" اللؤلؤ المنثور" رسالة الجزء الأول

[سلمان ملوح]

كتبت رسالة إلى أحد أساتذتي الكرام المشتغلين بالأدب والعلم , وكانت طويلة جدًّا ... وليس لها موضع معين , بقدر ما هي أحاديث يأخذ بعضها بحجز بعض , ويجري بعض في أثر بعض , ما جعل أستاذي يهب لها كل يوم شيئًا من وقته , وأكرمني بتسميتها " اللؤلؤ المنثور" ... وأحببت أن أضعها ههنا مجزأة على أجزاء , علها تسعد بنقدكم وإعجابكم أحبابي .

نص الرسالة

قد علم الله ـ وهو العليم بالسرائرـ أني أكتب إليك كتابي هذا وإنّ بين جنبيّ من الهموم والعوارض ما يصرفني عن الكتابة ويذهب بي مذاهب شتى من الأفكار والخواطر, ثم لا ألبث أن أعود لما أنا بصدده من كتابة... وهكذا أظل بين خواطر أدفعها وتدفعني , وتارة أحتاز قلبي منها وتارة تحتازه مني !

لا عزمها واه ولا عزمتي ,, تصادم الجندل بالجندلِ

وليست تلك الهموم والعوارض لحب الدنيا وحرص منها على فوز , أو خوف لها من فوت كلا والله ؛ فلهي أهون عندي من جدي أسك ميْت , ولكن لا بد لكل حي من المكابدة , لا سيما هم فلذ كبدي الصغار الذين قذفت بهم شهوة النفس الحيوانية إلى معترك الدنيا الدنية , فأنا أخشى عليهم غوائل السبيل وقواعده , ولولا تعلق قلبي بربي ـ تبارك اسمه ـ وتوكلي عليه وتفويض أمري إليه لطارت نفسي فرقاً عليهم وجزعا , ولا يحسبنّي أستاذي الفاضل أذهب مذهب المعري في النسل ؛ كلا والله فذلك مذهب من ليس في شيئ من عقل ! وإلا فكيف يجمل بمن يدعي عقلاً وعلما أن يُحكّم عقله في أفعال الله فيصف منها عدلاً وظلما , لقد جعل الله تعالى للجسم طاقة لا يمكن له تجاوزها , ومدى أخير يمكن أن يُراهن عليه وكذلك للعقل ـ الذي أودعه الله هذا الجسم ـ طاقة محدودة ومدى أخير بيد أنّ طاقة العقل ومداه أمر لم يُسّلم به بعض الناس ؛ فظنوا عقولهم تقدر على التفكير في كل شئ , والتقصي لكل أمر , فهاموا بعقولهم في أودية سحيقة وسلكوا بها فجاجا عميقة ثم لم يصلوا بعد هذا إلى شيئ , بل ضلوا وأضلوا كثيرا وصدوا عن سواء السبيل! .

وها هو المعري الذي يُعد من هؤلاء يقول :

متى عرض الحجا لله ضاقت ... مذاهبه عليه وإن عرضنه

فليته يوم أقر بأنّ العقل متى عرض لله ضاقت مذاهبه عليه , أراح عقله من عناء البحث عن أمر لا يمكن أن يصل إليه ! , وإذا كان عقل الإنسان عاجزاً عن إدراك خلق الله فكيف له أن يدرك ذات الله وحكمته ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) وكم نقم طه حسين رحمه الله على المعري مذهبه هذا وقال له ( ومن أداره أن الأمور تقاس بالعقل , أليس من الممكن بل أليس من الحق أن للأمور مقاييس أخرى لا يدركها الإنسان ) ا.هـ وصدق والله , على أن المعري ـ عامله الله بلطفه وعفوه ـ لا يعرض لهذه الأمور ـ فيما قرأت ـ إلا في شعره , أما في نثره فلا تجده إلا مؤمناً مصدقاً , وأحسب أن الشعر يذهب به ـ كما يذهب بغيره ـ مذاهب من الخيال والخواطر تعرض له ويقولها ولا يؤمن بها والله أعلم .