الغياب : غياهب قلق، وغابات حزن. الغياب : كهل بوجه مكفهر, أنهكه الزمن بقصيدة لا تجف، وحناجر لا تتوقف عن
السؤال، فلا جواب إلا دمعة بللت دروب الراحلين. الغياب : روح معلقة في أهداب السحاب، تدفعها الرياح إلى هناك، حيث
فضاءات متموسقة بالحنين، ونداءات منغمسة بالغربة، تصحو على فاجعة الفراق، وعاصفة النوى، تهز أشجار الغياب،
وتنمو في حقول المساء ألف صرخة صماء، وألف موجة ماء مالح تنساب على سفوح الخد. أصبح الغياب في ذاكرة الشعراء
والشاعرات حالة وجودية يستقون منها حضوراً غائباً لكل الأشياء التي تمر بهم وتطرق نوافذ حنينهم، فأصبحت ثنائية
الحضور والغياب تحمل رؤية فنية في نصوصهم عميقة الأثر والتأثير، حيث يتم اتكاؤهم على الزمانِ والمكان بحقول دلالية على اختلاف رؤاهُم الفكرية والنفسية والفلسفية.
وللغياب حضور حسي في نصوص الأمير بدر بن عبد المحسن متموسقا في لغته وتراكيبه، له جهة خامسة، محملة بالحنين، ومكتنزة بالانتظار، يقول الأمير بدر بن عبد المحسن:
في غيبتك كل الملا عندي أغراب
لا أحد ابي قربه ولا أحد يبيني
وفي نص آخر للأمير بدر بن عبد المحسن، حيث الغائب الذي لن يعود والراحل الذي يحضر بكل تفاصيل الوجود:
ما نشدت الشمس عن حزن الغياب
علمتنا الشمس نرضى بالرحيل
وللأمير الشاعر: سعود بن عبد الله، فله مع الغياب تجربة ثرية مثرية حيث يشكل الغياب في نصوصه عنصرٍ استعاريٍ مدلوليٍ يحمل رؤية ورؤيا فنية عميقة، متكئ على
ثنائية النور والظلام لدفع الدلالة لأقصى احتمالاتها وأروع تجليتها :
كل المشاعر في غيابك كسيره
وأنت بظلام العمر للعمر قنديل
عين تشوف وما تشوفك ضريره
عيد الغلا بعد العذاب المواصيل
أما الأمير الشاعر سعد بن سعود آل سعود، فجعل من الغياب ثيمة رئيسية يتكئ عليها النص وتنبثق منه رؤاه، فنجده لازمة تكرارية في هذا النص حيث تكرر لفظ « الغياب «
ثماني مرات، منهمرا بحضور شجي ندي:
علمتني ليلة الحزن ما افرح بالغياب
لو يغيب اللي بغيته عن عيوني يغيب
يا حبيبي ما بعد غربة الحب اغتراب
من غلاك جروح فرقاك ما ودي تطيب
وللشاعر: عطا الله ممدوح، بوح آخر مع جدلية الحضور والغياب، فنجده في هذه الصورة الذوقية يستدرجه الغياب لفضاء النص ليصبح بؤرة فنية في سماء الوعي واللاوعي
الحسي:
غيبتك مُرّه وعلقمها زياده
وش سبايب غيبتك قلّي فديتك
لا تعلّقني وانا مابي جَلاده
لانتظارك بعد ما لهفه ضميتك
كما أن تشظي الغياب في تجربة الشاعرة أغراب، جعلها تخلق رؤية أخرى للغياب، حيث إن الغياب هو الحضور الذي تبحث عنه في وطن ذاتها، فأتت هذه الصورة المجردة
الناضجة تضج بعمق دلالة الغياب القسري (أتنفس أوجاع الغياب) كذلك (شوكة الخاطر) فلنتأمل في قولها:
بسافر وترك ديارك أعيش بعيد عن دنياك
أحس ان غربتي جنبك وزلاتك عناويني
تعبت أتنفس أوجاع الغياب بزفرة الأشواك
وانا اجبر شوكة الخاطر لعل الله يشفيني
للغياب بصر وبصيرة، فلا نرى العالم إلى بمن ومع من نحب، وهذا ما تؤكده الشاعرة : عبير بنت أحمد في هذا الإحساس والشعور الوجداني الشفيف:
والله اني كل ما غمضت اشوفك في عماي
ولا فتحت عيوني اتعامى وانا اشوفك تغيب
وباعتبار أن الغياب دلالة حسية مجردة إلا أن له حضورا مرتبطاً بالمكان ذهنيا وحسيا، فهو وشم في جدار البدايات ووسم في سفوح النهايات، فلنتأمل في هذا التضاد المعنوي
للشاعر عبد المجيد الزهراني:
لا تسأليني وين حزن البدايات
ما ضمّ صدري واحدٍ ما فقدته
في غيبتك غابت شموس النهارات
وحتى المكان اللّي أحبه كرهته
وللشاعرة: مشاعر نجد رؤيتها الخاصة بثيمة الغياب وتجلياته الفنية وحضوره الوجداني العميق في أروقة النص، فلنتمعن بهذه الصورة البصرية:
نور عينك.. يا حبيبي في غيابك ماخذه دور الرجال..
ودورها بس لا منّه حضر حضرة جنابك صارت انثىً طاغية بحضورها
أما الشاعر: عمر المسفر فله فلسفته الخاصة مع جدلية الغياب والحضور، فأصبح الغياب هاجساً ورؤية وجدانية قاتمة بكل انثيالاتها وتداعيتها الحسية والنفسية:
ايه أنا اللي كنت في فقدي أغني
المحبة جرح في روحي وربك
لا تعودني على حضورك لأني
ما عرفت من الغياب الا احبك
أما الشاعرة: عيوف، فجعلت للغياب قيمة حسية طاغية، فكان الغياب هنا غياباً حسياً يتكئ على الأخذ والعطاء عن التنازل والمبادرة، إذ انه أصبح مرجعية وجدانية تحمل
دلالات وتراكيب فنية:
طول غيابي وأنت طوّل غيابك
تمضي بْنا الدنيا وحنّا (نكابر)
شوقك إذا ما ذكّرك بي وجابك
، بـ أصبر مادام إنك على البعد صابر
ولغياب المحب حضور لا يغادر خريطة الذات، ووجود لا ينفك عنها وكما قال الشاعر سعد الحريص، في فلسفة عميقة أنيقة عن الغياب:
دام الغياب أفغيابي ما يغربني عنك
وأنا أزريت لا غيبك عن بالي
تركت خلفي قلوب الناس ترقبني
تركت أنا كل شي وجيتك لحالي
وهنا تقف الشاعرة: رزان العتيبي، في هذا النص المسكون بالغياب متوغلة في أوردة المكان «البحر الشارع المدينة» لتجعل منه بؤرة مركزية يتكئ عليها النص:
فـ البحر فـ وجيه الشوارع فِـ هالناس
مع زحمة الأنفاس فـ أوجاع جدّه
غنّيت حتّى راح صوتي من الياس!
يا جدّة: الغايب أبي من يردّه
أما ثيمة الغياب عند الشاعرة : فتاة نجد، فلها حضور وجداني شفيف، لا يفارق الجهات ولا يغيب عن المدركات الحسية والإشراقات النفسية:
لو غبت ما غاب طول العمر هوجاسك..
مشاعر الود تسرح معك وتجيبك
ومشاعرك مثل ما اشعر فيك وإحساسك..
ما هيب في حال تبعيدك وتقريبك
وللغياب غربة داخلية، تجعلك تعيش وحدك على الرغم من العالم حولك، ويجعلك في تطلع وتشوق لإطلالة من غاب تقول الشاعرة : رغد الشيباني، في إبراز قيمة الغياب
كعنصر وجداني محرض على الكتابة والحضور بشكل أو آخر مع «الأنا» الساردة شعريا:
في غيابك وحدتي لا تحتمل
تستحل قلبي أحاسيس اغتراب
قول لي يا صاحبي ويش العمل
كل يوم ازداد نشوه وانجذاب
أما الشاعر: عبد الرحمن الرزيني، فيشكل من الغياب صورة حركية، حيث يحصد من سنابل الغياب ألف حبة حزن لا تسمن ولا تغني من رجوع:
أنا اللي كل ما تنبت فعيني سنابل دمع، يحصدها غيابك
أنا كل الشوارع ما تبيني أنا قلبي نسيته عند بابك
أما الشاعرة: النجلاء، فنجد أن معجم الغياب وحقوله الدلالية يتكرر في أكثر من نص، إذ أصبح قاسمًا مشتركًا في قاموسها اللغوي الذي يتماهى مع الفقد والرحيل من حيث
مرجعيته الوجدانية، إذ نجدها في هذا النص تجعل من الموروث «السواني» كقيمة إيحائية ومعادل موضوعي لذاتها المتعطشة المترقبة:
يا عطايا العمر ارجع تكفى لا يطول انتظارك
السما تسأل وشط البحر وانفاس المواني
كثر ملح البحر شوفه فيني شكثر انتثارك
لا تطول في الغياب المر وتموت السواني
أما الشاعرة : دهن العود، فهي تتعامل مع الشحنة الدلالية للغياب بشكل أكثر وجعاً وأعمق ألماً، وما يشتمل عليه الغياب لديها من تداعيات الفراق بهذه الصورة الحركية التي
شخصت بها الغياب برؤية فنية في غاية الوعي:
الغياب اللي نحرني من الوريد
قطع عروقي وفي جوفي رتع
ينزع الخفاق ولروحي يبيد
ويدفن أنفاسي فراقك بالوجع
ونجد الشاعر: إبراهيم الحبيرتي يهرب من الغياب بغيب يعبر به من الحسي إلى المجرد الذي يعتبر ضمن الحقل الدلالي للغياب :
من غيبتك والعلوم علوم
نفسي عن الناس منحاشه
اسهر وإذا النوم جاه النوم
أودى النوم لفراشه