الطفلة ذات السبعة أعوام ، تنظر إلى وجوه الوافدين لتقديم واجب العزاء في وفاة أمها
لاتفتأ تردد : أنا أعلم أن العالم كله سيموت، وأعلم أن أمي غادرتني دون أية مقدمات
لكني كثيراً ما ألوذ إلى حضنها المتشوّق إليّ
من سيحتضنني مرة أخرى إذا غلبني النعاس ؟ .
استاءت حقاً من تفاصيل الأشياء الموجوعة ، حتى إنها جمعت أطراف كفيّها لتغطي به ماتبقّى من أسئلة ظلّت تتاقز من عينيها الغارقتين بالحيرة
أتبحث عن أمها من بين أفواج المعزّين؟ أم يبدأ الفقد يرسم أميالاً صفراء
أو حتى جدولاً كئيباً مليئاَ بالآه .
تنحّت جانباً ، على ركنٍ يتضمن ذكرى ضامئة
ممتدّة إلى ماقبل إعلان مراسم المأتم بأيام قليلة ، كي تأخذ نفساً عميقاً
وتشمّ رائحة الزهر في آخر قطعة ارتدتها أمها ، وآخر دفء تلقّته من قلبها
تهيم على وجهها مابين زاوية وأخرى ، وصوت البكائين الآتي من ناحية قريبة
يزيح هدوء المكان ويجيء محملاً بالتوجس والزفير المكلوم.
ابنة عمتي (ساره) ظلّت تمسح الدمع ليومين متتاليين
ثم هدأت ولم تهدأ حركتها الطفوليّة من سرد معاني الحزن المغروسة في أعماقها
أنا أنظر إلى عينيها المغمورتين بالحرمان، وأنظر إلى شفتيها المبتسمة بشكل متواصل
وطراوتها المقصودة ، وأعلم أن رحيل الأم يعني موتاً آخر ، موتاً طويلاً جداً ..جداً
تماماً مثلما فقدتُ أمي، انتهى مساء الأمنيات الرائعة
وأنا أتمعّن جيداً في القمر وهو يشكّل صورة أمي
وأظل الليل كلّه أحاول التقاط عنوانها المتدلّي من أعلى نجم ساطع حتى يجتاحني برد قارس
ولا أحد يأتي ليغلق النوافذ ، ويغطّي ضوء القمر بالستار .
إننا معاً يا ساره ، نغنّي أغنيات الظِل المائل والمتمادي كثيراً في الخضوع على أرصفة الراحلين
الذين قضوا أياماً مخطوطة بالحب السائغ وقد تفرّدوا بأقصوصة فريدة تبدأ باللُّقيا
ويُنهيها مفترق مؤكد، حتى نأخذ بعضنا ونتوادع.
عمتي، الحياة في الأرض تشبه الحلم
والحنين أيضاً يتماهى في طريق مقيّد ببزوغ أطياف الراحلين إلى الدار الآخرة ،
حيث اراك منمّقة عند باب السماء ، تختصرين كل شيء سائد هنا .