قِصصٌ تُروى . - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
شطحات وأمل (الكاتـب : نواف العطا - مشاركات : 3419 - )           »          [ فَضْفَضَة ] (الكاتـب : قايـد الحربي - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 75183 - )           »          [ بكائية ] في فقد البدر .. (الكاتـب : خالد صالح الحربي - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 21 - )           »          مِن ميّ إلى جُبران ... (الكاتـب : نازك - مشاركات : 879 - )           »          مجنون قريتنا .. (الكاتـب : عبدالعزيز المخلّفي - مشاركات : 3 - )           »          لاَ مِسَاس ... ! (الكاتـب : جليله ماجد - مشاركات : 514 - )           »          اوراق مبعثرة!!! (الكاتـب : محمد علي الثوعي - مشاركات : 436 - )           »          في المقهى .. ؟ (الكاتـب : سيرين - مشاركات : 4461 - )           »          تجاربك . . . خبراتك . . . فائدتك (الكاتـب : نواف العطا - مشاركات : 1493 - )           »          كل يوم حكمة (الكاتـب : سلطانة الكلام - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 46 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد النثر الأدبي

أبعاد النثر الأدبي بِالْلُغَةِ ، لا يُتَرْجِمُ أرْوَاحُنَا سِوَانَا .

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-22-2009, 01:46 PM   #16
عائشه المعمري

كاتبة

مؤسس

افتراضي معاوية الرواحي



ابتسامة لـرجل الغروب


لأنه هناك. رأيته واقفا بسكون النجوم، في البعيد .. يترك بصْمته بذاكرتي صدى، كالراحلين، والتفاتة أخيرة يتركونها
لدموع الأحبة. أنصت لوقع خطواته الحزينة وأتأمل خيال وجهه المنطفئ، أتخيل عينيه فأخاف السقوط من السماء
بدونهما. يمشي برفق وكأنه يشفق على القرميد من الوداعة الساكنة خطاه في مروره العابر.
هناك أسفل معطفه الداكن أترك للخيال نفسي وأسافر معه في غروب جديد من التأمل. يقف كتمثال نابض بالحياة، واضح
التفاصيل، مبهور الأنفاس. يحدق في المدى الواسع، أتخيل عينه وهي ترفّ تحت عصف النسيم؛ فيبدو مرهقا من وطأة
لطفها على قسماته الساهمة. وتهرب الأنّات من صدري مرة أخرى. تنتهي الشمس من غرقها الأزليّ فيدير ظهره بادئا
غروبا آخر لغريب وحيد، وفتاة تتبعه ببقايا التساؤل وتتابع الأنفاس. وأغمض عينيّ مقترفة حلما جديدا:

- أيها الرجل هناك. أيها البعيد.

((يلتفت إليها كما يرى سفينة تعبر البحر، يبتسم كما ابتسم يوم اختفت الشمس خلف السحاب، وغربت مرتين، تناديه
فيغادرها النداء، يريقه لفح أنفاسها على شرفتها، تسكب الماء على الزهور ويغادرها بابتسامة الغروب، فترتجف.))

ربّاه، أهو الحب؟ شرفة تعانق الغروب، ويدي المرتجفة وراء أصيص الزهور، رجل غريب يأتي ويرحل بكل غموضه
ليتركني محدقة في حمرة الشفق، ولا أعلم أين أنا. ليته يحملني على الطرف البعيد من ابتسامته، وليتني أودع نفسي في
شروده للأبد وأبقى هناك حتى تنتحر الشمس للمرة الأخيرة.

تسقطتٌّ أنباء قدومه الذاوي وحضوره الخائف لمقتل الشمس كل يوم، فلم يجبني إلا الغياب وكأنه لم يكن إلا بداخلي، ربما
لأنه يمرّ على هامش الزمان والمكان لديهم، لا يرونه من شرفتي الصغيرة كما أفعل كل يوم، لا تحاصرهم الأسئلة لمرآه
شاخصا الأبصار مشدوها كأغنية المآتم، أو مبتسما كرضيع في صدر أمه. ربما لأنهم لا يلتقونه مع أفق يشرب آخر
انثناءات الضوء، وزهور منتعشة التويجات، تشرب ماء الحياة كما يشرب البحر حمرة الشفق. لأن السؤال كان من نصيبي،
والدهشة آخر ما يجعل قلبي ينتفض كطير مذبوح أو كطائر طنّان يبحث في عمق عينيه عن وجهه مستديرا إلى زهور
شرفتي. لأنه رجل الدهشة، رجل البسمة، رجل جاء ولم يثر غبار الأسئلة حوله، ولم ينثر العجب على الجميع كما فعل
معي؛ آمنت أنني أرى الغروب مرتين، مرة في هروب الشمس داخل البحر، ومرة وهو يخطو خطاه بإيقاعهن الناعم؛ ليترك
فتاة قابعة في انزواء شرفتها، متلاحقة الأنفاس، مصعّدة الأمل.


لأنه رجلي أنا، ورحلتي اليومية في ارتباك لطيف؛ تركته للخيال فرسمه كما شئت أن أراه، بعيدا عن ظله الممتد من حافة
الرصيف حيث يستقر تطاولٌه على صدري. جعلت له عينين واسعتين، يشع الغروب منهما، ويستوطنهما بريقه الآسر،
أعطيته لحية خفيفة تهديه الوقار، تخيلته صوتا واضح النبرات، نابضا بالقوة، مهذبا بالحزن. أوسعت معطفه برائحة
البرتقال، تتصاعد منه فلا تصل لسواي، غادرني كلُ ما رأيته إلا ابتسامته التي يرحل بها وهو يستدير نحوي بوجهه
المفعم بالظل ليواصل نقر الرصيف بوقع أكثر حزنا. جعلت للغبار ثورة رقيقة وهو يمرغ قدميه في نثار الرصيف الرملي.
كما جاء هو بالخيال؛ جاء به الخيال بصورة تهيّج الرعشة، صورة تتركني صريعة لهاجس وحدتي، وتقلبات سؤاله العنيد،
من هو؟.
وأصغي مرة أخرى لحلم آخر:

- أيها الرجل، أنت، يا رجل المعطف.

(( يمر أمامها برتابته المعتادة، يغمرها برائحة البرتقال، يحتك مرفق معطفه بيدها الممدودة، ويواصل عبوره خلالها بين قرميدة وأخرى. وترتجف مرة أخرى)).

قديس يسدن خاشعا أمام البحر، هناك أمام بقايا الملح الجافة في القرميد الأحمر أذعنت للتلاشي، الاستسلام لموجة الوهم
تقذف بي أسفل قدميه فأراه عملاقا كالسماء وأنا جزيرة صغيرة في بحره المتلاطم. رأيته يزفر وقاره الساكن على تخيّلي
فأتنهده أكثر. أصرخ للسماء: "إنني إنثاك أيها البحر، حوريتك أيتها السماء، ودعة يغمرها ظلك أيها القديس ويطهرها
ضوءك أيها المحراب الطاهر، فانزل لي من عليائك أيها الرجل، تنهدْني يا رجل الغروب، دعني أغمرك بالحب، وأرتّلك
تسعين غطسة للشمس، تولّني بصمتك الهادر واحتضنّي حتى تموت السماء". سُجنت بصوتي المختنق طويلا لاجئة لظله
المنتهي في صدري وقلبي يسّاءل عن سره. هناك حيث اللاحلم واللاحقيقة، بين اشتياق ضفائري ليده المودعة بمعطفه
دائما، وبين تحرّك غموضه في حناياي؛ تصاعد صوتي المرتعش حاسبة نفسي أتمازج مع إحدى أخيلتي، حيث افترقت عن
كينونتي لأسكن رغبتي في النداء، هناك وهو الواقف بتأمله الرفيق لغروب يراه كل يوم، ويفرحه كل يوم، كنت -ولم
أحس- أقترف غروبي به وفيه. حيث كان هو ذلك الــ(هو)، ولم أعرف هذه الــ(أنا). لأن الهاجس ناداه وقلب الهاجسة تاه
في عتمة وجهه تسعون يوما:

- إيــــــــــــــــه. يا رجل.

هناك حيث اقترب ناقرا الأرض أسفل شرفتي، عيناه السوداوين، لحيته الخفيفة، وجهه النورانيّ حاملا استفهامه المتجلي مع اقترابه البطيء. من هناك جاء يقترب لفتاة نادت فيه غروبه الآفل وجاءها رافعا نظره إلى شرفتها، برائحة البرتقال التي تضّوع وتنتشر في أوصالها المرهقة. وقف على عتبة الحلم والحقيقة، أسفل شرفتي، أرفع رأسي لأراه، ويرفع نظرته ليراني.

- يــــــــــــا رجل. اخبرني. من أنا؟

يتمايل رأسه قليلا ويغوص أكثر في عينيّ، يلتفت بخطاه الرتيبة نحو طريقه المعتاد، ويكمل رحيله الذي رتّلته الأيام خطوة فخطوة تاركا صمته أمامي. هناك والشمس تتبع ناموس الأفق، استصرختْ الأنثى بداخلي، والحبُ، والدهشةُ، والتساؤلُ، استصرختُ لهفتي وأيامي الممتزجةَ بوقفته:

- يـــــــــا رجل. من أنت؟

يلتفت ويخرج صوته متغلغلا في أوصالي، باعثا الرعشة، ومثيرا رجفة الحلم الأخير:

- أنـــــا رجل الغروب.

يلقي ابتسامة الظل في الهواء، ويكمل خطوه الرفيق طيّ الطريق، مجليّا درب رحيله الأفقيّ، ورأيتني هناك أتشبث بطيف ابتسامة أخيرة، وذاكرة لتسعين رعشة ذهبت ولم تعد.

 

عائشه المعمري غير متصل   رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:47 AM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.