قردة وخنازير (رواية) - الصفحة 2 - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
(( أبْــيَات لَيْسَ لَهَــا بَيــْت ...!! )) (الكاتـب : زايد الشليمي - مشاركات : 15 - )           »          [ فَضْفَضَة ] (الكاتـب : قايـد الحربي - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 75148 - )           »          فلسفة قلم .. بأقلامكم (الكاتـب : سيرين - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 3845 - )           »          غياب القناديل (الكاتـب : أحمد عبدالله المعمري - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 3 - )           »          تخيل ( (الكاتـب : يوسف الذيابي - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 428 - )           »          ورّاق الشعر [ تفعيلة ] (الكاتـب : نوف الناصر - مشاركات : 5 - )           »          بُعدٌ جديد ! (الكاتـب : زكيّة سلمان - مشاركات : 1 - )           »          عَـيني دَواةُ الحـرفِ (الكاتـب : حسن زكريا اليوسف - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 4 - )           »          " قلطة " : اقلطوا .. (الكاتـب : خالد صالح الحربي - مشاركات : 94 - )           »          اوراق مبعثرة!!! (الكاتـب : محمد علي الثوعي - مشاركات : 423 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد النثر الأدبي

أبعاد النثر الأدبي بِالْلُغَةِ ، لا يُتَرْجِمُ أرْوَاحُنَا سِوَانَا .

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-04-2019, 08:14 PM   #9
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(6)

لم يتصور إيهاب يوماً أنه سيتعرض لموقف كهذا.. ولا في أسوأ كوابيسه حالكة السواد..
أكيد (س-600) ينتقم منه شر انتقام..
لكن رب ضرة نافعة.. فقد جعله هذا يصاب بسعار حيواني.. سيأكل حنجرة أول وغد يفكر في الاقتراب منه.. صحيح انه فقد كل أسلحته الحديثة لكن من قال انه سيستسلم لهذا المصير المشين؟
رآهم يتخففون من ثيابهم ويريحون أسيافهم على الأرض فازداد جنونه.. وبدون تفكير وثب على أقرب قراب منه، وبمجمع قبضتيه سل منه السيف بالغ الثقل..
ـ سأفصل رأس من يقترب مني عن جسده..
تبادلوا النظرات ثم انفجروا في الضحك الشيطاني إياه..
إنهم لا يبالون به.. الأمر يبدو لهم أقرب إلى رجفة ذبابة تحتضر.. ربما جرح واحد أو اثنين ثم.. لا وقت للمجازفة إذن .. لابد أن يحدد هدف واحد ويوجه له ضربة واحدة ..
وبدون تردد دار على عقبيه وهوى بالسيف على رأس بافوميت نفسه..
هنا انفتحت أبواب الجحيم..
دخان أزرق كثيف تصاعد من مكان الرأس المبتور مع صوت خوار حيواني امتزج بصرخات الفرسان الذين روعهم المشهد.. رأس صنم يتكلم ويطلق خوار ثور ذبيح حينما تبتر رأسه، ويتصاعد من موضع البتر دخان أزرق .. هذا سحر أسود لا شك فيه.. الحقيقة التي اكتشفها من خلال تجربتين في النطاق النظيف، أنه لا يوجد نطاق نظيف في هذا العالم، أنت محصور إما بين جنون التكنولوجيا الحديثة وملوثاتها، أو هوس العودة للماضي المظلم بكل وثنيته ودجله وسحره ..
حينما نظر إيهاب للفرسان أدرك فداحة الأمر بالنسبة إليهم .. إنهم ينتفضون.. يتشنجون.. ينتفون شعورهم كالثكالى، ويتمرغون في الأرض.. ترى ما هي العقوبة الجهنمية التي تليق به بعد ما فعل؟
لم ينتظر ليفكر.. كان عليه استغلال الدخان الكثيف وحالة الجنون التي انتابت فرسان الهيكل كي..
كي يسترد أسلحته التي سلبوها منه وكوموها في جانب.. كي يستدير إليهم بكل مقت وتقزز.. كي ينظر لهم نظرة الوداع وهو يضغط على زناد سلاحه الألي..
كي يراهم وهم يتساقطون كالذباب تحت قدميه..
ـ موتوا.. موتوا..
ووقف ينتفض والدخان يتصاعد من فوهة سلاحه بانتظار رسالة من القيادة تعلمه بنجاح المهمة..
" أيها الشرطي.. خطر المتمردين لم ينتهي بعد.. لقم سلاحك وكن على حذر.."
ـ تباً..
قالها وهو يلقم سلاحه وعينه تجوب المكان من حوله.. لا شيء سوى جثث.. ورأس تيس مقطوع.. و..
هنا بدأ يلاحظ..
رأس التيس المقطوعة ليست على ما يرام.. هناك شيء يبرز بالتدريج من عند العنق.. بل أشياء.. وبدون تفكير صوب ناحية الرأس قبل أن يستكمل نموه الغريب وأطلق النار..
لكن الرأس لم ينتظره.. سرعان ما تحرك على ما يشبه الأقدام متوارياً خلف أحد الأعمدة..
" دمر رأس الشر"
أنه لا يحب المفاجئات في العمل.. لكن ليس لديه حل أخر حتى يخرج من هنا سالماً.. تقدم من العمود الذي توارى خلفه الرأس وقلبه ينبض بعنف.. ثم دار بحذر من حوله وهو يكتم أنفاسه وأصبعه السبابة يداعب الزناد..
هنا شعر أن الدنيا قد أظلمت فجأة أمامه فتراجع تلقائياً وهو يصيح في فزع..
الخوار المريع يصم أذنيه والمشهد الأبشع يذهل عقله عن الاستيعاب. لقد نبت للرأس جسد ضخم له فراء كفراء الدب.. لقد عاد للحياة كالعنقاء لينتقم.. الوثبة الهائلة التي قطعها المسخ كانت لا تتناسب مع حجمه الهائل.. وسرعان ما كان يجثم فوق أنفاس إيهاب..
دوت عدة طلقات مكتومة بعدها طار المسخ من فوق إيهاب وهو يطلق خواراً متألماً.. ونهض الاخير من تحته وهو يعب الهواء عباً..
إنه لا يموت.. سرعان ما يعاود الهجوم بضراوة أشد.. لكن لاحظ إيهاب أن حجمة قد قل عن ذي قبل..
وقفز إيهاب جانباً متفادياً الوثبة العارمة وهو يطلق الرصاص..
إن مؤشر صحة إيهاب يتضاءل.. لقد أصيب من جراء هجوم ذلك الكيان المريع، لكنه في المقابل يفقد المزيد من حجمه وقوته..
لا بأس أنت تقترب يا إيهاب.. أخيراً صار المسخ يزحف وهو يجر أطرافه الأربع.. بدا حجمه أقرب للجدي الحقيقي.. فقرر إيهاب أن يوفر طلقاته ويتعامل معه على أنه مجرد جدي ضال..
انتزع مديته ووثب فوقه فاطلق الرأس ثغاء أقرب للبكاء.. بسرعة مرر المدية من تحت الذقن المدبب ولم يتوقف حتى انتزع الرأس كاملة.. حينما رفعها عالياً اكتشف أن جسد المسخ تحول إلى بقعة سوداء بلا معالم.. شعر إيهاب بأنه يقف في بركة وحل ..
" دمر رأس الشر"
فهم الرسالة هذه المرة.. لن يكرر خطأه.. أخرج قنبلة يدوية ونزع صمامها، ثم حشرها في فم التيس ورماها بعيداً..
لم يكد يدوي الانفجار حتى ظهرت له عبارة " تمت المهمة بنجاح "
و ساد الظلام..
***
تأمل (س-600) التقرير الرقمي الذي قدمه له إيهاب فور عودته إلى الوحدة وبدا راضياً من إضاءته البنفسجية..
ـ ممتاز يا إيهاب.. لكن لماذا ترغب في طلب نقل من وحدتك؟
قال إيهاب وهو يتذكر رحلته المرة من النطاق المشئوم حتى وصل إلى هنا بثياب الرهبان :
ـ لقد تعبت..
قال (س – 600) بلهجة استخفاف معدنية :
ـ هذه طبيعة عمل الشرطة في أي وحدة أخرى..
كان يتمنى لو صارحه بأن هذه طبيعة من يعمل مع روبوت مثله، لكنه آثر السلامة قائلاً :
ـ أريد أن أعود للأعمال المكتبية..
ـ خسارة.. أنت ضابط ممتاز..
ـ مهمتي الأخيرة كانت مباراة اعتزال..
ـ حسناً.. سأقبل طلب نقلك لكن بشرط.. أن تقبل مهمة أخيرة.. مهمة أخيرة من أجلي..
***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-05-2019, 06:11 PM   #10
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


(7)

ركب إيهاب حوامة الشرطة وهو يسب ويلعن..
هذه المرة ستكون مهمتك مختلفة.. لن تسعى خلف المتمردين في قلب النطاق النظيف.. بل ستذهب لتتسلم أحدهم من على مشارف غابات القطاع البري.. وتعود به سالماً إلى الوحدة..
لم ير إيهاب غابات حقيقية من قبل هذه المهمة.. ولم يتخيل أن يكون هناك بشر أثرياء أسوياء قد قرروا ترك العمران والحياة على الطريقة البرية .. لكن مازال النطاق النظيف يتحفه كل يوم بمفاجأة..
هبطت الحوامة بالقرب من مجرى مائي صغير ينطلق كالأفعى بين الأشجار صاعداً إلى أعلى.. في بقعة خالية من الأشجار حيث وقف بالأسفل مجموعة من الرجال والنساء يرتدون أسمالاً بالية ، وأحدهم تم تقييده بحبال غليظة من ليف.. وكان فمه مكمماً بخرقة ربما كانت كم قميص مزقه أحدهم ليصلح ككمامة..
هبط إيهاب وبدأ تعارف سريع بينه وبينهم.. هؤلاء مجموعة من الأثرياء المعاتيه يعيشون هنا في البرية على طريقة الإنسان البدائي الأول.. لكنهم لم ينسوا واجبهم تجاه النظام العالمي الذي سمح لهم بهذا، فقاموا بالقبض على ذلك المتمرد المكبل وجاءوا به هنا لتسليمه..
تفرس إيهاب في وجوه النسوة فلم يعثر على وجه هالة للأسف..
قال له أحدهم وهو يركل المتمرد :
ـ إنه خطر جداً.. كان القبض عليه أصعب عملية صيد واجهناها..
رمق إيهاب الرجل المكبل.. كان يرتدي نفس الأسمال من باب التنكر طبعاً، في عينيه نظرة خاملة تقول أنه قد خسر كل شيء ولم يعد لديه ما يخشى عليه..
قال إيهاب :
ـ لننهي إجراءات التسليم سريعاً..
قال أحدهم وهو يلوح برمح في يده :
ـ بلغ تحياتنا للسيد (س-600)..
تساءل وهو يضغط على أسنانه :
ـ أتعرفونه؟
ردت إحدى النساء وهي تهرش تحت إبطها كالقردة :
ـ إنه من ألطف الروبوتات..
حرك إيهاب فكه يمنة ويسرة وهو يرمقها بعين لا تطرف..
ـ تخيلي يا سيدتي هذا هو رأينا كلنا في وحدة مكافحة التمرد..
الوغد الألي يجامل هؤلاء على حساب راحته.. لكن لا بأس.. ستكون هذه أخر مهمة له مع ذلك الأخطبوط المعدني القبيح..
ساعدوه على حمل المتمرد إلى الحوامة التي تدار ألياً، ثم وقف إيهاب يلوح بكفه متمنياً لهم أن يصادفوا فيلاً غاضباً يسحق عظامهم جميعاً..
أقلعت الحوامة وبدأ إيهاب في حل قيود المتمرد ليستبدلها بقيود الشرطة المصنوعة من الألياف المرنة..
ـ معي تصريح بقتلك عند أي بادرة سوء..
قالها للمتمرد محذراً.. فرمقه الأخير بنظرة خاوية ولم يرد طبعاً بسبب الكمامة التي ظلت على فمه.. فقط تركه يحل قيوده بلا أدنى مقاومة.. لم يكن هناك غيرهما بالحوامة التي تدار آلياً بواسطة عقل إلكتروني لذا لم يستغرق الأمر سوى دفعة قوية وخاطفة، وجد إيهاب نفسه يطير ليرتطم رأسه بجدار الحوامة.. وحينما أفاق من الدوار والمفاجأة، ونهض مستلاً سلاحه، جحظت عيناه وهو يرى المتمرد يعبث بأزرار الحوامة بطريقة سريعة وخاطفة و.. ومحترفة..
ـ توقف وإلا..
التفت إليه المتمرد بسرعة ورفع كفيه مستسلماً وهو يقول بابتسامة بريئة وقد تخلص من الكمامة التي أخرسوه بها:
ـ لا بأس.. لقد انتهيت..
صرخ فيه إيهاب:
ـ ماذا فعلت أيها التعس؟
هز كتفيه قائلاً :
ـ لقد غيرت مسار الرحلة.. سنخترق النطاق النظيف بحوامة ألية.. هذه جريمة في عرف النظام العالمي عقوبتها تصل للإعدام على الخازوق النيوتروني كما تعلم..
***
إيهاب لم يكن يفقه شيئاً في كيفية التعامل مع الحوامات التي تدار ألياً..
فقط هو يركبها وهي التي توصله للمكان الذي تمت برمجتها عليه.. الآن يدفع ثمن جهله في مواجهة ذلك الموقف الصعب..
قال له المتمرد باسماً :
ـ حتى لو قتلتني فلن تستفيد شيئاً.. أنت تعرف عقوبة خرق النطاق المحظور بشريحة ذكية فما بالك بحوامة شرطة..
قال إيهاب وهو يجذب إبرة إطلاق النار:
ـ أنت تثير حماستي فعلاً..
أشار له المتمرد بسبابته قائلاً :
ـ لكن لو أبقيت على حياتي فربما أخرجتك من هذا الموقف الحرج مثل الشعرة من العجين..
ـ تريد مساومتي؟
ـ أكيد!
هنا سمع إيهاب صيحة القائد الألي الباردة تنذرهم بأنهم يخترقون النطاق المحظور لقطاع الحياة البرية.. نظر للمتمرد في رعب وقال :
ـ ماذا تريد بالضبط؟
فرك المتمرد كفيه ومط شفتيه قائلاً :
ـ الانتقام!
لم يفهم إيهاب في البداية لكنه استدرك :
ـ تنتقم من النخبة طبعاً.. هذا هو هدف كل متمرد..
هز الرجل رأسه كأنما يخاطب طفلاً..
ـ أنت كأغلب شريحتك لا تجيدون سوى دور الببغاء.. يردد كل ما يتلى على مسامعه بدون إعمال للعقل..
لوح إيهاب بالسلاح في وجهه وهو يقول بسخرية لا تخلوا من رنة سخط:
ـ مرحى .. لأول مرة أقابل متمرد من شريحة راقية..
ـ لا يوجد متمردين هنا أيها المغفل الكبير.. نحن مجموعة من أثرياء الشريحة ب جئنا إلى قطاع الحياة البرية للاستمتاع بالحياة على طريقة الإنسان الأول..
ضحك إيهاب بافتعال، وهتف متجاهلاً إنذارات القائد الألي المتكررة والمستفزة :
ـ خدعتك تلك لا تنطلي على طفل صغير..
واصل الرجل كأنه لم يسمعه :
ـ كنا نجري مسابقة في الصيد رصدنا لها مكافأة من الذهب الخالص.. وكنت على وشك الفوز لولا الغش في اللعب..
بدأ إيهاب يتوتر.. ما معنى هذا كله؟..
ـ لقد دبروا لي تلك المكيدة.. لا أدري هل رؤسائك في الشرطة مشتركون فيها أم لا، لكن أقسم بشرف عائلتي أن يدفع كل من تورط في هذه العملية القذرة الثمن غالياً ..
قال إيهاب بجزع :
ـ يعني.. لا يوجد متمردين؟!..
قهقه الرجل قائلاً:
ـ المتمردون أسطورة اخترعتها عقلية النخبة الأممية للسيطرة على العامة..
ـ لكنني واجهت العشرات منهم بنفسي..
قال الرجل بسخرية لاذعة :
ـ هل اطلعت على أرواقهم الثبوتية.. قالوا لك أقتل الحثالة فقتلت بلا وعي.. الحقيقة انه لا يجرؤ أحد على التمرد الحقيقي في هذا العالم.
ـ لكنني شاركت بنفسي في مواجهة تمرد الآلات الكبير..
ـ بالضبط.. لا يوجد بشر متمردين.. لأنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً في ظل قبضة النظام العالمي المحكمة.. أما تمرد الآلات المزعوم فقد يحدث هذا فعلاً، من قبيل الخلاف العائلي..
حك إيهاب قذاله بكعب مسدسه وقال في غباء:
ـ لا أفهم..
ـ النخبة التي تحكم العالم، ما هي إلا آلات فائقة الذكاء..
شعر إيهاب كأنه تلقى لطمة عاتية على وجهه.. الحقائق أحياناً تؤدي نفس عمل الصفعات المؤلمة، حتى أنه تخيل وجهه الآن أحمراً كالطماطم ..
ثم شيئاً فشيئاً بدأ يسترجع ذكريات قريبة.. بعد تمرد الآلات الشهير عاد ليجد روبوت متربع على وحدة مكافحة التمرد.. نفوذ الروبوتات المريب استمر رغم حادثة التمرد إياها.. لكن لابد أن القيادة ترى وتسمع هذا الحوار الآن.. أن كل نفس يتنفسه يصلهم عبر شرائحه الذكية..
ما معنى هذا كله؟..
في تلك اللحظة كانت الحوامة تهبط بسلاسة إلى المكان الذي حدده لها الرجل الغريب في قلب غابات القطاع البري..
قال الغريب لإيهاب وهما يغادران الحوامة كصديقين:
ـ إنه النظام العالمي الجديد يا فتى.. صفقة عقدت منذ عقود بين أغنياء العالم المتنفذين والآلات الذكية.. ستعمل الآلات على إدارة العالم وإحكام السيطرة على البشر من الشريحة جـ .. وينعم الأغنياء من الشريحة ب بالثروات في النطاق النظيف بعيداً عن التكنولوجيا.. أما حادثة التمرد إياها فكانت خلاف عائلي بين الروبوتات وبعضها البعض.. أو سمه خطأ تقني تم تداركه بمعرفة الإدارة الألية نفسها.. وانتهى الأمر..
تساءل إيهاب بصوت كالبكاء :
ـ ومشاهد إعدام المتمردين اليومية على الخوازيق النيوترونية؟
ـ كلها جزء من العوالم الافتراضية التي تقنع بها شريحتك البائسة..
ـ و.. وهيدز؟!
ـ هيدز الحقيقية ليست تلك التي كنت تشاهدها عبر الشاشات، هيدز الحقيقية هي كل ما حولك، العالم كله هيدز ..
كان إيهاب في أسوأ حال ممكن.. لا يمكنه تصديق الرجل وفي نفس الوقت لا يستطيع تجاهل عشرات الأسئلة التي تنهش رأسه، ولا يجد لها إجابة إلا من خلال تصديق نفس الرجل.. هنا تنبه لنقطة مهمة فهتف كمن وجد قشة في خضم الغرق :
ـ لكن لحظة.. لماذا تخبرني بكل هذه الحقائق التي ينبغي إخفائها عن أمثالي؟
هنا شاعت ابتسامة ماكرة على وجه الرجل..
ـ هذا هو الذكاء الذي يأتي متأخراً جداً.. الإجابة ببساطة هو أنك لن تعيش يا مسكين بعد كل ما سمعت..
لم يكد يقولها حتى رأى إيهاب عشرات الرماح تحاصره من كل جانب، ووراء كل رمح وجه إنسان بدائي ملطخ بالأصباغ التي تثير الرعب في القلوب..
وسمع الرجل يكمل وهو يتمطى متنفساً هواء البرية :
ـ هؤلاء أصدقائي من السكان الأصليين هنا.. ويؤسفني أن أقول لك أنهم لن يتركوك تخرج من هنا قطعة واحدة.. لديهم طقس وثني لا يكتمل من غير أضحية بشرية كما هو معلوم.. لا أنصحك باستعمال سلاحك لأنه سيزيد من مأساتك..
هكذا إذن..
لقد فهم إيهاب أخيراً حقيقة اللعبة التي أقحم فيها.. لعبة الأثرياء من الشريحة ب التي أتت به إلى هنا.. واللعبة الأكبر التي يدار من خلالها العالم..
إنه الآن في قمة الرضا عن النفس.. صحيح أنه لن يلتق بهالة أبداً في هذه الحياة، لكنه على الأقل لن يموت حماراً!
" فشلت المهمة "
ظلام
***


(8)
نزع إيهاب العصابة السوداء عن عينيه وأدار بصره فيما حوله..
هذه وحدته الشخصية في عالم الواقع.. خيوط العناكب تحاصره من كل جانب .. حتى بدا كذبابة وقعت في شباك عنكبوت..
لقد كفت روبوتات التطهير عن زيارته منذ.. منذ.. وما قيمة الزمن..؟ لم يعد للزمن قيمة لديه منذ.. منذ..
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري "
شعار النظام العالمي لم تطمس معالمه خيوط العناكب بعد..
حسناً إنه فقط بحاجة لكوب من الديسكافيه بسرعة.. طاشت يده في المطبخ وأسقط عشرات الأطباق والملاعق التي علاها التراب، إلى أن اكتشف في النهاية أن وحدته خالية من الديسكافيه..
هل يبحث عند صديقه وجاره باسم؟
ذلك الوغد المختفي.. ترى ماذا يفعل الآن وفي أي العوالم يسرح؟
طرق على وحدته حتى أيقظ جميع الجيران في إلوسيوم.. ولما تأكد أن باسم قد غادر أو مات، قرر أن يغادر المجمع وهو يترنح كالسكارى متوجهاً لأقرب مطفح..
كل هذه أعراض طبيعية لمن أدمنوا العوالم الافتراضية.. شيئاً فشيئاً تعود له ذكرياته الحقيقية لا تلك التي حشرتها اللعبة الافتراضية في رأسه.
بالخارج اكتشف أن الوقت ليلاً.. إضاءة الشارع خافتة، لكن رائحة الأسلاك المنصهرة، التي تميز مقاطعات الشريحة جـ الملوثة تنعش ذاكرته أكثر..
إيهاب أنت شرطي سابق تم الاستغناء عن خدماته منذ عدة سنوات.. هناك روبوت وسيم قد حل محلك هناك .. أما أنت فقد صرت تعمل في تجارة الروبوتات الخردة.. إنها تدر عليك ربح يسمح لك بالغياب في العوالم الافتراضية الممتعة وقت الفراغ.. تلك العوالم التي تسمح لك بلعب دور الشرطي الذي خسرته للأبد في الواقع..
مع الوقت يصاب مدمني هذه العوالم باختلال وعدم اتزان عقلي.. ويصير يتعامل مع الواقع على أنه خيال افتراضي والعكس بالعكس.
هل وصل إيهاب لهذه المرحلة؟
مازال قادراً على تذكر بعض المعلومات الحقيقية عن نفسه.. لكن البعض الأخر صار يختلط عليه.. هل هو حقيقي أم افتراضي؟
بعض ذكرياته الحقيقية تقتحم عليه العوالم الافتراضية ، فيحدث الخلط بين ما هو حقيقي وافتراضي..
ويظل يسأل نفسه : هل أنت في الواقع أم في عالم افتراضي ؟.. هل الطعام الذي تأكله ، والفضلات التي تخرجها حقيقية؟ .. أم هي أيضاً جزء من العوالم الافتراضية..
من أدراه أنه عاد الآن لواقعه الحقيقي؟.. لعله مازال يسبح هناك في العوالم الافتراضية ولم يخرج منها بعد..
هذا مجرد عالم افتراضي أخر، سيستيقظ منه بعد أن تنتهي صلاحية اللعب.. هذا كله مجرد جزء من لعبة..
إذن عليه أن يستمتع بذلك العالم، ولا يضيع وقته وماله في أسئلة سخيفة عما هو حقيقي وزائف.. وما جدوى البحث عن ذلك أصلاً؟ أنت ربما لم توجد أصلاً في هذا العالم.. ربما أنت مجرد شخص افتراضي يحلم به أحدهم الآن.
إيهاب أنت لم توجد..
هي العدمية إذن..
نعم هي العدمية.. هؤلاء المارة مكتئبي الوجوه، وهذا الشارع البارد، وهذه الأبنية المعدنية، والأضواء الواهنة، ورائحة الأسلاك المنصهرة.. كلها أشياء ليست حقيقية..
وحتى خيط اللعاب الذي بدأ يسيل من فمك على صدرك ليس حقيقياً..
***


نهاية الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني (المتمرد ) إن شاء الله بعد شهر رمضان المبارك.

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2019, 11:08 PM   #11
نادرة عبدالحي
مشرفة أبعاد النثر الأدبي

الصورة الرمزية نادرة عبدالحي

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 72240

نادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعةنادرة عبدالحي لديها سمعة وراء السمعة


مـجـمـوع الأوسـمـة: 1

فعالية النثر الوسام الفضي



افتراضي


الكاتب يُبين القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي او غير حقيقي لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على

التفكير بأنه يراعي ظروف الناس المضرورين في المجتمع،


السرد هنا أكثر تأثيرًا على القارئ في الانتقال والإقناع من أي بحث يقوم به القارئ للحصول على

المعلومات عن جماعة ما، أو عن شخصية مُعينة يحدث التأثير بسبب قدرة السرد على تحريك مشاعر

المشاركة مع الأشخاص الذين لا نعرف اطوارهم ، ولسنا مطلعين على مفاهيم تفكيرهم ،

وربما كان هذا الخيال المحول واقعا اكثر إسعافا في فهم العالم من الملموس الحي ذاته “.

كما يختصر الكاتب صراع الشخصيات داخل وضع عام يكون إما ضد وسط اجتماعي أو قدر أو ظرف

سياسي سائد يضفي على القصة تكثيفا أكثر . وتشويقا لمواصلة الأحداث الباقية،

القَصص الخيالية تجدها ممتعة للغاية، فهي قادر ة على تحسين فهمنا للآخرين


ولأنفسنا، أما بالنسبة كيف تجدها قادره على أن نفهم أنفسنا بمعنى نكتشف أنستطيع

تقبل أفكار ومعتقدات البقية بمعنى نكتشف هل بوسعنا الإنضمام ، او محاربة هذه المعتقدات

او الوقوف جانبا وكأن الأمر لا يؤثر على المجتمع الذي نعيش فيه والعالم أجمع ،

فإن هذا التشخيص لذاتنا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع.

وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصة الخيالية هي محتواه الذي يكون مكتنز

بالأحداث الغريبة والخطط والأساليب الغير مقبولة على المجتمع ،

الذي لا يتقبل الجماعات التي تتخذ لها معتقدات تؤمن بها والشخصيات الغريبة الأطور ،

ما يؤمن به الافراد او الجماعات هي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض

نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد . ولكن المحيط لا يسمح لهم بالإنخراط بسهولة ،

وفي نهاية حديثي هذا لا يسعني إلا أن أثني على مجهودكَ وإبداعكَ المختلف في ظل

الأدب الذي يكرر نفسه ، يعطيك الف عافية ودمت دائما نجما مبدعا ،

 

نادرة عبدالحي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-15-2019, 09:52 AM   #12
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادرة عبدالحي مشاهدة المشاركة
الكاتب يُبين القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي او غير حقيقي لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على

التفكير بأنه يراعي ظروف الناس المضرورين في المجتمع،


السرد هنا أكثر تأثيرًا على القارئ في الانتقال والإقناع من أي بحث يقوم به القارئ للحصول على

المعلومات عن جماعة ما، أو عن شخصية مُعينة يحدث التأثير بسبب قدرة السرد على تحريك مشاعر

المشاركة مع الأشخاص الذين لا نعرف اطوارهم ، ولسنا مطلعين على مفاهيم تفكيرهم ،

وربما كان هذا الخيال المحول واقعا اكثر إسعافا في فهم العالم من الملموس الحي ذاته “.

كما يختصر الكاتب صراع الشخصيات داخل وضع عام يكون إما ضد وسط اجتماعي أو قدر أو ظرف

سياسي سائد يضفي على القصة تكثيفا أكثر . وتشويقا لمواصلة الأحداث الباقية،

القَصص الخيالية تجدها ممتعة للغاية، فهي قادر ة على تحسين فهمنا للآخرين


ولأنفسنا، أما بالنسبة كيف تجدها قادره على أن نفهم أنفسنا بمعنى نكتشف أنستطيع

تقبل أفكار ومعتقدات البقية بمعنى نكتشف هل بوسعنا الإنضمام ، او محاربة هذه المعتقدات

او الوقوف جانبا وكأن الأمر لا يؤثر على المجتمع الذي نعيش فيه والعالم أجمع ،

فإن هذا التشخيص لذاتنا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع.

وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصة الخيالية هي محتواه الذي يكون مكتنز

بالأحداث الغريبة والخطط والأساليب الغير مقبولة على المجتمع ،

الذي لا يتقبل الجماعات التي تتخذ لها معتقدات تؤمن بها والشخصيات الغريبة الأطور ،

ما يؤمن به الافراد او الجماعات هي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض

نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد . ولكن المحيط لا يسمح لهم بالإنخراط بسهولة ،

وفي نهاية حديثي هذا لا يسعني إلا أن أثني على مجهودكَ وإبداعكَ المختلف في ظل

الأدب الذي يكرر نفسه ، يعطيك الف عافية ودمت دائما نجما مبدعا ،
ربما أفكر في جمع مشاركاتكم تلك، على المدى البعيد .. فمن يدري ربما أصبح لدي يوماً ما كتاب قيم في فن النقد
من تأليفكم..
أستاذة نادرة لا حرمنا الله من مقالاتكم الماتعة..

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-17-2019, 05:25 PM   #13
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


المتمرد

(1)

كتب باسم على الجدار :
( الاكتئاب في ذروة المجد البشري..)
ما حدث لصديقه وجاره إيهاب كان درساً قاسياً له ولغيره.. لقد زاره في وحدة مجانين إلوسيوم، ورأى بعينيه ما صار إليه.. صحيح أن الأطباء يقولون أنه يعاني من صدمة مؤقته، وأنه قد يعود لحياته الطبيعية من جديد. لكن باسم كان قد اتخذ قراره النهائي.. لابد أن يتوقف عن ارتياد العوالم الافتراضية التي تدفع الناس للجنون ببطء..
كان ينبغي عليه أن يكف يوم أن طلق زوجته ليلى في إحدى تلك العوالم..
المشادة جرت بينهما داخل لعبة ( الزومبي يجتاح المدينة ).. والسبب كان الخلاف على طريقة اللعب.. اللعبة زوجية وتقتضي اللعب بروح الفريق وإلا فتك بهما الزومبي الحانق.. لكن الأمور تطورت بينهما وحدث ما حدث..
لكن هل طلقها فعلاً بسبب تلك المشادة؟ أم لأنها فشلت في منحه الطفلة التي كان يتمناها.. كان بعكس غالب الرجال الذين يتمنون إنجاب الذكور ويتعبون معهم زوجاتهم.. لكن هذا لم يشفع له لدى زوجته.. لم تعطيه الطفلة التي تمناها من الدنيا .. ولم تكن ممن يتحلون بالروح الرياضية في اللعب كذلك!
الزواج في ذلك الزمن يحتاج شجاعة غير عادية.. إنه كزواج اليعاسيب.. تعرف أنك ستموت مبكراً جداً بالسلالي، فيكون قرار زواجك معناه أنك تريد أن تفعل شيئاً ما قبل أن تموت.. على الأقل ستجد من يدفنك.. والطلاق قبل الإنجاب معناه أنك غالباً ستموت وحدك كالكلب..
ثم حدثت واقعة صديقه إيهاب، فدق جرس الإنذار في عقل باسم وقرر أن يقلع عن ارتياد العوالم الافتراضية للأبد..
لكن فائدة العوالم الافتراضية أنها تنسيك واقعك الكئيب.. ومعنى أن تقلع عن ارتيادها أنك ستصاب بالاكتئاب.. إذن أنت مخير بين اختيارين إما الاكتئاب أو الجنون.. وهكذا فضل الاكتئاب فصار ملفه في العمل يحتوي على الكثير من الدوائر الحمراء المشعة، والتي كلما ازدادت كلما ازدادت احتمالات طرده من العمل..
من قال أن الاكتئاب لن يصل بك لحد تلف الأعصاب والجنون.. كل شيء في هذا العالم يقود للجنون في النهاية..
لهذا تلفت أعصاب باسم وصار كالقنبلة التي تنتظر الأحمق الذي سينزع فتيلها..

***

كان يعرف أن بقائه حياً مرهون بالوقت الذي سيستغرقه فحص حالته شرائحه في وحدة مكافحة التمرد. هل هي حالة تمرد أم جنون؟
وكان باسم ينتظر.. يخط على الجدار عبارات تسخر من النظام العالمي الجديد، ثم يستلقي على ظهره وينظر لسقف وحدته.. أحلام اليقظة هذه لا تتركه وشأنه .. حلم الفرار من ذروة المجد البشري..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
ويستيقظ من صحرائه على صوت أزيز شرائحه الذكية الجائعة.
لكن مهلاً هذا الأزيز يبدو أكثر حدة هذه المرة.. كما أنه قد بدأ يتشنج.. أه.. يبدو أن ساعته قد حانت.. في الصباح سيجدونه قد مات بالسكتة الذكية..
تمرغ في الأرض.. حاول التشبث بأحد قوائم الفراش، لكن أعصابه خانته .. ها هم قد جاءوا من أجلك..
***
ادخلوه في كابينة تخاطر تشبه ثمرة خرشوف كريستالية، ثم قاموا بسرد تاريخه المظفر أمام عينيه، قبل أن تظهر له صورة ثلاثية لفاتنة شقراء تلوك اللادن.. أعلنت له أنه مواطن ذو سجل غير مشرف.. إنه عار على مقاطعة إلوسيوم المجيدة.. هنا انفجر فيها باسم:
ـ وما الجديد أيتها القردة الشقراء؟
تباطأت سرعة مضغها للادن وكأنها تزن كلمات باسم الغريبة..
ـ هل تراني قردة شقراء؟
قال ملوحاً بذراعه في وجهها :
ـ نعم.. أنا أراك قردة شقراء.. لا تنس تدوين ذلك في سجلي الغير مشرف..
هتفت كأنها تخاطب شخص أخر لا يراه باسم :
ـ لديه هلوسة بصرية كذلك يا سيد جاد..
وثب باسم ناحية صورتها ثلاثية الأبعاد، وظل يوجه لها لكمات متتالية وهو يصيح :
ـ أنا لم أخرج كل ما لدي بعد يا أبناء الـ... هه.. هه..
ـ جنون عام.. مسكين..
وقف يلهث من فرط الجهد، لكنه شعر بتحسن حتى توقع أن يرى وجه الشقراء متورماً.. صاح وهو ينظر لوجهها البارد في غل :
ـ متى ستذهبون بي إلى الشريحة صفر؟
سألته باستمتاع:
ـ من قال لك أن هناك شريحة صفر..
ـ أكيد هناك واحدة..
ـ المؤكد أن هناك وحدة خاصة للمجانين..
خر باسم على ركبتيه وقبض على عنقه صارخاً :
ـ بل أريد أن أذهب للشريحة صفر..
اختفت صورة الفتاة، وسمع صوت باب الخرشوفة الكريستال يفتح.. استدار ليجد ذلك الروبوت العملاق ذي الكلابات يقترب منه.. وقبل أن يبدي أي حركة أطبقت كلاباته على أطرافه الأربع وثبتتها إلى الأرض..
بعدها شعر بتلك الوخزة فتشنج جسده قليلاً ثم بدأ يرتخي.. لقد تم حقنه بمخدر ما.. شعور لذيذ ووعيه يتسرب منه كما يتسرب الهواء من البالون المثقوب.. لقد ثقبه ذلك الروبوت؛ لذا سيظل يطير كأي بالون يحترم نفسه .. يطير.. يطير .. حتى يصل إلى ذاك الكوكب البعييييييييد............
...........................

***

حينما فتح عينيه ثانية وجد نفسه مقيداً في فراش وهناك خراطيم تدخل وتخرج من كل شبر في جسده.. حوله عدد من الصور ثلاثية الأبعاد تصور فصوص دماغه.. حركة أمعائه.. قلبه.. هناك رجل ودود يبتسم له برقة وهو لا يدري إن كان حقيقة أم صورة ثلاثية أخرى.. كان يرتدي زي الأطباء المميز..
قال له الودود :
ـ عود أحمد..
انفرجت شفتي باسم عن ابتسامة منهكة وهو يتمتم :
ـ لم أر أحدهم يبتسم في وجهي منذ قرون.. هل أنت حقيقي؟
اقترب منه الودود وهو يقول :
ـ لقد وجدنا أنك مجنون بشدة..
ـ ولي الشرف..
ـ سيتم إيداعك في وحدة خاصة بالمجانين الخطرين..
ـ أحب العزلة..
مال عليه الودود بوجهه وازدادت ابتسامته وهو يقول بخفوت:
ـ حمداً لله على سلامتك يا بطل..
همس باسم وهو يشعر بثقل في جفنيه:
ـ بطل؟
ـ تكلم على راحتك.. المكان نظيف كقلب طفل.. ولقد تم تخليصك من كل الشرائح البغيضة التي زرعوها في جسدك لتحصي عليك أنفاسك..
ـ من أنت بالضبط؟
ـ يمكنك أن تعتبرني مندوباً من عند الرفاق..
اتسعت عينا باسم وبدأت ضربات قلبه تتسارع.. الرفاق هو الاسم الذي يطلقه المتمردون على أنفسهم.. لكنه ممنوع على أي مواطن خاضع للنخبة بأن يسميهم بغير اسم المتمردين..
ـ كيف؟
تساءل باسم بصوت مبحوح فبدأ الودود يشرح له.. إنهم يرصدون أي بادرة تمرد تطرأ على مواطني الشريحة جـ الكادحة.. من ثم يتدخلون في الوقت المناسب لالتقاطهم.. من حسن الحظ أنهم نشطون جداً في مقاطعته إلوسيوم، لذا فحينما أفقدوه وعيه في وحدة التخاطر وقاموا بنقله للوحدة الطبية للكشف على قواه العقلية، كانوا لا يدرون أنه سيكون بانتظاره مندوب من الرفاق يتولى أمره..
ـ التنظيم لا يقبل متطوعين أبداً.. بل هو الذي يختار دائماً..
قال باسم وقد بدأ يستوعب المفاجأة:
ـ لقد كنت بدأت أشك في وجودكم أصلاً..
ـ هذا جزء من خطة الخداع..
الآن هو خارج عن سيطرة النظام العالمي.. لم يشعر في حياته بمثل هذا الإحساس.. كلمة حر لا تعبر أبداً عما يجيش بنفسه الآن..
ربما عبرت تلك العبرة الحانية التي سالت على خده.. سينضم للأخيار ويحارب الأشرار.. تماماً مثلما كان يفعل في ألعاب الفيديو..
ـ ماذا بعد؟
قالها وهو يغمض عينيه مسترخياً في فراشه فسمع صوت الودود يجيب :
ـ سيتم إرسالك إلى مقاطعة أخرى لتبدأ فيها من جديد مع إحدى أسرنا هناك.. ستذهب إلى .. تارتاروس..
فتح باسم عينيه متسائلاً :
ـ تارتار ماذا؟!
ـ تارتاروس.. ستصير هناك شخصاً مختلفاً.. ستنس كل شيء عن حياتك الماضية.. أنت منذ هذه اللحظة إنسان جديد..
تمتم باسم :
ـ أنتم متغلغلون جداً في النظام العالمي..
ـ النظام العالمي كأي نظام لا يخلو من الثغرات .. ونحن نحسن استغلال تلك الثغرات..
هنا سأل باسم سؤالاً مباشراً :
ـ ماذا تريدون من النخبة ؟
ظل الودود صامتاً وإن كف عن متابعة الشاشات.. ثم استدار ببطء ليواجه باسم.. لقد تلاشت ابتسامته الودودة وحلت محلها صرامة وقسوة غير عادية وهو يجيب:
ـ لا نريدهم على الإطلاق.. العالم سيكون أفضل بدونهم..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-18-2019, 10:26 PM   #14
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(2)

عفاف كانت زوجة وأم..
زوجة لرجل يعمل ضابطاً في الجيش الأممي.. يدعى حسن..
وأم لطفل جميل في السادسة أصر والده على تسميته عماد الدين لسبب غير مفهوم..
زوجها كان طبيعياً حتى قرر أن ينغمس في قراءة كتب الماضي.. فغاب عن حاضره.. وكانت عفاف تخبره أنها تنتظر اليوم الذي سيعرضونه في متحف للحفريات بفارغ الصبر..
كانت تدرك أنه قد بدأ يبغض النظام العالمي وكل ما يمت إليه بصلة منذ انغمس في القراءة.. زوجها هو الوحيد الذي ما زال يملك كتباً حقيقية في عالم الإلكترونات السابحة والعوالم الافتراضية.. وكان بحكم كونه في الجيش الأممي يخضع لنظام شرائح مستقل غير شرائح المدنيين .. وتعرف أنهم قريباً جداً سوف يستدعونه ويحاسبونه على أفكاره المعادية التي لا يمكن كبحها.. سيحاكم بتهمة الخيانة ويضرب بالرصاص .. ربما سيجعله هذا سعيداً فعلى الأقل سيموت بوسيلة قديمة.. لن يقضي بسكتة قلبية كما هو الحال مع المدنيين المتمردين..
هكذا كانت عفاف تعد نفسها لحمل لقب أرملة من قديم.. لكن زوجها قرر أن يرحل بدون صخب.. لا تهم خيانة ولا رمي بالرصاص..
واستيقظ عماد الصغير يوماً ليجد فراش أبيه خاوياً.. واستغرب لماذا لم تبك أمه وهي تعلمه بالخبر.. ولماذا اختفت كتب أبيه مع رحيله عن العالم..
هل كانت تنتظر وفاته بفارغ الصبر لتتخلص من كل ما يمت له بصلة ؟
حينما كانت تنظر في عيني ولدها كانت ترى نظرة انكسار تثير أعصابها.. كانت تردد في نفسها بغيظ : أفهم أنه قد صار ظهرك مكشوفاً للعراء.. مهما دثرتك بالأغطية الثقيلة.. فغطاء الوالد لا يعوض.. أفهم هذا ولا أجد لك حلاً إلا أن تسكت عينيك التي ترمقني بها بهذه الطريقة..
ـ لماذا مات والدي؟
قالت له وهي تقلب بصرها في إعلانات المرئي :
ـ كل الناس يموتون..
ـ ويذهبون إلى الجنة..
تركت النظر في الشاشة بعد أن اكتشفت أن ولدها بدأ يستعمل عقل الطفل الجهنمي في جلب المتاعب عن طريق الأسئلة المستفزة.. قالت: :
ـ الطيبون منهم فقط، و المزعجين يذهبون لهيدز..
ـ وأبي كان طيباً؟
قالت من بين أسنانها :
ـ أكيد..
ـ متى أراه ثانية؟
ـ اطلب له الرحمة.. وغداً حينما نموت جميعاً سنلتقي جميعاً في الجنة..
ـ ولماذا نؤجل عمل اليوم للغد؟
أغلقت المرئي بعصبية..
لعلها الآن تدرك فائدة الأب في حياة الأسرة.. فهو الشخص الذي كان سيريحها من كم الأسئلة والاستفسارات التي تنهال على رأسها الآن.. هذا يذكرها باختبار لمادة لم تذاكر منها سوى صفحة واحدة من أول الكتاب وصفحة من أخره.. وعليها أن تستنج ما بينهما..
لكن عذابها هذا لم يطل.. لأن عذاب أكبر كان بانتظارها.. كان طفلها الوحيد على موعد مع المرض الذي سيعجل به..
سيكون لديها متسع من الوقت لتجن.. لتظل تنهش مرتبة الفراش التي ترقد عليها جثته.. جثة تركها السلالي اللعين هيكلاً عظمياً مدهون بالشمع..
في الأيام التالية سيكون لديها متسع من الوقت لتكره نفسها وتكره النظام العالمي الذي تحيا فيه، وستتمنى لو شاركت في هدمه على رؤوس من فيه..
لم تكد تفكر في هذا حتى فوجئت بأن كل شرائحها الذكية معطلة.. وحينما غادرت وحدتها متجهة إلى أقرب مركز معتمد للصيانة فوجئت بذلك الزائر الودود على باب دارها..
ـ الشرائح الذكية لا تعمل في وجودنا..
ـ من أنتم؟
ـ نحن العدو رقم واحد للنخبة الأممية..
قالت وهي تبتسم ابتسامة غامضة :
ـ لقد وقعتم على منافس جيد لكم في كراهية النخبة..
كانت جملتها تلك بمثابة توقيع على عقد انضمامها للرفاق..
نزعوا عنها شرائحها وأخبروها أنها سترحل إلى مقاطعة أخرى
لتبدأ فيها من جديد..
قال لها الودود :
ـ في تارتاروس حيث ستذهبين.. توجد أسرة من أعرق أسر الرفاق.. ستكونين واحدة منهم.. عسى أن يعوضك هذا عن حياتك الأسرية التي دمرت في إلوسيوم..

***

في تارتاروس نسب التلوث مرتفعة جداً.. لذا لن يمكنك السير خطوتين في الهواء الطلق بدون قناع واقي على وجهك..
والبعض كذلك كان يحمل على ظهره أنابيب أكسجين للطوارئ.. والجو أصفر مكفهر كوجه الزمنى، والزحام شديد ودرجات الحرارة مرتفعة بفعل التلوث والعوادم..
هذا هو المكان الذي اختير لباسم ليبدأ فيه من جديد..
إنه انحدار في مستوى المعيشة بلا شك، لكنه انحدار من أجل القضية.. هكذا قالوا له هناك.. وهكذا مضى في طريقه بحذر كي لا يصطدم بأحد بسبب قناعه الذي يرى منه بالكاد.. الجو العام هنا يذكره بجو الحروب الكيماوية القديمة..
المقاطعات الأسوأ هي الملاذ الآمن للرفاق دائماً، فمع ارتفاع نسب التلوث والعوادم تخف قبضة النظام العالمي، ويدب العطب في أجهزته الذكية.. وهذا هو كل ما يريده الرفاق..
يخيل إليه أنهم توصلوا لاتفاق ضمني بينهم وبين النخبة ههنا.. لكم الاسم ولنا نحن الإدارة الحقيقية.. فمن يعبأ بمشاكل تلك المقاطعات التي هي على شفا البركان..
كان على وشك فقدان الوعي حينما قابل عارف لأول مرة..
كان طويل القامة ضخم الجثة وعضلاته تعلن عن نفسها من تحت الثياب.. تبادل معه كلمة السر بالإشارة، لأنهم لن يستطيعوا الكلام من وراء الأقنعة.. لذا يلتزم جميع المواطنين هنا بتعلم لغة الصم والبكم للتفاهم في الطرق العامة..
سيتولى عارف تدريبه وأقلمته على حياته الجديدة.. سيكون رفيقه الأكبر، أي أستاذه ومعلمه..
بعد التعارف اصطحبه إلى فندق لوتس حيث سيقيمان سوياً.. حينما دخلا إلى اللوبي سلموا أقنعتهم لأحد العاملين ووقفوا يتنفسون هواءً نقياً نوعاً ما.. هناك فلاتر تقوم بتنقية الهواء بالداخل حتى يتمكن البشر من التحرر من الأقنعة المرهقة والتخفف من حمل أنابيب الأكسجين..
صاحبة الفندق عاهرة قديمة وجاسوسة نشطة لصالح شرطة النظام العالمي .. اسمها ليليان.. يمكنك أن ترى في عينيها وتجاعيد وجهها تاريخها الأسود المليء بالمآسي والويلات..
قال له عارف فيما بعد أنه فخور لكونه يعمل تحت سمع وبصر تلك البومة العجوز.. ليس من السهل خداع العقارب كما هو معلوم..
لكن لماذا نسكن في فندق صاحبته عميلة للشرطة؟
الجواب أن هذا ليس من شأنك أنت، لكل مقام مقال..
المكان بالداخل لا يشجع على الإقامة فهو قاتم وغير نظيف.. كاد يصارح عارف برأيه لكنه فوجئ به يقول وهو يغمز بعينه كأنه سمع أفكاره:
ـ هذا أرقى فندق في تارتاروس كلها..
طبعاً ابتلع باسم ريقه ولم يعقب..
بعد أن أكلا طعاماً لا يقل شناعة عن المكان طلب منه عارف أن ينام قليلاً قبل أن يبدأ التدريب.. نام باسم قليلاً جداً حتى اضطر عارف في النهاية إلى هزه في عنف كي يهب من فراشه مفزوعاً وهو يصيح:
ـ من أنت؟
تجاهل عارف سؤاله وهو يقول ببرود :
ـ لم أطلب منك أن تموت هنا.. قم فلدينا عمل طويل..
علمه الرفيق عارف كيف ينظف المكان الذي يسكن فيه من أجهزة التنصت التقليدية.. كان يتمنى لو علمه كيف ينظف المكان من الحشرات والأتربة والبقع الصفراء كذلك ، لكن هذا لم يكن يوماً من اختصاصهم .. الرفاق يريدون تنظيف العالم من النخبة التي تحكمه بالحديد والنار.. أما القذارة فستزول بالتدريج مع زوال الطغاة..
بعد درس التنظيف بدأ عارف يلقنه أساليب الرفاق في التخفي.. كيفية المراقبة والهروب من المراقبة..
ولما تحول عقل باسم إلى خلية نحل طنان قال له عارف :
ـ لنواصل غداً..
ـ هل تستعدون للحرب ههنا؟
قالها باسم مداعباً، لكن عارف لم يبتسم كعادته.. قال :
ـ أنت لم تنضم لفريق الكشافة المدرسية..
هز باسم رأسه محبطاً بمعنى بلى.. الحقيقة أنه لم يتصور التمرد بهذه المشقة..
كان يسمع عن عملياتهم من خلال النشرات فيمتلئ بالإثارة كأنه يتابع مباراة كرة قدم لفريقه الأثير.. ولما صار جزء من الفريق نفسه تبين له أن صناعة الإثارة ليست مثيرة دائماً..
إنه يتلقى تدريبات غاية في الغرابة والخطورة.. كيف تصنع متفجرات من الطعام الذي تطهوه لك الأخت ليليان؟.. كيف يمكنك تحويل مسكنك لجحيم لو تمت مداهمتك في أي لحظة؟.. هؤلاء محترفون للغاية في التدمير.. تخيل باسم أنهم ربما يفكرون في تدمير نصف الكرة الأرضية حتى يتمكنوا من حكم النصف الأخر ببال رائق..
بعد عدة أيام من التدريبات القاسية والمتواصلة قال له عارف أن عليهما زيارة الأسرة الكبيرة في تارتاروس .. هذا يعني أن باسم قد اجتاز تدريبات القبول الأولية داخل الأسرة بنجاح .. وأنه قد حان الوقت لمقابلة ربها..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-21-2019, 09:36 PM   #15
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


(3)

عشرون نفراً كانوا مجتمعين في ذلك اليوم..
وهناك نفر واحد يعتبر وجهاً جديداً؛ لذا فقد شعر أن كل الأنظار مسلطة عليه.. حتى تمنى لو انخسفت به الأرض من شدة الخجل والارتباك.. هناك مائدة مستديرة تشبه مائدة الإدارة التي تجتمع حولها النخبة الأممية، الفارق هنا هو أن المجتمعون حول تلك المائدة يريدون إزالة الهواء الذي تتنفسه النخبة.. فوقهم كشاف قوي مسلط من السقف يعطي ظلالاً مريعة تليق فعلاً باجتماع سري لحفنة من المتمردين..
ثم وصل رب الأسرة فقاموا جميعاً لتحيته باحترام مثير..
كان ضخماً مهيباً ذا صوت رنان.. تجاعيد وجهه والشيب الذي وخط فوديه ونظرات عينيه الثاقبة كلها تقول: أنه الأكثر خبرة وحنكة وقسوة في هذه الأسرة..
كان عارف قد أوصى باسم بألا يشارك في الحديث إلا إذا وجهت له الأسئلة؛ لذا فقد جلس أكثر من ساعة يستمع لإنجازات أفراد الأسرة خلال الشهر الماضي..
هؤلاء دقيقون جداً مثل بندول الساعة.. باسم الذي يحب المرح ويميل للفكاهة وجد نفسه بين هؤلاء الجادين الصارمين غير قادر على التنفس، بالرغم من كون الفلاتر تعمل بصورة ممتازة في الغرفة..
أخيراً جاء دور عارف في الكلام، وكان أخر المتكلمين، فبدأ يسرد ما حدث له منذ التقى بباسم وحتى وصولهما إلى الاجتماع بدقة عجيبة.. هناك تفاصيل نسيها باسم نفسه لكن عارف ذكرها بالساعة والثانية.. انتهى عارف من الكلام فسادت فترة صمت مطبق.. ثم أعن رب الأسرة أنه قد حان وقت توزيع مهام الشهر القادم..
قال له عارف قبل الاجتماع:
ـ لا تنصت إلا لمهمتك وفقط.. ولا تنس حرف مما قيل لك.. لا تسأل عن أي شيء يخص مهام بقية أفراد الأسرة.. لا تنظر في عيني رب الأسرة أبداً لمصلحتك..
لذا أرهف سمعه بشدة انتظاراً لمهمته الأولى .. قلبه يدق بعنف والعرق يتفصد منه لكنه لن ينسى حرفاً مما سيقال له مهما حدث ..
فهم باسم من طريقة توزيع المهام أن الأسرة مقسمة لفرق صغيرة.. فرق ثنائية وأخرى ثلاثية ورباعية.. وهناك من يعمل بمفرده كذلك .. طبعاً هو وعارف سيشكلان فريقاً ثنائيا..
المهم أن رب الأسرة قال أخيراً بصوته المميز :
ـ الرفيق عارف والمبتدئ..
ضايقه أنه لم يذكر اسمه لكن حاول صرف تركيزه لما هو آت..
ـ نريد منكما تجنيد فتاة ليل في حانة النجوم الساهرة..
هكذا فقط.. بدت له المهمة تافهة وأقرب لعملية تدريب ليس إلا..
تجنيد فتاة ليل ثم ماذا؟..
قال له عارف بعد انتهاء الاجتماع وانصراف رب الأسرة :
ـ لا تشغل بالك إلا بما طلب منك فقط.. أنا وأنت ترس في ألة أضخم من أن تستوعب في جلسة.. أسرتنا ما هي إلا حلقة في سلسلة ضاربة في السماء..
شعر باسم بالحنق، ويبدو أنه قد ظهر شيئاً منه على وجهه، لأن عارف قال له في صرامة :
ـ لا تبدو مسروراً.. مجرد أن تظهر تبرماً أو غير رضا لطريقتنا في العمل يعرضك للعقوبة..
طبعاً لم يزده هذا إلا حنقاً..
لكنه فوجئ بانقلاب الجلسة تماماً بعد انصراف كبيرها..
جاء أفراد الأسرة للتعرف على باسم وتهنئته بالانضمام إليهم.. بدأ يسمع عبارات مزاح وصوت ضحكات من القلب.. هناك جبل من الشطائر وأطنان من المشروبات ظهرت من مكان ما.. أشعره هذا بجو أسري لطيف أذاب الجو القاتم للاجتماع السابق..
حتى عارف بدا أكثر ليونة وتجاوب مع المازحين بطريقة أدهشته.. وهكذا تناول باسم شطيرة من الجبن وبدأ في تفرس ملامح الموجودين رجالاً ونساء.. وجوه لا يمكنك أبداً أن تشك فيها لو قابلتها في الطرقات .. ليست لهم ذيول ولا يمشون على أربع .. لقد تخيل يوماً وهو صغير أن المتمردين كائنات أخرى غير البشر ..
كان هذا حينما ارتطمت عيناه فجأة بعيني تلك السيدة هناك..
كانت ترمقه بعين لا تطرف وهي ممسكة بشطيرتها بلا شهية.. إنه نوع من المشاركة الظاهرية فقط.. لكنه بعكسها كان جائعاً..
شعر بالحرج فصرف بصره وبدأ يلوك شطيرة الجبن.. هنا سمعها تقول له:
ـ أنت من إلوسيوم؟
نظر لها فوجدها لم تغير جلستها ولا الطريقة الثابتة التي ترمقه بها.. هز رأسه إيجاباً وهو يزدرد الطعام..
ـ إذن نحن بلديات..
هز لها رأسه مجاملاً دون أن ينطق بحرف.. أشعره هذا بسخافة موقفه، كأنه مراهق يحدث فتاة لأول مرة في حياته.. يبدو أنه نسي كونه مطلق وأن هذه سيدة بالغة ويبدو من نظراتها الجامدة أنها ليست على ما يرام كذلك .. كأنها مصدومة وعلى وشك الانفجار في البكاء.. امتقع وجه باسم وبدأ ينظر لعارف مستنجداً كي ينقذه من تلك المصيبة..
هنا اقتربت منه السيدة بوجهها فتراجع للخلف متحسساً حنجرته.. لكنه فوجئ بها تقول له هامسة :
ـ اسمي عفاف..
تنفس الصعداء وقال لها مغتاظاً :
ـ وأنا باسم..
لم يكد يقول لها اسمه حتى تراجعت للخلف وشردت ببصرها بعيداً عنه كأنها لم تره ولم تحدثه.. مجنونة.. هكذا فكر.. وهكذا سحب نفسه واتجه لعارف الذي كان مشغولاً بحوار جانبي مع أحد أفراد الأسرة..
سحبه من كمه فنظر له الأخير في ضيق.. همس وهو يميل عليه :
ـ ما حكاية هذه السيدة بالضبط؟
نظر عارف إلى حيث يشير بطرفه فظهر على وجهه الفهم..
ـ تقصد عفاف.. هل وقعت معها؟
ـ تبدو غير طبيعية..
ـ لقد فقدت زوجها وطفلها الوحيد قبل أن تنضم للأسرة..
ظهر التأثر وتأنيب الضمير على وجه باسم.. فقال له عارف وهو يربت على كتفه :
ـ لا تتصعب هكذا يا رفيق.. إنها من أشرس أفراد أسرتنا.. يمكنها خنق طفل رضيع لو كان هذا فقط عمل يغيظ النخبة الأممية..
كالملسوع أدار بصره إليها حيث جلست، فوجدها على نفس حالة الشرود إياها.. لكن هذه المرة أضفى عليها حديث عارف هالة من الرهبة.. هذه النظرة الميتة لا يمكن أن تكون لأم ثكلى أبداً.. بل هي أقرب لليليث قاتلة الأطفال..
هكذا قرر باسم ألا يقترب من عفاف هذه أبداً وألا يتورط معها في أي حديث أخر..

***

لم يبق من عفاف القديمة إلا اسمها فقط..
منذ انضمت للرفاق صارت مخلوق أخر غير تلك الزوجة التعسة التي فقدت زوجها وابنها الوحيد في ضربتين متتابعتين.. لقد أخرج الرفاق ذلك الوحش الكامن في أعماقها.. من الجيد أن تجد من يروض وحشيتك ويجعلها ذات هدف سامي يرضي ضميرك الذي لم تتخلص منه نهائياً بعد.. أن تصير وحش مناضل.. تقتل فترفع لك القبعات.. تفجر منشئات فتحصل على ترقية.. اليوم صارت عفاف إحدى عجائب الأسرة السبعة.. امرأة المهام الصعبة.. المهام التي تحتاج إلى أعصاب من حديد وقلب من صوان.. لقد سمعت كثيراً عن أسطورة ليليث التي فقدت أطفالها فصارت مسخ يمتص الدماء ويقتل الأطفال الرضع..
بدت لها الأسطورة أكثر شاعرية مما توحيه للبعض من بشاعة..
بل هذه هي العدالة الشعرية في أروع أمثلتها..
أنا ليليث في ذروة المجد البشري.. تقولها لنفسها في المرآة وتبدأ في نوبة ضحك هستيري..
مازالت رائحة الدماء التي سفكتها تفعم أنفها وتشعرها بانتشاء لا يوصف..
في أول اجتماع لها في تارتاروس كلفها رب الأسرة بقتل أحد رجال الشرطة لكنها لم تكتف بهذا.. تسللت لمنزل الشرطي بلا سلاح.. أحضرت سكين طويل من المطبخ وبدأت تمارس طقوسها الخاصة..
ذبحت الشرطي أولاً، ثم طعنت الزوجة عدة طعنات في أماكن بعينها كي تبقيها حية لأطول وقت ممكن.. بعد ذلك سحبتها من شعرها للخارج.. إلى غرفة الأطفال طبعاً.. سمعت نداء رفاقها عبر جهاز الاتصال المزروع خلف أذنها..
ـ عفاف انسحبي.. لقد انتهت العملية بنجاح..
الزوجة كفت عن المقاومة وبدأت تحشرج.. أجلستها عفاف لتتمكن من متابعة المشهد المروع الذي أعدته لها خصيصاً.. يشبه كثيراً مشهد ذبح الأرانب..
الأطفال في تلك المواقف يشبهون الأرانب كثيراً.. لكنها لم تقرر سلخهم أمام عينيها كما يفعل بالأرانب ..
للأسف لم تتمكن الزوجة من الصراخ.. لكن عينيها قالت الكثير.. كيف كان مقدار الألم الذي عانته وهي ترى أطفالها يستنزفون أمام عينيها؟..
ـ عفاف.. ينبغي أن تنسحبي قبل فوات الأوان..
حينما انتهت عفاف من طقس شرب الدماء الذي أدمنته مؤخراً، التفتت للزوجة فرأتها تحرك شفتيها الجافتين كأنها تقول شيئاً لكن لا بلا صوت..
انحنت عليها لتسمع ما تقول، فبدت كلبؤة قد مرغت وجهها في أحشاء حمار وحشي..
ـ ماذا تقولين يا حلوتي؟
بعد جهد جهيد قرأت ما تقوله بحركات الشفاه..
ـ اقتليني!

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-22-2019, 09:42 PM   #16
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(4)

مساء اليوم التالي اتجه عارف وباسم إلى حانة النجوم الساهرة..
نزعوا أقنعتهم على الباب وسلموها للعاملين بالأمانات، ثم انغمسوا وسط الضجيج وسحائب الدخان ورائحة الخمور الرديئة والأنفاس الكريهة..
قال باسم وهو يسد أنفه:
ـ لماذا تخلينا عن الأقنعة الواقية؟
قال له عارف وهو يجوب ببصره في الحاضرين :
ـ ألم تدخل حانة في حياتك؟
ـ لقد دخلت واحدة في لعبة ثلاثية الأبعاد.. فأنا من مقاطعة محافظة..
أختار عارف أحد الموائد في أبعد مكان عن الصخب وسحب الدخان حتى لا يفقد باسم وعيه من أول عملية.. إنه لديه خبرة واسعة في التعامل مع هؤلاء المبتدئين المائعين..
سيكون أمام باسم وقت طويل كي يكف عن الشعور بأشياء عديدة كالخوف و الاشمئزاز والتقزز وسائر مشاعر الرفاهية الفارغة!..
قال عارف:
ـ جرب أن تختار واحدة..
ابتلع باسم ريقه وبدأ في الفرز.. الفتيات هنا كالذباب.. عليه أن يختار ذبابة تصلح للتجنيد .. ذبابة واحدة وسط كومة القمامة التي يجلسون فيها..
هنا وقعت عينا باسم عليها.. احتاج إلى عدة ثوان كي يتأكد.. إنها هي بلا شك.. تمتم في مقت :
ـ أين عينك يا صديقي؟
التفت إليه عارف متسائلاً فأشار بطرفه للمائدة التي تجلس عليها فتاة بارعة الحسن بجوار أشيب وقور :
ـ أنا أعرف تلك الفتاة..
صفر عارف بصوت خافت وقال :
ـ إنها هايدي فتاة سراج..
هايدي !.. لقد غيرت اسمها بما يناسب وضعها الجديد كذلك.. طبعاً سراج هذا هو الوغد الذي أضاء لها طريق الرذيلة.. واصل عارف:
ـ إنها غالية جداً على أمثالنا يا عزيزي لو كنت تفكر.. كما أنها حالة ميؤوس منها..
نظر له باسم مستفهما؛ فقرر أن يوضح أكثر :
ـ لقد وضعتها تحت الاختبار في فترة سابقة.. هذه الفتاة مادة خام للرذيلة.. لا تحاول البحث عن لحم ودم أسفل جلدها.. لا يوجد إلا عفن..
ظهر الضيق على وجه باسم وكأن الكلام جرح مشاعره هو؛ فسأله عارف:
ـ هل كانت بينكما علاقة سابقة؟..
هز رأسه في بطء نافياً وقال :
ـ بل مع صديق سابق .. كان شرطياً سابقاً في إلوسيوم.. تركته جثة فاقدة للأهلية وجاءت إلى هنا فيما يبدو لتحقق ذاتها..
ـ إن صاحبك لمحظوظ..
بالرغم منه وجدت بسمه شاحبة سبيلها إلى شفتي باسم وهو يغمغم:
ـ ليته يعرف ذلك..
هنا نصحه عارف بأن يكون على حذر في التعامل مع النساء في تارتاروس عموماً، وفي الحانات خصوصاً، فنصفهن جواسيس وعملاء للإدارة.. إنهم يتبعون هنا وسائل التجسس البدائية ..
النخبة تريد أن توصل رسالتها للنزلاء، أنها موجودة وبقوة حتى في ذلك الجحيم.. وبأقدم أساليب التجسس والوشاية.
هنا قام أحد الشباب المتأنقين ليصطحب هايدي إلى خارج الحانة، على حين شاع البشر والسرور على وجه مؤجرها الأشيب.. لقد دفع له الزبون مبلغاً وقدره..
تمتم باسم :
ـ خنزير!
ثم سأل عارف عن كنه الرجل الذي اصطحبها.. مال عليه عارف وغمز بعينه قائلاً :
ـ إنه أحد رجال الشرطة..
ـ تركت رجل شرطة كان يريدها زوجة لتذهب مع أخر يريدها دمية.
ثم إنه تساءل في توتر حذر:
ـ ألهذا السبب نحن هنا؟
طقطق عارف بلسانه كي يحذره من محاولة استنتاج ما وراء المهمة التي جاءوا من أجلها..
ـ الحانة مكتظة بهم..
راقب باسم هؤلاء الشباب الذين يملئون الحانة وهم يتضاحكون ويحتسون الشراب.. ولما وجده عارف قد أطال النظر صرف بصره عنهم هامساً :
ـ لا تطل النظر إليهم هكذا..
تمتم باسم :
ـ لماذا لا نكتفي بالفرز فقط..
ـ تريد أن تتهور هنا؟
ـ لا توجد فرصة أكبر من هذه..
ـ وماذا تتوقع أن يحدث بعد؟..
هز باسم رأسه في أسف..
ـ لا شيء..
أومأ عارف برأسه.. ثم لوح بكفه لإحدى الفتيات قائلاً :
ـ لكننا نسعى لتغيير كل شيء..
نظر باسم للفتاة التي قامت من مائدتها تاركة ذلك الأشيب الوقور، وأتت إليهم تمشي بخطوات واثقة..
تساءل باسم بصوت خافت :
ـ من هذه؟
ـ إنها أمل فتاة شاهين..
نظر باسم للأشيب الذي تركته الفتاة فوجده يخرج ورقة وقلماً ليدون شيئاً ما.. ثم التفت للفتاة التي توقفت عند مائدتهم وحيتهما قبل أن تجلس في عدم اكتراث.. نظرت إليه ملياً ثم قالت لعارف :
ـ معك وجه جديد يا عارف ..
عرفها بباسم سريعاً ثم نادى على النادل وطلب بعض المشروبات..
عينا باسم قالت أنه لا يريد أن يشرب شيئاً في هذا المجرور.. فابتسم عارف في مقت وقال مربتاً على يده :
ـ صديقي لا يتعاطى الكحول..
هشت له الفتاة وبشت وأعلنت أنها تثق في الرجل الذي لا يتعاطى الكحول وترتاح معه أكثر.. طبعاً شعر باسم بعدم الارتياح لعبارة الفتاة، فأشار للأشيب الجالس هناك وحده مثل الغراب وقال :
ـ لماذا لا تدعين والدك ليجلس معنا؟..
ضحكت الفتاة وهي ترجع رأسها للخلف، على حين قال عارف من بين أسنانه وهو يرمي باسم بالشرر:
ـ صديقي يجيد المزاح أيضاً..
ابتلع باسم ريقه وقد جعلته عينا عارف يبتلع سخريته..
لكن نظرات الفتاة العابثة جعلته يرتبك.. قالت:
ـ سيأتي حينما تريدون أنتم ذلك..
داعب عارف شاربه الرفيع وقال في تفكير :
ـ الحقيقة أنني أفكر لك في نهاية مختلفة يا أمل..
هنا تلاشت ابتسامة الفتاة وحل محلها غباء مدقع..
وفهم باسم ما يرمي إليه عارف.. هذه تجربة عملية على الاستقطاب بعد الفرز..
وسط هذا الصخب الصاخب تتم عملية من أخطر وأدق عمليات الرفاق.. التجنيد أصعب من القتل والنسف والتدمير..
لابد أن عارف قد وضع هذه الفتاة تحت الاختبار لفترة، ربما كان يستعد ليوم يتم فيه تكليفه بتجنيد واحدة .. ها هو اليوم يحاول أن يراودها شيئاً فشيئا.. لن يتم كل شيء في جلسة واحدة.. اليوم سيلقي إليها كلمة وغداً جملة.. وربما يمر الشهر قبل أن تجد الفتاة نفسها في شرنقة لا فكاك منها أبداً..
تساءلت الفتاة :
ـ عن أي نهاية تتكلم يا سيد عارف ؟
ابتسم عارف كأنه يلاطفها أمام الناس، وإن خرجت كلماته الهامسة في جد صارم:
ـ نهاية كل ساقطة في تارتاروس..
***
لم يحدث شيء بعد هذا اللقاء..
قام عارف وباسم وشكرا شاهين على مجهوداته لكن يبدو أن الأجر الذي طلبه لم يكن يناسبهم..
وفي اليوم التالي وافق شاهين على مبلغ أقل.. يبدو أن حالة السوق ليست على ما يرام هذه الأيام.. نادى شاهين على أمل فجاءت راسمة على وجهها ابتسامة شاحبة و في عينيها نظرة عطشى.. لا للمال بل لسماع بقية كلام عارف الغريب.. لقد ألقى أمس في بركة حياتها الراكدة بحجر، وترك الدوائر تعمل عملها في تلافيف مخها..
اليوم ستذهب معهم وستعرف عنهم أكثر..
باسم المحافظ في ذروة المجد البشري، لا يصدق عينيه وهو يرى شاهين يتقاضى أجره بعد فصال مرير مع عارف.. القواد المحترف والرفيق المحنك والبغي الجميلة خاوية الرأس.. إنه مثلث القرف.. لكن هناك ضلع رابع منفرد يشعر بغصة في حلقة.. هو لم يأت هنا ليعيش في هذا الجو.. ملوثات بالخارج وبالداخل.. لكن التعليمات هي التعليمات.. سواء كانت من الموالين للنخبة، أو من المتمردين عليها..
أثناء خروجهم مع فتاة الحانة رأى باسم حفنة من رجال الشرطة وهم يتشاجرون مع بعضهم، وقد تطور الأمر إلى تهشيم زجاج الخمر وضرب الرؤوس بالمناضد.. قال باسم لنفسه : إن زرع قنبلة موقوتة في الحانة يمكنها أن توفر عليهم جهد تجنيد فتاة ليل للتجسس على هؤلاء.. هنا انتزعه عارف من أفكاره وقال وهو يناوله قناعه الواقي ويجذبه للخارج :
ـ الشجار هنا طقس أساسي.. حانة بدون نساء وشجار وتهشيم زجاجات الخمر فوق الرؤوس ليست بحانة.. الغريب هنا حينما يقف رجل بالغ مثلك مبهوتاً أمام شيء عادي كهذا فيجلب الوبال على رأسه..
أمام باب الحانة وقف ثلاثتهم يرمقون الطريق من وراء الأقنعة..
ثم جاءت سيارة أجرة تشبه سيارة سباق بعد انقلابها عدة مرات، لعلها أيضاً تعمل بمياه الصرف المعالجة؛ لأن العوادم التي تخرج منها تسللت رائحتها إلى أنوفهم رغم وجود الأقنعة.. وكان السائق محاصراً بعشرات الأسلاك والخراطيم كأنه في غرفة الرعاية المركزة ..
فتح عارف باب السيارة لأعلى كي تدخل الفتاة، ثم التفت إلى باسم الذي تسمر في مكانه وأشار له بكفه في غيظ بمعنى : هيا يا أخي فالعدادات هنا لا ترحم..
أشار له باسم وهو يعبث في الأرض بحذائه بمعنى أنه ربما من الأفضل أن يبتعد عنهم الآن و..
هنا رأى عارف يشير له بمعنى : هل جننت؟ أنسيت أن كل منا قد دفع للسيد شاهين أجرة الفتاة ..
ودفعه برفق في ظهره ليركب بجوار الفتاة ثم صعد بدوره وهو يشير للسائق راسماً بكفيه زهرة لوتس ..

***

ـ مساء الخير يا فاتنتي..
قالها عارف وهو يلوح للعجوز ليليان فابتسمت له بإشراق.. ثم حانت منها التفاتة سريعة لأمل أطل خلالها عبر عينيها وميض حقد له مغزاه..
كنت مثلك أيتها الشابة يوماً ما وربما كنت أجمل كذلك .. لكنه الزمن..
أما الفتاة فقد أبصرت مستقبلها في انعكاس عيني العجوز.. هل هذه هي نهاية كل ساقطة في تارتاروس؟.. أخبرها عارف بعد أن صعدوا للغرفة أن هذه العجوز تعد فلتة في تاريخ عاهرات تارتاروس .. معظم العاهرات يقضين في عمر الزهور.. والسبب أنهن مجرد دمى جميلة مصممة خصيصاً من أجل اللهو.. الذي ينتهي في أحيان كثيرة إلى الحرق والتعذيب لإشباع الغرائز المريضة.. والتي قد لا تقنع أحياناً إلا بتدمير الدمية نفسها والبحث عن غيرها.. هذه هي حقيقة حياتك هنا يا فتاة..
في تلك الليلة استسلمت أمل.. وتحدثت عن كل شيء..
عن حياتها السابقة.. كيف سماها أبوها أمل طمعاً في غد أفضل لها وللأسرة..
كيف علمها والدها الكثير من الفضائل، لكنها لم تعد تذكر منها سوى أشياء ضبابية، سرعان ما تتلاشى على أثر صخب الحانات وهدير السيارات التي تعمل بمياه الصرف المعالجة والجو الأصفر الغائم دائماً، وهدير فلاتر التنقية..
عواطفها تجيش بأشياء لا تدري كنهها.. أشياء من الماضي البعيد.. ربما وجه والدها الحاني وهو يقدم لها كوب من الحليب الصافي.. ثم يقتحم وجه شاهين المشهد وهو يلوح بكأس من شراب ويبتسم لها بلزوجة.. كل القوادين لزجين.. إنه في نفس سن والدها لكن الفارق بينهما تماماً كالفارق بين الخمر والحليب.. بين الجنة والنار..
حتى مصطلحات مثل الجنة والنار.. صارت لها دلالات أخرى في النظام العالمي الجديد.. كلما تترقى كلما تفهم أكثر وتنكشف لك الرموز.. الجنة رمز والنار رمز.. ليس كل من يدخل الجنة ينعم.. ولا كل من دخل النار يتعذب.. الإله رمز.. النخبة آلهة ذلك العصر، ولكل عصر آلهته..
قال عارف :
ـ النخبة هم التطور الطبيعي لسائر الأمم الاستعمارية منذ بزوغ فجر التاريخ.. والتطور هنا له ثمرته وأثره.. لقد هضموا سائر الأفكار الغابرة وتجنبوا الثغرات والآفات التي تنخر في عظام الأمم.. ظلوا قروناً يعملون في الخفاء كمدبري فتن ومكائد.. حتى تم لهم التغلغل في أنسجة المجتمعات.. صاروا كداء الكلب لا يترك مفصلاً إلا ودخله..
تساءلت أمل :
ـ ونحن؟..
هز عارف رأسه في بطء وأوضح :
ـ نحن لسنا حفنة من المتآمرين.. بل نحن رجال رفضوا الخضوع لإدارة العالم الواحد التي تآمرت على بني الإنسان باسم الإنسانية تارة.. وباسم الإخاء تارة.. وباسم المساواة تارات.. ولما تمكنوا قسموا الناس إلى شرائح يستعبد بعضها بعضاً..
نظرت له أمل بأمل وهمست :
ـ وهل هناك أمل؟
ـ بلى.. ما دام هنالك عرق ينبض.. ما دام هناك إيمان بما وراء هذا العالم الزائف ..
ـ وهل وراء هذا العالم من شيء؟
ـ الله..
حركت الفتاة لسانها بالكلمة دون أن تنطقها.. شعرت بحنين جارف يدغدغ أعصابها.. تذكرت وجه أبيها فسرت رعشة خفيفة في يدها..
باسم كان من المفترض حسب تقاليد الرذيلة أن يبقى في غرفته المجاورة وينتظر دوره مع الفتاة.. لكنه مكث معهم في غرفة عارف من أجل أن يتعلم..
فكر وهو يقلب بصره بينهما، أن بعض الناس الذين يبدون في الظاهر بصورة مقززة، قد يحملون في داخلهم نقاط مضيئة تومض أحياناً وتخفت أحايين.. هذه الفتاة التي أمست في أول الليل عاهرة.. صارت في أخره نقية طاهرة.. بمجرد أن وجدت من يزيح الغبار عن عقلها ويذيب الصدأ الذي غلف قلبها..
من يتصور أن الشابين الذين صعدا أمام عيني العجوز بفتاة ليل قد قضوا الليل في مثل هذا الكلام.. ترى ماذا سيكون رد فعل العجوز ليليان لو علمت؟
ابتسم باسم لتلك الخاطرة ولم يعلق.. فقط واصل الإنصات للدرس..
كانت الفتاة تتساءل:
ـ لقد صرت منكم؟..
أجاب عارف :
ـ بلى..
ـ أنا سعيدة لذلك..
ـ لا ينبغي أن تتجاوز سعادتك حدود هذه الغرفة.. ستغادرين مثل أي فتاة تغادر.. ستعودين لحياتك كأن شيئاً لم يكن..
عبث وجهها.. ثم أطرقت للأرض وقالت :
ـ لا أريد أن أعود..
عقد عارف ساعديه أمام صدره وقال بنبرة شبه صارمة:
ـ إذن سينتهي أمرك سريعاً.. اسمعي يا أختاه.. لا أحد بيننا يرضى لك هذا الدنس.. ونحن لم ندعوك إلا لكي ننقذك .. لقد أنقذنا اليوم روحك وغداً سنخلص جسدك الطاهر من بين الأوحال..
كل شيء له وقته كما كان يقول له عارف دائماً .. لكن باسم لم يستطع هضم تلك القاعدة اليوم والآن.. هناك شيء ما خطأ في كل هذا .. فطرته تقول له هذا .. وقلبه يقول له هذا.. لكن لسانه لا يملك حق الاعتراض ..
وحينما بزغ فجر اليوم التالي، عادت أمل إلى شاهين بعد أن أعطاها عارف موعداً في مساء الغد كي يبدأ في تدريبها على أساليب الرفاق. واستسلم رفيقي السر للنوم بعد سهرة عمل شاقة.. ساعتين من نوم هنيء بلا أحلام بعد أن اجتازوا الشق الأخطر من المهمة..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رواية كاملة بقلمي بعنوان ......رجل بدون ملامح..... حسن التازي أبعاد القصة والرواية 6 09-29-2018 03:29 PM
قراءة في رواية اليهودي الحالي عبدالله باسودان أبعاد العام 1 03-27-2015 01:17 AM
ملخص رواية \ مسلسل ( الجذور ) لـِ أليكس هالي عماد تريسي أبعاد العام 10 07-08-2014 02:20 AM
ملخص رواية دون كيشوت عماد تريسي أبعاد العام 4 06-19-2014 09:22 AM
الموتُ في وهران رواية للحبيب السايح سارة النمس أبعاد النقد 7 04-17-2014 04:25 PM


الساعة الآن 01:09 AM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.