لقد شهدت النظريات النقديةالحديثة تطورات مذهلة، وهذه نتيجة حتمية للطفرات الحادثة في مجال الدراسات اللغوية والأدبية والفلسفية ونحوها، مما أدى إلى تنوع قراءة النص الأدبي من منظورات نقدية متباينة ومتشابكة في آن واحد تعمل على إثراء النص الأدبي واستبطان كنهه وإكسابه دلالات ومعان ربما لم يقصدها المبدع (منتج النص) نفسه.
و نحن حين نتخذ من المنهج الإبداعي أداة تفتح مغاليق النص، فإننا إنما نحاول السير على خطى أستاذنا الجليل:الدكتور عزت جاد في رؤيته منح النص حرية التشكل في ذهن القارئ، ومنح القارئ حرية الرؤية والتأويل وفق ما يتناهى إليه في شعوره.
فالقراءة الإبداعية تمنح القارئ سلطة الإبداع حينما يعبر عن النص المكتوب وفق ما تناهى إليه في شعوره به"
[1]
ليصبح النص بهذا إرثًا مشروعًا للقارئ يقرأ ويكتب ما استطاع أن يستشف من نتائج هذه القراءة في معيته وماشعر به إزاءها في حرية مطلقة دون محاولة الشرح، إننا سوف نقرأ النص المكتوب ولن نكتبه بل سنكتب ما خلفه ذلك النص في مشاعرنا وأحاسيسنا...، ليتولد عنها نص إبداعي أيضًأ.
[2]ينتجه القارئ عبر قراءته.
تعد دلالة العنوان السيمائية مفتاحًا نصّيا يلج من خلاله القارئ إلى النص؛ بل يُشكل في نص الشاعر أمل دنقل من خلال قصيدته " مقتل القمر"بؤرة تتداعى حولها التفاصيل، ورؤية تنطلق من خلالها الدوال، فمنذ اللحظة الأولى تتقد شرارة المولد بنبأ مقتل القمر، عبر ميلاد الشمس.
الوثبة الأولى المفتاح المولد:
مقتل القمر: عتبة تدور حولها الأحداث، تتولد من خلالها المواقف تدور بشأنها الحوارات، لنجدها تسيطر على تفاصيل النص. فمن هو القتيل، الذي قتله أبناء المدينة؟هل هو القمر رمز الخصب والحب؟ أم هو حلم كان يضيء سماءهم ثم انطفأ؟ ثم لم قتله أبناء المدينة؟ وهل يقتل الأبناءآباءهم؟ ولم سمّى أبناء القرية بأبنائه، في حين استحال ذلك على أبناء المدينة؟
نحن هنا بإزاء دال يتسرب لتفاصيل النص، يعتمد المفارقة، فهو مصلوب بعد قتله، وقاتله مجهول في المدينة معلوم في القرية، وهو قتيل ويرى من حوله، وهم بكوا عليه ولم يدفنوه، وترحّموا عليه وتركوه فوق شوارع المدينة. كل هذه المفارقات تتظافر وتنصهر لتخرج لنا بنية فاتنة تفتح لنا باب التأويل رغم بساطتها.
الوثبة الثانية اتساق البنية والدلالة:
ولأن بادرة النص الأولى التي تشكل منها النص كانت حادثة تخلّقت عنها بقية الأحداث، بل وفرضت لغة سردية تعتمد القصَّ والوصف اكتملت بوجود الشخوص والمكان والزمان والأحداث، اتسقت بنائيا منذ لحظة التفجير "وتناقلوا النبأالأليم "، لتتسق معها الأحداث "قتل القمر"، "شهدوه مصلوبًا"،" نهب اللصوص قلادة ..."،" دثرته بعباءته"،" سحبت جفنيه على عينيه" في تتابع للأحداث اتخذ من السرد الشعري خيطًا للبناء.
هذا البناء الدرامي الجمالي الذي قام على الراوي، والمروي له،والزمان، والمكان يوشك أن يقع في فخ السردية حين يقول: " وخرجت من باب المدينة للريف"،" يا أبناء قريتنا أبوكم مات"،" قد قتلته أبناء المدينة" لولا الصورة الشعرية البسيطة التي تأتي تلقائية تصف انفعالات الشاعر بعفوية "كالأسطورة السوداء في عيني ضرير". " ذرفوا عليه دموع اخوة يوسف "،"تركوه فوق شوارع الاسفلت والدم والضغينة"، مع المحافظةعلى انفعالات النص الداخلية حين تأتي متسقة يولّد بعضها بعضا. هذه البساطة شكلت جمالية النص اذ استطاعت أن ترسم ملامح الحدث بأقل عدد من الكلمات دون تهويم يربك البناء النصي.
الوثبة الثالثة الصورة الفنية:
هي الوسيلة الفاعلة التي توصلنا لإدراك تجربة الشاعر، والوعاء الذي يستوعب تلك التجربة عن طريق السمو باللغة، وتفتيق طاقات الكلمة فالصورة تنمو داخل الشاعر مع النص الشعري ذاته
[3].هذاالنمو نجده من خلال تجزئة المشاهد الواردة في النص والتي تبدأ بمشهد عام يمثل قضية يتولد عنها انحراف في المشهد ندركه من خلال: "شهدوه مصلوبا تتدلى رأسه فوق الشجر" مشهد عام يمثل قضية كبرى يتلوه مشهد جزئي "نهب اللصوص قلادةالماس الثمينة من صدره"، ثم مشهد آخر "تركوه في الأعواد ... كالأسطورة السوداء في عيني ضرير" مشهد عام يمثل قضية كبرى. ينحرف المشهد مرة أخرى" ويقول جاري:" كان قديسا، لماذا يقتلونه؟!" ويتتابع" وتقول جارتنا الصبية:" كان يعجبه غنائي في المساء وكان ...."، أيضا:"دثرته بعباءته وسحبت جفنيه على عينيه" لينحرف المشهد أخرى لجزئية تبدو أدنى تمثل قضية فرعية " حتى لا يرى من فارقوه". من هنا تتبدى ملامح أولى نتكئ عليها في تأويل النص ممثلة في تحول القضايا الكبرى العامة إلى صغرى ثم تتلاشى.
ومن زاوية فنية أكثر عمقًا تتجلى صورة القمر حين أخرجه من شيئيته الراسخة ليجعله ممتلئاً بالحياةوالمشاعر،" كان قديسًا"، و" كان يعجبه غنائي "، و" كما يموت الناس مات"،ثم" أسأله عن الأيدي التي غدرت به"، تبلغ الصورة ذروتها محملة بشحنةهائلة من المشاعر حين يقول: "وسحبت جفنيه على عينيه... حتى لا يرى من فارقوه" لينهي المشهد من توه "وخرجت". تاركًا للمتلقي باب تأويل صورة كسرت نمط المألوف حين يحمل القتيل هم الأحياء.
لتتواصل فاعلية الصورة في مشهد القرية حين تأتي محملة بشحنة من الانفعال واستنهاض الهمم، حيث تتظافر الصورالجزئية معًا "يا أبناء قريتنا أبوكم مات " صورة أولى. تجيب عليها"قد قتلته أبناء المدينة" فالصورة الأولى اشبه ما تكون بفتيل متفجر تشعله الصورة الأخرى. يُتبعها بتقنية الاسترجاع أو ما يسمى -السرد الاستذكاري-على شكل استباقي حين تخيل استجابتهم وثورتهم " ذرفوا عليه دموع اخوة يوسف...وتفرقوا...تركوه فوق شوارع الأسفلت ...". امعانًا في رسم الصورة وإشعال الفتيل. بغية خلق الأثر المقصود وهو الثأر لأبيهم. يدعم ذلك أيضًا بتوظيف الأقواس والنقاط كعالم يوازي عالم النص الظاهر، يتحدث بصمت ويرسم مواقفه بصريا في مساحةالبياض حين نعلم أنها جزء أساس من مكونات النص.
ولكن ما يلبث اللهب أنيتجمد، والتفاصيل أن تتوقف، فتتعثر الكلمات، وتختلط الرؤى
"ماذا؟ لا.... أبونا لا يموت ... بالأمس طول الليل كان هنا"
وتتمة الصورة تتجلى في مقطع النص الأخير حيث يأتلق القمر الحزين بالأمس، حين يرحل الضوء ويحل الظلام. لتتبدى هدأت انفعالات النص بعد أن بلغ ذروته متماهيا مع تصاعد الحدث حين بدت تتشكل ملامح القتيل الذي شُبّه لهم قتله من خلال صور جزئيةاتسقت لتشكل صورة كلية للنص.
الوثبة الرابعة الخطاب/ الوظيفة:
اعتمد أمل دنقل اللغة الحادة التي تصف الحدث وتشخصه، "نهب اللصوص"،" بأي ذنب يقتلونه؟" ،"سحبت جفنيه على عينيه"،" قد قتله أبناء المدينة"، "تركوه فوق شوارع الإسفلت والدم والضغينة" متكئا في ذلك على السرد الحكائي الذي أطّر قصيدته ورسم معالمها، فجاءت منسجمة مع السياق تنسل لأعماق القارئ لتحكم قبضتها على مدارك الشعور النفسي فمنذ اللحظة الأولى يُحدث وقع النبأ هزة تقفز بالقارئ لنهاية النص بُغية الكشف عن القتيل، ما يلبث القارئ أن يعود لسبر أغوار التفاصيل خطوة خطوة حيث تدفع الأحداث بعضها بعضا. كما وظف الخطابية المباشرة لإحداث الأثر المنشود ولفت الانتباه "يا أبناء قريتنا أبوكم مات"، " يا إخوتي هذا أبوكم مات".