هل الشعر في أزمة ..أم الشعراء ...أم القراء ...أم أن دائرة المعرفة فقدة مركزها ...؟
سأعرض على حضراتكم سؤال وجهه لي صحفي ..فكان الإجابة على قدر مساحة البياض المسموح بها ..شاركونا الإجابة ولنتصالح مع ذواتنا المعرفية ..وكان السؤال على النحو التالي ...1ـ
نبدأ من الأزمة: كان الشعر يوحد الناس, ويجمعهم حول قضاياهم, ولم يعد كذلك الآن..؟ كان في أول قائمة النشر , فأصبح في آخر القائمة نشرا ً واستهلاكا ً ....هل فقد الشعر وظيفته ..؟*
ربما يكثف هذا التساؤل هموم قضية كبرى من قضايا الفكر الإنساني المعاصر والتي توشك فضاءات المعرفة أن تضيق بها على اتساعها ..فنحن نقف أمام هيكل التجسيد الأول لروح الفكر الإنساني .. الشعر..
ويبدو أن الإحساس العام بالمسألة إحساس يثير الشفقة وربما دفع البعض لنعي الشعر في أكثر من مناسبة وهذا رأي مأساوي يجب تجنب الحديث به ـ كما أعتقد ـ ولننظر إلى المسألة من جانب آخر نعتبر فيه أن مايحدث هو حالة تطورية تنتاب العملية الشعرية ولكنها تعاني من صعوبات التلقي والتقبل ثقافياً ..
فعندما نقول هل فقد الشعر وظيفته ..؟ هذا يوجب تحديد ماهية هذه الوظيفة .. ـ وبشكل مكثف ولضيق المجال ـ
سأحدد وظيفة الشعر في إتجاهين الأول يتضمن الوظيفة الجمالية وتساوي المعرفية .. الثاني يتضمن الوظيفة التنظيرية وتساوي المنبريّة ( القيادية ) وماحدث في الواقع أن الوظيفة الجمالية المعرفية إزدهرت وتأججت
على وقع صدمة الإحساس بإتساع الفجوة المعرفية بين الجنوب المتأخر والشمال المجدد في أطروحاته المعرفية والإبداعية , فبدأت الذات الشاعرة المبدعة والمسؤولة معرفيا تحث الخطا بإتجاه موازاة الآخر على الأقل قبل التفوق عليه ..فتفتحت آفاق الوظيفة الجمالية المعرفية للشعر .., أما الوظيفة التنظيرية فأخذت بالتراجع والإنحسار
فالعالم الآن يعيش في عصر الإماهة العقائدية الذي يطال حتى قواعد القيم الإخلاقية التي كان يتفق عليها الناس في يوم من الأيام وكانت قضايا مطلقة ومشتركة بينهم لاتمس ..وكان للشعر أن يقول قوله فيها ويكون منبراً للدفاع عنها والحث عليها .. وهنا أعبر عن رأيي الخاص فأقول أن الشعر تحول من مرحلة الرسالة إلى مرحلة النبؤة ..لم يعد الشعر مبضع الجراح ..إنه الدواء الذي يهيء الجسد قبل الجراحة .... لم يعد الشعر اليوم يقود مظاهرات ولايقلب كيانات ولايردع إساءات ...لأنه قبل أن يفعل ذلك يجب أن يصحح ويوحد البنية المعرفية للجماهير هذه البنية التي ضربت من قواعدها ..إنه اليوم يتبنى معالجة الآفات التي تفتك ببنية الوعي العربي ..إنه الرسول المعرفي الذي ينقل إليك الحضارات بثقافاتها وطقوسها وأعرافها ..لقد استغنى عن الصراخ والشعارات لأنه لم يعد أحد يثق بهذه الالية في الخطاب الشعري ..هو الآن يهدهد الخواطر يخفف الآلام يبعث الأمل المعرفي الثقافي
وكأن الشعر يؤسس بنية معرفية سليمة وصحيحة وجديدة لثقافة عربية إبداعية تحمل بداخلها إمكانات وجوب القدرة على التغيير .. ولذلك يبدو الشعر وكأنه فقد وظيفته لأنه فقد منبريته المألوفة وحسب ..واتحمل مسؤولية القول بأن الشعر لم يكن في يوم من الأيام أحسن حالا كما هو عليه اليوم معرفيا وهذا ينسحب على أدبنا المعاصر وعندما نكون أمام شاعر حقيقي ..
وهنا يبرز السؤال التالي : مادام الشعر في أوج عطائه الجمالي المعرفي وهناك نسبة جيدة من الشعراء المسؤولين ..أين الأزمة إذاً ..ولماذا لانشاهد مانبشر به من إزدهار الشعر معرفياً ..؟ أقول إنها أزمة تلقي.. وتحتاج إلى دراسات وأبحاث كاملة للإحاطة بأسبابها ..ولكن سألقي الضوء على سبب يبدو في وقتنا الحاضر بأنه الأكثر إلحاحا ًفي طلب معالجته وهو أن وسائل التواصل بين الشعر والمتلقي شبه مقطوعةفي وقتنا الحاضر
ومن الملحّ جداً أن نحافظ على استمرار حلقة التفاعل المعرفي بين أطراف العملية الإبداعية ( الناص ـ المتلقي )وهذا أضعف الإيمان كما يقال.. وكما يبدو ويشعر به الجميع في أيامنا هذه أن الكتاب هو وسيلة التواصل الحصرية بين المتلقي والشعر ..في حين والجميع يعلم أن نسبة المتلقي المستمع المشاهد تزداد تضخما على حساب المتلقي القارئ..
وهذا أمر واقع وأسبابه شائكة ومتعددة وجدلية .. فهل نترك المتلقي وشأنه ونبدأ بممارسة فعل التعالي الذي أصبح آفة من آفات المثقف العربي ..أم سنسعى لتجسير الهوّة وتحقيق التواصل فلنكن واقعيين ونقر بأن التضخم الإعلامي من حيث وسائل التواصل أصبح يلعب دورا مهما ً ومنافسا ً للكتاب وهذا ماقلب المعادلة فربما كان المتلقي يذهب إلى الشعر أما اليوم فهو يريد للشعر أن يأتي إليه ..وهذا واقع لن نستفيد من إستنكاره بل علينا أن نتعامل معه فقد تحول مجتمعنا إلى مجتمع مشهدي تقوده شاشة عرض متعددة الوجوه .. وهناك شبكة المعلوماتية العملاقة التي تأسست فيها الأن منتديات ثقافية ضخمة وذات طروحات جدية ..فمتى سنأخذ بعين الإعتبار كمثقفين أهمية أن تأخذ هذه الأقنية التواصلية صفتها الرسمية من قبل المؤسسات الفكرية الإبداعية لتفعيل عملية التلقي المجدي.. لماذا لانقتحم مجالات التواصل الجديدة ونفرض أنفسنا كطرف محاور فيها بدلا من أن يبقى الكتاب في أبراجهم العاجية الواهمة التي عزلتهم عن حركة المجتمع وربما ألصقت بهم أسباب كوارث المجتمع العربي ..؟هناك ذرائع كثيرة يمكن أن نحتمي من ورائها لإسقاط هذا الإقتراح ولكن على الجميع أن يعلم أنه هذا هو الواقع ...فهل نستغرب بعد ذلك أن الشعر أصبح في آخر القائمة نشرا ًواستهلاكا..! فالكتاب وللإسف أصبح بالنسبة للكاتب وثيقة لحماية حقوق التأليف والأرشفة وربما احتاجه النقاد لإجراء دراسة ما حوله ...
وأعتقد أنه هناك طرف ثالث يغيب عن عملية التلقي بين الكاتب والمتلقي وهو النقد .. فالمراقب للحركة النقدية يلاحظ إهمال النقاد لمذهب مهم من مذاهب النقد وهو النقد التوفيقي ونحن نطالب به للحد على الأقل من مغالاة الكتاب وإسرافهم علىأنفسهم في إستخدام وسائل العرض الشعري الوعرة ..وننتهي من العبارة المقيتة التي يكثر ترديدها في هكذا ظروف وهي ( لماذا لاتقول مانفهم ..فيرد الناص : لماذا لاتفهم مايقال ..)