كتبتُ قبل فترة أنه سيأتي يوم وسأتوقف عن كتابة هذه الزاوية!. إذا كانت هذه الفكرة تراودني مرّة واحدة كل يوم، فإنها في أيام السفر، تراودني خمس أو ست مرّات في اليوم الواحد، هذا بالرغم، وربما بسبب، استمتاعي بها، وبصحبتكم وصباحاتكم، وسعادتي بما ألاقيه من ترحيب ومسامحة دائمتين منكم ومن طاقم العمل في صحيفتنا "الرياضية".
ـ لا يفرح كاره، ولا يحزن محب، ليست لدي نيّة، فقط تفكير!. وإن حدث شيء من هذا، ففي الغالب، هي "حبْسَة الكاتب" لا حِسْبَته!.
ـ لا أدري من صَكّ المصطلح، لكن "حَبْسَة الكاتب" مصطلح أدبي، يجمع بين طأطأة الرأس اعتذارًا وبين صيحة الاستنجاد!. يشعر به كل كاتب، ولا بدّ أنه مرّ.. به وعليه!. حيث لا يجد ما يقوله، يريد ولا يعرف، تتشابك الأفكار إلى أنْ يُلغي بعضها بعضًا، أو تسرح و"تتطشّر" كلما لحق بواحدةً منها، وقبل أن يمسك بها، يلتفت لفكرة أخرى يخشى من ذهابها بعيدًا فيركض نحوها تاركًا الأولى، وقبل أن يصل إليها يتكرر المشهد، ركض بلا وصول!.
ـ تتكاثر الظِّباء على "خِراشٍ" فلا يدري ما يصيد!. أو العكس، يشعر الكاتب بخَرَسٍ وبجفاف حَلْقٍ وحِبْرٍ، لا كلمات وبالتالي لا أفكار، هذه هي "حَبْسَة الكاتب"، تطول وتقصر، لكنها آتية، لأنّ بذرتها موجودة حتى في عزّ نشاطه الكتابي، فما دام يتوقف لحظة ليستجمع كلمات للسطر التالي، فالحَبْسَة معه، ترافقه، والكاتب الرديء، الرديء جدً فقط، هو من لا يتوقف لحظة واحدة أمام ومع كل جملة!. ذلك لأنّ الكتابة ليست رسالة سماوية مُنزلة عليه!.
ـ "حبسة الكاتب" شيء مرعب، وغير ممسوك علميًّا بشكل يسمح بتجاوزٍ أو حَلّ!، إنها تشبه ما نقرأه وما نشاهده وما نسمعه وما نتخيّله عن الثقوب السوداء في فضاءات الكون!. يدري العلماء بوجودها، وتقام لها برامج ومؤتمرات، غير أنّ أحدًا لم يَرَها، ولا أحد يعرف كيفية عملها، ولا ما الذي وراءها، ولا كيفية النجاة منها فيما لو اقتربتْ من مجرّتنا وجَرّتها!.
ـ الأكيد أنني أتذكّر الآن أستاذي "نبيه البرجي"، كان يُعِدُّ من بيروت مُلحقًا أسبوعيًّا كل خميس في جريدة القبس الكويتية، كنت وقتها في الصف الثاني ثانوي، تابعتُ ملحقه لسنتين تقريبًا قبل أن يتوقّف، لم يدر أنه من بيروت كان يحبّب ويُعلِّم ويُدرِّب ولدًا صغيرًا على الكتابة، لقيته لأول مرة بعد سنين، قبّلتُ رأسه، وحدّثته عنه!. بريق السعادة والفخر في عينيه لم يغب عنّي بعدها لحظة واحدة!.
ـ وأنا أستمر في الكتابة على مثل هذا الأمل، أعتني بكلماتي قدْر ما أستطيع، وأحاول تطوير ذاتي، بناءً على مثل هذا الحُلم!. أنْ تكون هذه الفترة التي أوجد بها هنا، فترة يوجد بها هناك، في البعيد، شاب صغير موهوب، لا يتواصل معي، يقرأ ويُحب ويتدرّب، وينطلق، ثمّ بعد سنين يبحث عني ويلتقي بي، يقول لي كلمات، فتصير لي عيون "نبيه البرجي": بريقها وسعادتها وفخرها!.