتفلت من بين يديها ،
ثم يركض وراء إخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم بالثأر ،
والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض
والمرمر الصافي التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها
في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج ،حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى.
وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع ،
وهم ينتقلون من غرفة إلى غرفة ، ومن درج إلى درج ،
ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق،
من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج)
وقباب الشمشير والياسمين والورد والفل ، تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية)
التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي)
الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ ،
لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنبا…
والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو
تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم :
((ولك يا ولد انت ويّاه …يقصف عمري منكم …وسختم البيت …
يا ضيعة التعب والهلاك … الله يجعل عليّ بالموت حتى أخلص منكم ))..
فيختلط صراخها بصياح الأولاد ، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين،
وهم يتضاربون ، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني الكؤوس …
ولا يصغي لنداء الجدة أحد منهم …
* * *
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر ،
فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم ، وتخافت أصواتهم
ويحسبون بدنو ساعة الخطر ، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار
ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ ،
أو أن يصلح ما أفسد منها ، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته ،
ويتذكرون ما هشموا من أثاث المنزل حين عاثوا فيه مخربين،
فيجمع كل واحد منهم كل ما يقدر عليه من حطام الأواني
فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ ،
ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل .
وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة ،
لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها ،
لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها منذ أربعين سنة …
في ذلك اليوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه،
وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا ،
فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية)
عشر دقائق كاملات …
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل ، وخف (صرماية) للمسجد،
و(بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار ، (وقبقاب) للوضوء ،
وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب ،
ولا يخالف الشيخ عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق ،
أو يتوضأ ببابوج الدرج …

وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله ،
وتهيئ (اليقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها
وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة ،
من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة ،
وهي لا تزال تذكر إلى الآن كيف وضع لها أسلوبه في الحياة
وبين لها ما يحب وما يكره ، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب،
كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه
إذا هي أتت شيئا مما نهاه عنه ،
فأطاعت ولبث العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة
لم تخالف إلا في ذلك اليوم وقد لقيت فيه جزاءها ،
ونظرت العجوز الساعة فإذا هي منتصف الثامنة ، لقد بقي نصف ساعة…
ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال ،
كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعداد للمعركة ،
فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام ،
وبعثت الأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد ،
وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم
حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافا … ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه ،
ولكل شيء في هذا الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه ،
سنة سنها الشيخ لا تنال منه الغيرة ولا تبدلها الأيام ،
فهو يحب أن يضع يده على كل شيء في الظلمة أو نور ،في ليل أو نهار،
فيلقاه في مكانه ، ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم ،
نظرت إلى الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق …
فاستعدت وغسلت يديها و وجهها ولبست ثوبا نظيفا
كعهدها ليلي عرسها لم تبدل العهد، واستعد أهل الدار بكبارهم و صغارهم.
فلما استوى عقرب الثامنة أرهفوا أسماعهم
فإذا المفتاح يدور في الباب إنه الموعد
ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودات
عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه سبيل .
فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها
وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر ،
وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها .
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق،
فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن ،
وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع ،
وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف …
وكانت غرفة الشيخ يؤثرها على يمين الإيوان العظيم
ذي القوس العالية والسقف النقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق ،
والذي يتوجه أبدا إلى القبلة
ليكون لأهل الدار مصيفا يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف ،
ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق ،
يشرفون منه على الصحن المرمري وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير …
وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة
تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع
كسائر غرف الدور الشامية ،
تغطيها (تخشيبة) مدّ عليها السجاد
وفرشت في جوانبها (الطراريح) : الوسائد والمساند ،
وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة.
وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار،
وقد صفّ إلى جانبه علبة وأدوات ،
وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق
الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد
كما حرموا الدخان بلا دليل …
وإلى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير
والكتابان الذي لا ينتهي من قراءتهما : الكشكول و المخلاة ،
وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية
يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق
فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر ،
وكل شيء في كيسه الذي خصصه به ،
وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها .
وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين
أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب،
فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه ،
ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علبا صغارا في كل علبة نوع من أنواع النقد:
من النحاسات وأصناف المتاليك والمتاليك
وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك
والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها
والليرات العثمانية والإنكليزية والفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب،
فإذا أصبح أخذ مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية الشهر)،
ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه ، فضم كل جنس إلى جنسه ،
وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان) ،
الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا
(وقلما كان يفعل) يستضيء به في طريق دمشق التي لم يكن بها أنوار
إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم،
وأكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان ويطفأ ليلا …
وفيها الكأس التي تطوى …
والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار …
وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة ،
فأهدى إلى صاحبه قسما منها وأودع الباقي خزانته …
وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها
لأن حشوها(شكلاطة)..وكانت هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية) ،
وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق ،
وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق،
موجودة في أكثر البيوت المحترمة …
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه .
ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بلعبة النشوق
فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها ،
فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ،
فكان نهار أهل المنزل أسود ، وحرموا بعده من الدنو من هذا الحمى!

يُتْبَع..

 

التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

خالد صالح الحربي متصل الآن   رد مع اقتباس