السيدات والسادة :
ليس من العجب أن نعتبر لفظة المتلقي كيان لفظي اصطلاحي لأننا طالما استخدمنا هذه اللفظة في تعليقاتنا وهوامشنا النقدية ..وكأننا نعتبرها لفظة من اللفظات العابرة ..ولكن في حقيقة الأمر أيتها السيدات وأيها السادة ..عندما نستخدم هذه اللفظة في سياق تعليق نقدي أو هامش دراسي ..فعلينا أن نعي تماماً بأننا مع إحضار هذه اللفظة نحن نحضر مصطلح من مصطلحات النقد المهمة والذي لوحده تسبب في إفراز مصطلحات نقدية مهمة وحينها يكون من الكياسة أن نعرف أننا باستخدامنا لهذه اللفظة نحن نشير إلى أهم وأجمل ((إذا صح التعبير ..))النظريات النقدية الحديثة ..وهي نظرية التلقي ..ونظرية الاستقبال .. ومن يستخدم هذه اللفظة ((المتلقي)) في مجال النقد لابد أن ينتبه إلى أن كل مايليها من استقراءات ونتائج سيكون متعلق وصادر من مشكاة هاتين النظريتين وربما أكثر ..
لماذا الفصل ؟
هنا نؤكد على أن نظرية التلقي ..منفصلة تماماً بالمنشأ والتبني عن نظرية الاستقبال وهما لا ينتميان إلى بيئة واحدة ..ولكن الهم مشترك .. سأكتفي بذكر أحد الفوارق وهو أن نظرية التلقي من مدارس أوربية ((ألمانية ))أما نظرية الاستقبال فمن المدرسة النقدية الأميركية ..
ولقد تم تجاوز هذا الفصل وغالباً ما يتم الدمج بينهما في إطار الحديث حول النص والمتلقي / الباث والمستقبل ..
وعلى ذلك سأبين هاهنا أقانيم عملية التلقي أو فلنعتبرها معادلة الألفاظ المستخدمة والواجبة الاستخدام في تناول هاتين المدرستين النقديتين للإنتاج الأدبي والتواصل والاتصال مع القارئ *
مدرسة التلقي : النـَّاص(( المؤلف )) .... النص ... المتلقي
نظرية الاستقبال : المُرسل(( المؤلف )) ....الرسالة ...المُرسَل إليه أو الباث .....الرسالة.... المُستقبـِل
أعتقد انه كان لابد من هذه التوطئة ..
وأدعو نفسي وإياكم إلى هذه المائدة النقدية الفاخرة ..
المنشأ الفلسفي :
تعود جذور النشأة الفلسفية لمصطلح (( المتلقي )) إلى الفلسفة الألمانية منبثقة بشكل مباشر من معطيات الظاهراتية والتأويلية ، ومِن أهم مَن مثلها : (آيزر، وياوس، وفيش ) الذين أسسوا لنظرية التلقي ..وماتبعها من معطيات مدرسة كونستانس المرتكزة على نظرية التأويل وخصوصاً نظرية ((هانس غادامير ))
ملاحظة : (( كونستانس (بالألمانية: Konstanz) هي مدينة تقع في أقصى جنوب ألمانيا على بحيرة كونستانس على الحدود مع سويسرا ))
أما نظرية الاستقبال فنظرية الاستقبال وُلدت في النقد الأمريكي الحديث ضمن ما يعرف بـ ( النقد الأنجلو - أمريكي ) ، ويتحدد بمجموعة من النقاد من أهمهم : ( جوناثان كيلر، ونورمان هولاند ، وديفيد بليش ، ومايكل ريفاتير )
وتعتبر نظرية التلقي والاستقبال اليوم من أشهر نظريات الأدب وأكثرها ورودًا في كتابات النقاد، وأشدها صلة بمقياس الجودة الفنية للمـُعطى الأدبي ، إذ هي التي تحدد أبعاد تلك الجودة من خلال مشاركة المتلقي أو القارئ أو المستقبل (على اختلاف المصطلحات) في تكوين النص نموذجًا أدبيًا .... وقد ذهب البعض إلى أكثر من ذلك فحمل المتلقي مسؤولية إعادة إنتاج النص وتتكرر هذه العملية تبعاً لنوعية المتلقي وإمكانيات النصوص وهذا مايحدد الجودة الفنية للمنتج الأدبي ..
ولكن قبل أن نغرق في حديثنا اسمحوا لي بتبني عملية الدمج بين النظريتين لسهولة العرض والأمر الآخر و من باب الأمانة والافتخار و الانتمائية علي الإشارة إلى أن العرب كأمة مستمعة وقارئة تعتبر من أخطر الأمم في عملية التلقي لما تتميز به من سليقة وفراسة لغوية وربما نجد بين طيات الكثير من الحوادث الأدبية والمسجلات والمناظرات في تراثنا الأدبي نجد آثار وبذور لنظرية التلقي الحديثة والأمثلة كثيرة يضيق بنا المقام هنا على ذكرها ..
اعتبارات نظرية التلقي والاستقبال :
حاولت النظرية النقدية وعلى مر العصور صب الاهتمام على أحد عناصر العملية الفنية في الإنتاج الأدبي (( على العمل الأدبي أو مايحاكيه ، أو على المؤلف أو على القارئ )) ولكن القارئ كان دائماً ما ينسحب ويتنازل عن دوره وأهميته إما لصالح النص كمحتوى ومضمون أو للمؤلف حتى يستفيد القارئ من عبقريته ويستمتع بالمنتج إلى أن ظهرت نظريات الألسنة والتفكيك والبنيوية فعززت دور القارئ في العملية الفنية مما مهد لظهور نظرية التلقي والتي قلبت الموازين تماماً لمصلحة القارئ وأعادت الاعتبار إلى أهمية سياقات النص بعد إهمال السياق من قبل مدارس الألسنة ودوره في توجيه آلية التأويل لدى القارئ لترفع من شأن الأنساق وتفكيكها وأكدت نظرية التلقي وفق حقيقة نقدية قارة بأن الفاعلية الأدبية لاتتجسد إلا بوجود قطبين الأول القطب الفني والذي يتمثل بالنص الناتج عن المؤلف وأنا أعتبر هنا أن المؤلف هو القطب الفني ..والقطب الجمالي والذي يجسده المتلقي ففعل القراءة يتحقق بصريًا وذهنياً عبر استيعاب النص وفهمه وتأويله وهو الذي يخرج النص إلى فضاءات لا محدودة من إعادة الإنتاج
وبعد تكثيف دقيق للحراك النقدي داخل مدرسة التلقي أعتقد أننا يمكن أن نجمل المحاور التي دارت عليها رحى النقاش والدراسة
فيما يلي :
(1) من هو القارئ ..
(2) ما هو منهج القارئ في التلقي والاستقبال
(3) ما هي استراتيجيات النص أثناء كتابته مع المتلقي المفترض لدى الناص
(4) كيمياء التلقي وماهية التفاعل بين النص والقارئ ومفرزاتها *
السيدات والسادة سأعرض لحضراتكم هذه المحاور بطريقة سردية واصطفائية وبتصرف كبير مني(( أتحمل مسؤوليته ))
متقصداً الابتعاد عن اللغة التخصصية والمدرسية قدر الإمكان (فليعذرني أهل الاختصاص ..)
فنظرية التلقي مشتبكة مع اتجاهات نقدية واسعة وأستطيع القول أن هذا الاشتباك ناتج عن تبنيها لدور المتلقي وإعطائه النصيب الأكبر في آليات التفاعل الأدبي ......
هذه النظرية نستطيع أن نعتبرها روافد متعدد ة تصب في أحواض فكرية نقدية كثيرة ..
(1) من هو القارئ :
لابد أن نضع لتعريف النص الأدبي صيغة نرتكز عليها في تناولنا للقارئ وأرى أكثرها تناسباً هو ما طرحته نظرية الألسنة
كتعريف للنص وهو ((النص هو كل متتالية من الجمل شريطة أن تكون بينها علاقات لغوية تؤدي بها إلى مجموعة من المعاني المقصودة للقارئ أو للكاتب نفسه أو لكليهما معاً ..))
وهنا لانهمل كون التلقي سمعي أو بصري (( استماع أو قراءة )) على اختلاف خصوصية التأثر في كلتا الحالتين ..
على ما سبق تحدد نظرية التلقي صنفين كبيرين للقارئ ويتبعهما تفرعات كثيرة وهما :
أولاً : القارئ المفترض
ثانياً : القارئ الحقيقي
أولاً : القارئ المفترض :
هنا أيها المبدعون نستطيع إيقاف الزمن لبرهة قصيرة لنفتش عن أنفسنا قبل وأثناء وبعد عملية
الكتابة ...نستطيع أن نجد إجابات وافرة عن معطيات العمل الأدبي من الرمزية إلى الغموض إلى التقريرية والمباشرة إلخ .
لمن يكتب المبدع أثناء فعل الكتابة ؟ سؤال إجابته خطير لأننا من خلالها نستطيع رصد الحراك الداخلي في النص ..
أعود وأقول بأنه يندرج تحت هذا المسمى الأصناف التالية :
_ القارئ المفترض المقصود /المضمر :
ثمة "القارئ المُضمَر" وهو، حسب طائفة من نقّاد مدارس استجابة القارئ، هو ذلك القارئ الافتراضي الذي يضمره الأديب، واعياً أو غير واعٍ، لأنّ المؤلّف يخلق في النصّ ((صورة عن نفسه وصورة أخرى عن قارئه))
كما يقول الناقد الأمريكي /واين بوث/. وهو «يصنع قارئه تماماً كما يصنع نفسه الثانية»، ويُفترض في هذا القارئ (المُفتَرض في الأساس) أن يكون على معرفة نقدية وجمالية بمقدار كبير من خصائص النصّ، خصوصاً تلك الخافية المعقدة. ومن يحدد وجود هذا القارئ هو المؤلف من خلال استخدامه آليات وحيل معينة داخل النص للمواراة ولإضمار وجود هذا القارئ من باب تضمين البنية الفنية بما يعرف بفراغات الاستدلال والإحالات للمعنى المتعدد لاحتمالات التأويل
_ القارئ المفترض النموذج :
وهو من محض اختراع الناقد ولا يدل إلا عليه ولا يعدو أن يكون احد آليات الناقد والتي يستخدمها في شرح النص وتفسير آلياته أو أن يكون هو المثال الذي يُحتذى به في مقاربتنا للنص ..
فالناقد عندما يتحدث عن النص فإنه إما يتبنى قارئ يحوز على الكفاءة وفق مايعرف بمصطلح (( القدرة والكفاءة )) (أ)
وهو من مصطلحات نظرية التلقي .... أو أنه يعتبر نفسه هو ذلك القارئ ...
_ القارئ المفترض المثالي :
وهو "القارئ الأمثل"،والذي يأمل المؤلف أن يصل إليه النص وقد يكون هو جمهور الكاتب أو القارئ المستهدف من قبل الكاتب وهو الذي يستولي على معظم خصائص القارئ في النمطين السابقين ، فضلاً عن كونه بالنسبة للمؤلف هو ذلك المجهّز على أحسن وجه لفكّ ألغاز النصوص، وعُدّته تتراوح بين المعرفة الواسعة، والقدرة على التذوّق، وتوفّر الحساسيات والإنحيازات، والخبرة الطويلة في استراتيجيات القراءة. هو، إذاً، حامل عبء مع المؤلف، أو أحد الوسطاء بين الكتابة والاستقبال، إلا إذا تضخم تفاعله مع النصّ فبلغ درجة الغطرسة والتعسف. وهنا أشير أن هذا الصنف من القراء المفترضين من قبل المؤلف ربما يجر النص إلى فخ الغموض أو الإلغاز أو الذاتوية العميقة ...
ملاحظة : هناك تداخل كبير في ألفاظ صفات المتلقي المفترض فمثلاً القارئ المضمر عند ((آيزر)) هو نفسه المثالي بالنسبة لـ((فش)) ..الخ من هذه التقاطعات
ما يهمنا أيتها السيدات والسادة هو تحديد ورصد حالات التلقي .. وأعتقد هذه الاختلافات والتقاطعات في التسمية هي التي أدخلت نظرية التلقي في أجواء التشتت وسأذكر لحضراتكم مسميات للمتلقي المفترض
-القارئ المثالي لدى( رومان إنغاردن)
-القارئ التاريخي لدى(هانس)
-القارئ الضمني لدى (آيزر)
-القارئ الهيدوني لدى (رولان بارت )
-القارئ التخييلي لدى ( ميشل كارلس)
-القارئ النموذج لدى ( أمبيرتو إيكو )
-القارئ المفكك لدى ( جاك دريدا)
-القارئ الجامع لدى ( ريفاتيير)
-القارئ المستهدف لدى ( وولف )
-القارئ المخبر لدى ( ستانلي فيش )
-القارئ «اللاعب» لدى ( ميشيل بيكارد )
-القارئ المجرد لدى ( ليند فيلت )
-المسرود له في السرديات لدى ( برنس )وغيره ...
ولمختلف أنواع هؤلاء القراء تحديدات نظرية لاتمتلك لدى أصحابها أي وجود فعلي أو واقعي، بقدر ما هي كيانات نصية وافتراضية مثبتة في ثنايا النصوص يستخدمها المؤلف كوسيط بين النص والقارئ ..
كل هذه الأسماء هي ممن تؤرقهم نظرية التلقي ولكنني وأعتقد أن عرضي لثلاثة أصناف ربما يخدمنا في شرح فكرة نظرية التلقي وأعتقد أيضاً بأنه يوجد فروقات بسيطة بين التصنيفات التي قدمتها ..وباقي المسميات الآنفة الذكر ..
"يتبع"