منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قِصصٌ تُروى .
الموضوع: قِصصٌ تُروى .
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2009, 09:28 PM   #30
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

افتراضي عدي الحربش ..


(حكايةُ الصبيِّ الذي استطاعَ أَنْ يَرَ الَنوم)


هاكَ يدي، وتعالَ معي.. فسوفَ آخذكَ إلى مكانٍ لم ترَه من قبل. سوفَ أذهبُ معكَ إلى بغداد -حاضرةِ الخلافة- لأجوسَ بكَ أزّقتها العتيقةَ حتى نصلَ إلى ذاك البيمارستان الضخم، الذي يقومُ على الضفةِ الشرقية من نهرِ دجلةَ الأزرق.

هل ترى ذاك الرجلَ المربوعَ القامةِ ذا اللحيةِ القصيرةِ والنظرةِ الساهمة؟ ذاك الذي يمشي بخطىً متعبة داخل البيمارستان؟ هل عرفته؟ إنه الشيخُ الرئيس حجةُ الطبِ أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا. أنا متأكدٌ أنكّ سمعتَ بهِ من قبل. هو لا يزالُ في منتصفِ العمرِ -آنذاك-، ولكنّ صيته قد شاعَ و ذاع، حتى ترأسَ بيمارستانَ بغدادَ الكبير، وأصبحَ قبلةً لطلاب الطبِ والمرضى المكروبين.

لم أمشِ بك كل هذه المسافة، وأعبر بِك حدودَ المعقولِ لمجردِ أن ترى الشيخ الرئيسَ في شبابهِ في بغداد، وإنما أريدُ أن أريكَ ذاك الصبيَّ الصغير الذي ألتقى به ابنُ سينا ذاتَ صباح وتحدثَ معَه. اتبعنى..


-1-
توقفَ ابنُ سينا أمام غرفةِ العزل. داخلَ الغرفة، كانتْ ترقدُ امرأةٌ عليلة من أشرافِ مكةَ مصابةٌ بالسّل. مضى على وصولِ المرأةِ شهرٌ كامل، حينما أتى بها أخاها وتركها داخلَ البيمارستان برفقةِ ابنها الصغير، وقفلَ راجعاً إلى الحجاز. كانت آنذاك تعاني من حمىً مرتفعة وسعالٍ شديدٍ متقطّع. أما الآن، فقد ذبلَ جسمُها وشحُب وجهها كالزهرةِ من دونِ ماء، واصطبغ البلغمُ الخارجُ من فمِها بحمرةٍ قانية. قرعَ ابنُ سينا الباب برفقٍ ثمَ دخل..

"السلام عليكِ يا أمَ مَعن."

"وعليكَ السلام ورحمة الله يا بنّي" أجابت بصوتٍ مبحوحٍ متقطّع.

ابتسم ابنُ سينا بود، وهو يلحظُ صوتَ سعالِها العنيف والدمَ الذي يصبغ طرفَ حشيتِها المفروشة في أقصى الغرفة.

"كيف كانت ليلتُك؟" سألها ابنُ سينا، منحنياً فوقَ معصمِها ليتحسسَ نبضَه.

"كسابقاتِها.. نوباتٌ من السعالِ الذي لا يتوقف."

"هل استطعتي النوم؟"

"نمتُ و الحمدلله.. ولكني أريد أن أشتكي ولدي لديك."

التفتَ ابنُ سينا ناحيةَ الصبي الجالسِ في الطرف الآخر من الغرفة، والذي كان يصغي إلى حديثِهما بإنصاتٍ واهتمامٍ واضحين. كان الصبيّ لا يتجاوز الثامنة من عمرِه، ويلبسُ ثوباً أزرقاً فضفاضاً. ابتسمَ ابنُ سينا وسأله:

"لماذا تريدُ أمُك أن تشتكيكَ يا مَعن؟"

هزَّ الصبي كتفيه بعجبٍ، وابتسمَ ابتسامةً حلوةً لم يملك ابنُ سينا إلا أن يردّها بمثلِها. ارتفعَ صوتُ الأم من وراءِ ابن سينا:

"لأنه لا ينام"

"لا ينام! حسبتُ أنّ أمكَ هي التي لا تستطيع أن تنامَ بسبب سعالِها وليس أنت! ما الذي يمنعكَ من النومِ يا معن؟ هل أنت قلقٌ على أمك؟"

ضحكت الأمُ ضحكةً سرعانَ ما قطعتها نوبةٌ طويلةٌ من السعال الشديد.

"ربما هو قلِقٌ -رغمَ أنَّ صحتي جيدة ولا تستدعي القلقَ- ولكنَّ هذا ليسَ هوَ السببُ الحقيقي الذي يمنعه من النوم."

"ما هو السببُ إذن؟"

"ألا تخبرُ الطبيبَ عن سببِ امتناعِك عن النومِ يا معن؟"

"أريدُ أن أرى النوم" أجاب الفتى الصغير منتصباً على قدميه.

"ترى النوم!"

هزَّ الفتى رأسهُ موافقاً.

"أعذر جهلي ولكني لم أفهم تماماً.. كيفَ تريدُ أن ترى النوم؟"

"هل تعرف أيها الطبيبُ كيف ننام؟"

عقدَ ابنُ سينا يديه وراءَ ظهرِه وتغضّنت جبهتهُ بالتجاعيدِ التي تعلوها حينما يثيرُ أمرٌ اهتمامِه..

"لا.. لا أعرف. هناكَ كثيرٌ من العلماءِ والفلاسفة تسائلوا عن سرِ النوم دونَ أن يخلصوا إلى إجابة!"

"ذلكَ أنهم لم يصبروا حتى يرَوا النوم." همسَ الصبي بحماسةٍ وكأنه يفضي بسرٍ مقدس.

"لا زلتُ لا أفهم!"

"النومُ يأتي إلينا بخطىً خفيفة. يتسللُ برشاقةٍ دونَ أن يصدرَ صوتاً. بمجردِ أن يدهمَ الدارَ أو يقفزَ عبرَ النافذةِ نحسُّ بنعاسٍ شديدٍ ونغمضُ أعيننا حتى قبلَ أن يدخلَ غرفتنَا. لو أنَّ أحداً استطاعَ أن يقاومَ النعاس، لو أنهُ بقيَ مفتوحَ العينين في تلكَ اللحظةِ التي يغمضُ الباقونَ فيها أعيُنَهم، لرأى النومَ يتسلل وسطَ الغرفة."

"وهل سبقَ لكَ أن رأيتَ النوم؟"

"لا.. فهوَ في كلِ ليلةٍ يهزمني، ويرسلني في سباتٍ عميق قبلَ أن أراه. ولكن لا بدَّ لي أن أهزمَه."

ابتسمَ ابنُ سينا بتعجبٍ وأخذَ يدعكُ جبينَه المتغضِن.

"لا تستهن به. فكما يضعُ الأحلامَ في عقولِنا، هو يستطيعُ أن يقرأ أفكارنا. لا بدَّ أنه علمَ بنيتِك المبيتّة، فصارَ يتريثُ عندَ بابِ غرفتِك حتى يسمعَ شخيرَك قبلَ أن تدخل."

اتسعت عينا الصبيّ في دهشةٍ وهتفَ قائلاً:

"لم يخطر هذا الشئ ببالي مسبقاً. سوفَ أخدعهُ هذه الليلة وأشخر متظاهراً بالنومِ حتى يدخل."

صرخت الأمُ في احتجاج:

"ما هذا يا أبا عليّ؟ قد اشتكيتُ لك لتساعدَني ضدَه، فإذا بكَ تشاركُه جنونَه!"

"ولدكِ نابغةٌ يا أمَ معن. حقَّ لكِ أن تفخري به."

ابتسمت الأمُ بفخرٍ و تناولت العقار الذي أعدهُ لها ابن سينا من مزيجِ العسلِ والورد.


-2-
استيقظَ ابنُ سينا على صوتِ طرقٍ عنيفٍ يهزُّ بابَه. قفزَ سريعاً من مرقدِه وتناولَ جلبابَه ولبسَه. فتحَ ابنُ سينا البابَ ليجدَ عبدَالرحمنِ -أحد طلابِه- يلهثُ خلفَ البابِ وصدرُه الهزيلُ يعلو ويهبط. وضع ابنُ سينا يدَه اليمنى على كتفِ الشابِ المذعورِ وسأله:

"ماذا جرى؟"

أجابَ عبدُالرحمن بنفسٍ متقطع:

"المرأة الحجازيةُ المصابةُ بالسل تلفظُ أنفاسَها."

جرى ابنُ سينا بجلبابهِ الواسعِ ورأسهِ المكشوفةِ بأقصى سرعتِه قاصداً غرفةَ العزل. لا.. ليسَ أم معن، ليسَ أم معن. كيفَ تموتُ غريبةً، بعيدةً عن أهلِها، وحيدةً إلا من ولدِها الصغير؟ والولد.. ماذا عن الولد؟

حاولَ ابنُ سينا طردَ هذه الأفكار، والتي طالما حذرهُ أساتذتهُ منها حينما تعلمَ في بخارى. لا تفكر في شخصِ المريض أو مقدارِ حزنِك لأجله. فكر في جسدِه، نبضِ قلبه، سرعةِ أنفاسِه..

"ما الذي جرى بالضبط؟" سأل ابنُ سينا عبدَالرحمن الذي كان يعدو بجوارِه.

"أفقنا على صوتِ سعالٍ شديد، وإذا بأمِ معنٍ تلفظُ كميةً هائلةً من الدم ثم تفقد الوعي."

وصلَ ابنُ سينا إلى الغرفة المشرعةِ الباب، ليفاجأَ بالمنظرِ البشعِ أمامَه. كانت بحيرةٌ من الدمِ اللزجِ تملأ أرضية الغرفة وقد أخذت تسبحُ فوقَها قطعٌ سوداءَ من الدمِ المتخثر. وسطَ بحيرةِ الدم، كانت أمُ معن ترقد ممددةً بلا حراك. صرخَ ابن سينا في عبدالرحمن:

"ارفع رجليها إلى الأعلى."

خاضَ عبدُالرحمن بحذرٍ وسطَ الدم ليرفعَ رجلي المرأة الباردتين. انحنى ابنُ سينا فوقَها، ووضعَ اصبعيه الوسطى والسبابة فوقَ عنقِها. لم يكن هناكَ نبض.

تناولَ ابنُ سينا خرقةً مبللة من وعاءِ ماءٍ قريب، ومسحَ وجهها. كانت عيناها الجاحظتان تنظرانِ إلى الأعلى. أغلقَ ابنُ سينا العينين، بينما أنزل عبدُالرحمن قدمي المرأة المتوفاة في رفقٍ وحِرص. أغمضَ ابنُ سينا عينيه في ألمٍ وأخذ نفساً عميقاً. عندَها تذكرَ الشئ الذي غفلَ عنه منذ دخولِه. نظر إلى الركنِ البعيد في أقصى الغرفة، ليجدَ الصبي الصغيرَ منزوياً هناك، وقد أخذ ينظر إلى الدمِ الأسودِ وعيناهُ يملأهما الذعر.


-3-
يختلفُ الألمُ عندما يصيبُ الصغارَ عن الألمِ الذي يحيقُ بالكبار. الكبارُ غالباً ما يتألمونَ لخوفِهم من مجئِ هذا الألم، لقلقِهم من تذوقِ تلكَ الغصّة المريرةِ التي يعهدونها، ومعاودةِ تلك التجربة المرهقة الطويلة التي يهابونها. أما الصغار.. فهم يقفونَ كالسنابلِ المشرعَة في وجهِ الريح، غيرَ متحرزين ولا حذرين، ليجتاحَ الألمُ الحقيقي روحَهم، ويعذبهم دونَ أن يدركوا كنهَه وحقيقته.

مضت خمسُ ساعاتٍ دونَ أن يحرّك معنٌ عضلةً واحدة، أو يتزحزحَ قيد أنملةٍ من الركنِ القصيّ في الغرفة الذي انطوى فيه. رأى بعينيه أمَه تلفظُ أنفاسَها، ليأتيَ الطبيبُ ومن معَه ويلفونها ثم يخرجونها من الغرفة. ثمَّ أتت امرأة عجوز مسحت أرضيةَ الغرفة، وأزالت البحيرة الحمراء التي تدفقت من فمِ أمه. حاولوا مراراً وتكراراً أن يتحدثوا معه، أن يخرجوه من الغرفة دون جدوى. لم يصرخ. لم يبكي. كان ينزوي في ذاك الركن بلا حراك، وقد طوى ركبتيه قربَ صدرِه، وأخذ ينظر بسهومٍ في فضاء الغرفة. عندما حاولوا إخراجه من الغرفةِ رغماً عنه، منعهم الرجل الملتحي المربوع القامة.

كان عقله فضاءً فارغاً إلا من صورٍ تتدافعُ داخلَه بينَ لحظةٍ وأخرى. كانت عيناه مفتوحتانِ إلى درجةِ الإيلام. كم يتمنى لو ينام هذه الليلة.. هذه الليلة فقط. لو يغلق عينيه ليستيقظ في الصباحِ ويجدَ أمه ترقدُ بجانبهِ كالمعتاد. تضمّه حين يلجأ إليها. تبتسم له حين يقبلُ رأسها. ماذا حصلَ لها؟ أين ذهبت؟ هل ماتت؟ ماذا يجبُ أن يفعل؟ أين يذهب في هذه المدينة الكبيرة الغريبة التي لا يعرفُ فيها أحداً يلجأ إليه؟

أخذتِ الأفكارُ والصورُ تتداخلُ وتختلطُ في عقلِه. ابتسمَ ابتسامةَ اليائسِ الذي أدركه الفرجُ أخيراً. إنه النوم. ها هوَ قد جاء. لن يقاومَه هذه المرة. لن يحاولَ أن يراه. سوفَ يهبُ نفسَه إليه بكلِ حبٍ، بكلِ شوقٍ، برضىً واستسلام، علّهُ أن يحتضنَهُ.. أن ينقذَه من هذا الشعور المرّ الغريب الذي يملأ روحَه ويأرّقه.

تعالَ أيّها النوم.. تعالَ ولا تخشى شيئاً، فها أنا أغمضُ عينيَّ برضىً، مستجدياً، مستعطفاً قدومَك المبارك. تعالَ واحضنّي كما اعتادت أمي أن تحضنني..

بقيَ مغمضاً عينيهِ لبرهةٍ من الوقتِ دونَ أن يحسَ ذاك الخدرَ الدافئَ المعتاد يسري في جسدِه. فتحَ عينيه مختبراً.. وعندَها رآه!

كانَ يقفُ وسطَ الغرفة، فوقَه مباشرة. كانَ يتلفعُ بعباءةٍ سوداء ينسابُ لونُها ليتداخلَ معَ لونِ الظلامِ المحيط به. لم يكن هناك أيّ صوتٍ ينبعث لخطواتهِ أو أنفاسِه. كان ينظر في عينيه.. مباشرة.

"هل أنتَ النوم؟" سألَه معن.

"أنا النوم."

ابتسمَ معنٌ وأحنى رأسه بمراراة. كان يتمنى طوالَ حياتِه أن يرى النوم. كان يعاندُ أمه ويغضبها، ويظل لساعاتٍ سهراناً أملاً في رؤيةِ هذا الشئ المتدثر بالسواد. والآن -حينما أراد من كل قلبهِ أن ينامَ ليهربَ من ألمِه- إذا بهذا الشئ الغريب يظهر أمامَه ويقفُ فوقَه!

"لماذا لم أنمْ إذن؟"

"لأني أريدُ أن أريكَ شيئاً."

"ماهوَ؟"

"تعالَ معي."

مدَّ النومُ يدَه الكبيرةَ إلى معنٍ فتناولها. أحس بالدفءِ حينَ ضغطت يدُ النومِ الواثقة على يدِه. نهضَ على قدميه وأخذ يسير بجانبِ النوم. هل هذا الذي يحدثُ حلمٌ أم حقيقة؟

"ألا تخشى أن يرانا أحد؟" سأل معنٌ النوم.

"لماذا أخشى ذلك؟ هل نسيتَ أنّه لا يمكنُ لأحدٍ أن يرانا؟"

"كيف ذلك؟"

"انتظر وسترى."

كانَ هناكَ رجلٌ يجلسُ على بوابةِ البيمارستان الضخمة. بمجردِ أن دخلا الممرَ المؤدي إلى البوابة، تمطّى الرجل وتثاءبَ تثاؤبةً طويلة. رفعَ النومُ يدَه ونفخ ببطءٍ باتجاهِ البوابة. مالت عنقُ الحارسِ على كتفِه. أخذ معنٌ ينظرُ مبهوراً إلى الحارسِ وهمس:

"هل نام؟"

"تأكّد بنفسِك حينما نعبر البوابة."

كانَ الحارسُ يغطُ في نومٍ عميق فوقَ مقعدِه -وقد ابتسم بلذةٍ وارتخى جسُده- حينما مرّا بجانبِه. لفحت معن نسمةُ هواءٍ باردة حينما وقفا خارجَ البيمارستان وسطَ تلك الليلة الغريبة. تساءل معن:

"أين نحنُ ذاهبون؟"

"إلى الجسر الكبير الذي يربط الجانب الشرقي بمحلة الرصافة."

"ولماذا نحنُ ذاهبون هناك؟"

"سوفَ ترى"

أجابَ النومُ باقتضابٍ وأكمل مسيرَه. انحرفا سويةً إلى اليمين ليدخلا زقاقاً ضيقاً يوصل إلى ضفة دجلةَ الشرقية والجسر الكبير. كانَ هناكَ شحاذانِ يتشاجرانِ وسطَ الزقاقِ في تلك الساعة المتأخرة من الليل. ابتلع معنٌ ريقه بصعوبة وهو يقتربُ منهما بصحبةِ النوم. التفتَ الرجلانِ ناحيتهما حينما قارباهما، ليرفعَ النومُ إصبعه السوادء ويلمسَ جبهة أحد الشحاذين. أغمض الشحاذ عينيه مباشرةً وسقطَ فوقَ أرضِ الزقاق يغطّ في نومٍ عميق. فتحَ الشحاذ الآخر فمَه ليصرخَ، ولكن النومَ لمسه في حنانٍ على جبهته، ليرسلَه هو الآخر في سباتٍ عميق فوقَ أرض الزقاق الصلبة.

تابعَ معنٌ سيرَه بجانبِ النوم، مخلفاً الشحاذَين خلفه يغطان في نومهما العميق. تناولَ النومُ يدَ معنٍ ثانيةً وضغط عليها في حنان ودفء. حينما انتهيا إلى آخر الزقاق رأى معنٌ مياهَ دجلةَ الفضية وقد التمعت تحتَ ضوءِ البدر. كان المنظر رائعاً لا يمكن وصفه. تساءل معنٌ إن كان هذا حلماً أم حقيقةً؟ خصوصاً بعد أن بدأ يشعر بالخدرِ يسري في قدميه المنهكتين.

أخذا يسيرانِ حتى اعتليا الجسر الكبير وتوقفا في منتصفِه. أشارَ النومُ إلى القمر وقال:

"في كل ليلةٍ، حينما أنتهي من الطوافِ على البيوتِ وأرسل جميع الناسِ إلى النوم.. أصلُ هنا إلى الجسر، وعندَها أتعلقُ بأشعةِ النورِ وأعودُ إلى القمر."

تثاءب معنٌ وهو ينظر إلى البدرِ المكتملِ في السماء.

"هل ستذهبُ الآنَ إلى القمر؟"

"نعم.. ولكن ليسَ قبلَ أن أرسلكَ إلى النوم أنت أيضاً. لقد جئتُ بك هنا لأخبركَ عن سر القمر. القمر لا يعكسُ أشعةَ الشمس، وإنما هو يعكسُ نورَ تلك الأرواحِ الطاهرة التي توفيت وستصعدُ بإذن الله إلى الجنة..."

بدأت كلمات النومِ تتداخل، وأخذ الخدرُ يتسلقُ جسدَ معنٍ ويسري في كافةِ أعضاءه.

".. هذه الليلة، اكتمل القمرُ بدراً لأنّ روحاً طاهرة -تفوقُ كلَ الأرواحِ نوراً- توفيت. هذه الروح هي روحُ أمك رحمها الله. عندما أصلُ إلى القمر، سوفَ أخبرها كم كنتَ شجاعاً وعظيماً هذه الليلة. سوفَ أخبرها أنك لم تذرف دمعةً واحدةً، وكم أنت تحبها كما هي تحبك تماماً."

ابتسمَ معنٌ في تعبٍ وسعادة. انحنى النومُ على جبينِه وقبلّه ببطء. وعندَها.. أغمضَ معنٌ عينيه ونام.


-4-
وكما تنتهي كلُ رحلةٍ، تنتهي رحلتنا.. فتعالَ لنرجعَ سوياً ونتركَ الصبيَّ -الذي رأى النومَ- نائماً وحدَه لأولِ مرةٍ، في طريقه الشاقِ والطويل نحوَ الحقيقةِ التي لا تُدرك. تعالَ لنغادر بوابةَ البيمارستان متجهين إلى الجسر الكبير، ولكَ الخيار في أن تنظرَ أو لا تنظرَ إلى آخر الزقاق. فهناكَ سوفَ تجدُ الشيخَ الرئيس -ابن سينا- ينزعُ عباءتَه السوداء، ويهبُ الشحاذَين بعضاً من الدراهمٍ مقابلَ امتثالهما لما أمرهما به.

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس