قردة وخنازير (رواية) - الصفحة 3 - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
(( أبْــيَات لَيْسَ لَهَــا بَيــْت ...!! )) (الكاتـب : زايد الشليمي - مشاركات : 15 - )           »          [ فَضْفَضَة ] (الكاتـب : قايـد الحربي - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 75148 - )           »          فلسفة قلم .. بأقلامكم (الكاتـب : سيرين - آخر مشاركة : زايد الشليمي - مشاركات : 3845 - )           »          غياب القناديل (الكاتـب : أحمد عبدالله المعمري - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 3 - )           »          تخيل ( (الكاتـب : يوسف الذيابي - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 428 - )           »          ورّاق الشعر [ تفعيلة ] (الكاتـب : نوف الناصر - مشاركات : 5 - )           »          بُعدٌ جديد ! (الكاتـب : زكيّة سلمان - مشاركات : 1 - )           »          عَـيني دَواةُ الحـرفِ (الكاتـب : حسن زكريا اليوسف - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 4 - )           »          " قلطة " : اقلطوا .. (الكاتـب : خالد صالح الحربي - مشاركات : 94 - )           »          اوراق مبعثرة!!! (الكاتـب : محمد علي الثوعي - مشاركات : 423 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد النثر الأدبي

أبعاد النثر الأدبي بِالْلُغَةِ ، لا يُتَرْجِمُ أرْوَاحُنَا سِوَانَا .

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-24-2019, 03:58 PM   #17
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(5)

في اليوم التالي جلس الرفيقين في نفس المائدة البعيدة عن الزحام، ليراقبوا الحياة في حانة النجوم الساهرة..
فتيات يرحن ويجئن.. قوادين منتفخي الجيوب بالأوراق الخضراء.. رجال الشرطة يتبادلون السباب والشجار.. أمل تحاول أن تشق طريقها من بين الأنياب والمخالب.. تحاول ألا تتمزق وهي تتقدم من مائدة باسم وعارف..
يناديها شاهين.. هناك زبون يريدك يا عزيزتي.. إنه الشرطي مهاب هذه المرة..
يهز لها عارف رأسه بمعنى : اذهبي إليه.. تتحرك حنجرتها دلالة على وجود غصة صعبة البلع.. وتتراجع للوراء بوجه شاحب..
هايدي تنظر بحقد لأمل.. لقد فزت أيتها القردة بالسيد مهاب هذه الليلة.. لتكن تلك ليلتك الأخيرة.. سراج غير راضي بالمرة من أداء هايدي.. تباً هناك من يسحب البساط من تحت أقدامنا أيتها السافلة..
وباسم يقبض على كأس الليمون فيوشك على أن يسحقه..
ـ هل هذا معقول؟
قال له عارف مهدئاً :
ـ تشجع.. الحياة صعبة وتحتاج لأعصاب من حديد..
ـ بل تحتاج لأعصاب خنزير من حديد..
ـ لسنا خنازير..
نظر باسم لعارف في غل وهمس :
ـ لماذا لا ننصرف إذن؟
نظر له عارف وابتسم في رقة كأنه يشكره على معروف :
ـ انصرف أنت لو كنت لا تحتمل.. لكن بلا ضوضاء..
هب باسم واقفاً وقال:
ـ سأتمشى.. أريد بعض الهواء النقي بالخارج..
لم يرد عارف على عبارته الساخرة رغم مرارتها، بل لم يلتفت حتى إليه، فازداد حنق باسم واندفع مغادراً الحانة..
حاول أن يتجاهل صوت الضحكات المائعة وضرب الكؤوس.. لكن صوتاً واحداً أوقفه..
صوت صرخة أمل..
التفت ليجد ذلك الشرطي يستمتع بإيلامها.. إنه منهم إذن..
سيظل يضرب الفتاة طوال الليل، ثم سيعلن في الصباح أنها باردة كلوح ثلج، وأنه بحاجة لدمية أخرى غيرها، لأنها لم تعد تصلح ولا حتى لتسليك أسنانه..
النهاية البشعة التي تحدث عنها عارف.. يتصاعد الدخان الأسود أمام عيني باسم.. يلتفت لعارف مستجدياً فيشير له الأخير بكأسه كأنه يحيه.. لكن عينه قالت له بوضوح صارم : انصرف بهدوء..
لكن عينا أمل قالت له أبقى..
توجه كالسهم إلى المائدة التي تجلس عليها بجوار ذلك الشرطي وقال له بنبرة لم يألفها :
ـ دعها..
كالعادة يتوقف العبث والضحك وضرب الكؤوس.. ذرات الهواء نفسها تجمدت..
فقط قلب باسم هو الذي يدق بعنف.. لقد ارتكب خطئاً جسيماً.. لقد خالف الأوامر.. أفلتت أعصابه في تارتاروس كما أفلتت منه في إلوسيوم.. في لحظة يتخيل كل ذكرياته وحياته تمر أمامه.. وتتوقف عند مشهد واحد.. سحنة ضابط الشرطة الذي ظل يرمقه بعين لا تطرف..
فجأة وثب عارف وسط المشهد ليأخذ بذراع باسم صائحاً :
ـ يا للبائس المخمور..
هب الشرطي مهاب واقفاً ووضع يديه في خاصرته قائلاً:
ـ هذه ليست سحنة المخمورين..
ثم التفت للشلة مردفاً :
ـ بل هذا هو التجديد الحق..
تعالت الضحكات المرحبة من حفنة الشباب المحيطين .. وفهم عارف أنهم يعتبرون باسم فقرة جديدة تقدم مجاناً ..
وأشار مهاب إلى أمل التي شحب وجهها كالأموات وقال باستمتاع:
ـ هل ترغب في هذه الفتاة؟
تقدم منه باسم خطوة رغم قبضة عارف التي تطبق على ساعده لتمنعه من التهور أكثر.. وقال بحزم :
ـ دعها وفقط..
التفت مهاب لرفاقه وقال متهللاً :
ـ إنها قصة حب إذن.. فتاة الحانة والصعلوك.. تعرفون أحب تمثيل دور مفرق الأحبة هذا..
والتفت إلى باسم قائلاً في شراسة مفاجئة:
ـ تريد الفتاة.. تعال وخذها إن كنت رجلاً..
ودون مقدمات انفلت باسم من قبضة عارف، ووثب محيطاً وسط مهاب بذراعيه وحمله حملاً وهو يصرخ في غل.. الغريب أن مهاب كان يضحك باستمتاع حقيقي وباسم يندفع به للوراء ويطرحه على مائدة الشراب..
هنا تراجع عارف للوراء.. عدل من هندامه كأنه يستعد للخروج من المنزل ثم استدار عائداً لمائدته ..
كان عملياً فقد انتهى أمر باسم.. لن يتبقى منه شيء حينما يفرغ منه رجال الشرطة المتحمسين.. إذن لا داعي للمزيد من الخسائر..
وهكذا جلس يراقب الحفل الذي أقيم على شرف باسم..
زمرة رجال الشرطة بزعامة مهاب وجدوا أخيراً وسيلة لتلميع أحذيتهم .. صوته المكتوم وهو يتلقى ركلاتهم كان يفتت الأكباد .. لكن عارف يعرف أنه لا مجال هنا للشفقة أو للمغامرة .. ليدفع المغامر ثمن مغامرته.. ويكفيه ما خسره من وقت أضاعه في تدريبه وتهذيب روحه المتمردة.. رسم على وجهه تعبيراً مستمتعاً ليداري به الغل الذي يأكله من الداخل، وصفق بكفيه ليأتيه أحد سقاة السم ..
حاولت أمل أن تحول بين باسم وبين سيل الركلات التي تنهال على جسده.. إنها حماقة الأبطال الأبدية التي تزكي المأساة .. النتيجة أن ركلات الشباب المتحمس والمتلذذ لم تعد تفرق بينهما .. سيخسر عارف أمل أيضاً .. ضربتين متتاليتين في وقت قصير.. يبدو أن هناك من دعا عليه هذا الصباح..
وجاء شاهين يحاول إنقاذ فتاته ومصدر رزقه.. لكنه تلقى دفعه في صدره طار على إثرها ليسقط بجوار مقعد عارف ..
كؤوس تقرع وهتافات ترحب.. هايدي تضحك بانتشاء ملوحة بكأسها.. وعارف يصفق ويضرب بقبضته المائدة.. أعطوهما أكثر .. أكثر.. إنهما يستحقان.. أمحو أخر أمل لأمل.. واشطبوا باسم من سجل أخر الرجال المحترمين..
وحينما فرغوا من الضرب حملوا باسم خارجاً وألقوه على الرصيف بلا قناع يحميه من الهواء الملوث.. كان ما يزال حياً لكنه لن يستمر كذلك لفترة طويلة بلا قناع .. نفضوا أيديهم منه وعادوا إلى الداخل ليجدوا الضابط مهاب يحتفل مع جثة أمل على طريقته الخاصة.. ظل يرقص بجثتها فوق الموائد حتى صرعته الخمر، واستطاع العاملين بالحانة تخليص جثة الفتاة منه بأعجوبة، وسلموها لشاهين الذي ظل يندب حظه العاثر وهو يصيح :
ـ ماذا سأفعل بجثة عاهرة؟..
هنا برز له شاب طويل نحيل محني الظهر تحت عينيه هالات سوداء.. ناوله مبلغ من المال وحمل جثة الفتاة واتجه لباب الحانة مسرعاً كمن وجد ضالته بعد طول انتظار..
نظر شاهين للنقود التي أعطاها الشاب إياه ثم دسها في جيبه وهو يهز رأسه في رضا.. من حسن حظه أن مجانين النيكروفيليا متوفرون في حانة النجوم الساهرة .. يحطون على جثث العاهرات كما تحط النسور على جيف الحيوانات النافقة..
كل شيء هنا له ثمنه .. المشاعر الأسطورية النبيلة دفنت في المقابر.. دفنت مع باسم وأمل .. وهكذا عادت الحانة إلى ما كانت عليه قبل .. العاهرات يمارسن عهرهن .. والقوادين يقبضون الثمن.. وعارف يبحث عن صيد صالح للتجنيد .. كل شيء عاد طبيعياً كما كان .. أو هكذا بدت الأمور للوهلة الأولى .. لكن الليلة ستكون غير كل الليالي السابقة في حانة النجوم الساهرة.. الليلة لم تنتهي بعد يا سادة..
تذكروا هذا جيداً يا رواد النجوم الساهرة..
واضحكوا كثيراً فلن تبكوا بعد اليوم..

***

على الرصيف المقابل لحانة النجوم الساهرة تكوم باسم مهشم الأوصال مبعثر الأطراف.. للحظات ظن أن أطرافه الأربع ليست في أماكنها الصحيحة.. هناك هواء مسمم يتسرب إلى رئتيه فيسعل بصوت مذبوح.. هناك أشباح تروح وتجيئ من حوله غير عابئة به.. الجو الأصفر المقيت يتجه للسواد.. هي الغيبوبة إذن..
أخيراً رأى أحدهم يضع على وجهه قناعاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بدأ يميز وجه فتاة صغيرة باسمة لا ترتدي أي أقنعة كأنها من عالم أخر.. سحب نفس عميق ثم أطلق شهقة طويلة آلمته في صدره.. وحينما بدأ يشعر بتحسن كانت الفتاة قد اختفت..
كأنها جزء من حلم أو هلوسة سببها له الهواء الملوث.. لكن الهلوسة لا تترك لك قناع واقي على وجهك..
عليه أن يسترخي قليلاً.. ليلته لم تنتهي بعد.. لقد تلقى علقة العمر، لكنه ما يزال حياً.. تذكر أمل فعض على شفتيه قهراً.. لم يلقوا بجثتها خارج الحانة بعد.. ترى هل ما تزال حية؟.. لم يكن يعرف أنها ستواصل اللية مهمة البغي حتى وهي ميتة.. بغي رغم أنفها.. روحها تحررت وصارت في البرزخ، وجسدها سيظل ينتهك في الدنيا حتى تبدأ في التعفن..
عارف تركه.. الرفاق خذلوه.. لكن ليلته لن تنتهي قبل الأون.. فقط عليه أن يسترخي.. بعدها..
الخطة رسمت في عقله وهو ينهض من رقدته ببطء.. شعور بخدر لذيذ يسري في عروقه وكأنه لم يتلق علقة قاتلة منذ قليل..
وبخطوات مترنحة اتجه عائداً إلى باب الحانة..
عشرات الأقنعة كانت متراصة هناك على الجدار وعلى البنك كانت هناك زجاجات خمر تركها أحدهم وذهب ..
عليه هو أن ينجز مهمته سريعاً قبل أن يعود..
هذه مهمته التي لم يكلفه بها أحد .. الآن يشعر إنه لم يأت إلى تارتاروس إلا من أجل هذه اللحظة.. بل لم يولد إلا ليعيشها..
تصاعدت ألسنة اللهب لتأكل أقنعة رواد الحانة وهي تفح كالثعابين.. لم يشعر أحد بالكارثة إلا حينما بدأ الهواء الفاسد يتسلل إلى الأنوف..
هناك من أتلف الفلاتر التي تنقي الهواء داخل الحانة!..
صار هناك هرج ومرج وتدافع باتجاه الأقنعة الواقية.. حينئذ أدركوا الفخ القاتل الذي وقعوا فيه جميعاً.. رجل واحد يرتدي قناع كان يمشي مشية عرجاء قليلاً بينهم، وهم يتشنجون.. يتساقطون..
تمتد الأيدي إليه أن أفعل شيئا يا ذا القناع الوحيد.. يهز رأسه في بطء بمعنى.. لقد فعلت كل شيء ممكن ولو كان بيدي لطلبت من السماء أن تمطر عليكم حجارة من سجيل..
إنه يريد أن يرى الموت الزاحف في عين أعدائه.. كل أعدائه..
عين مهاب الضابط السادي.. عين شاهين القواد العجوز.. عين هايدي حبيبة صديقه السابقة.. و..
وعين عارف رفيق الأمس..
كانت لحظات قاسية وممتعة لأقصى حد..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-25-2019, 10:16 PM   #18
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


)6)

الأخبار اجتاحت تارتاروس كلها..
)حادث اختناق جماعي في حانة النجوم الساهرة ).. والحادث تم بفعل فاعل.. وبما أن الحانة كانت مكتظة برجال الشرطة فالعمل لن يخرج عن كونه عمل إرهابي يحمل بصمة المتمردين.. وهكذا صار كل شرطي في المقاطعة مكلف بشكل رسمي وشخصي بالبحث عن الفاعل الأثيم..
الفاعل الذي كان يجوب الشوارع كالشبح لا يدري متى توقفه طلقة رصاص حاسمة..
إنه سعيد وينتظر الموت في أي لحظة.. إنه مسلح بمسدس أخذه من مهاب وهو يحتضر.. كان بإمكانه أن يطلق عليه رصاصة الرحمة، لكنه ظل واقفاً يرقبه وهو يتعذب.. أمل.. أرجو أن تهدأ روحك هناك..
زحام.. غبار.. تلوث.. عوادم سيارات تعمل بمياه الصرف.. رجال شرطة في الأزياء الرسمية وغير الرسمية يفتشون تحت كل حجر..
لكنه سعيد لأنه لأول مرة يشعر بالحرية الحقيقية..
هو غير خاضع للإدارة الطاغية.. ولا لمتمردي اليوم طغاة الغد.. لذا لم ينس أن يقف قليلاً على رأس عارف وهو يرتجف ارتجافة الموت.. أراد أن يريه نفسه قبل أن يموت.. أنا هو صانع هذا الجحيم.. أتمنى من كل قلبي أن يكون مصيرك عند خالقك أشد وأبكى..
مؤكد أن الأخبار وصلت للأسرة كذلك.. ولابد أنهم اكتشفوا حقيقة ما حدث.. لقد فقدوا عارف واختفى العضو الجديد.. يمكن بقليل من التحليل والخيال رسم الصورة كاملة والوصول إلى الجاني ربما قبل الشرطة.. لدينا هنا عنصر متمرد على الأسرة..
لابد أن هناك اجتماع طارئ عقد للأسرة في مكان جديد لا يعرفه العنصر المتمرد.. لابد أن رب الأسرة تكلم كثيراً عن الخطر الذي يحدق بهم..
ـ هناك شخص يعرف عنا الكثير يجوب الأن شوارع تارتاروس.. إنه مبتدئ لذا لن يمكث طويلاً قبل أن يسقط في قبضة الشرطة.. سيقومون بعصره قبل أن يرسلوه إلى هيدز..
ونظر في عيونهم على ضوء الكشاف الساقط من أعلى.. دائماً هناك واحداً في كل مقرات الأسرة السرية.. وأكمل :
ـ لابد أن نعثر عليه قبلهم..
ـ حياً؟..
تساءلت عفاف وهي تقرض أظافرها بعصبية.. طرق رب الأسرة على المائدة بأنامله كأنه مستغرق في التفكير.. بعد قليل صمت حسم أمره..
ـ حسب تقاليد الرفاق ينبغي أن نقبض عليه حياً ونحاكمه.. ونقدم تقرير للقيادة العليا .. لكن تعرفون أن هذا سيظل وصمة عار في جبين أسرتنا.. أسرة تارتاروس تمرد أحد أفرادها.. هل تتخيلون معي الفضيحة؟
هزوا رؤوسهم متفهمين..
حوالي عشرون صياداً سينتشرون في أرجاء تارتاروس بحثاً عن طريدة واحدة.. قالت عفاف وهي ترتجف بنشوة :
ـ أنا أولى به منكم.. فأنا وهو بلديات..
قال رب الأسرة :
ـ عفاف مهمتك هذه المرة ستكون إنقاذ شرف أسرتنا..

***

الشرطي شهاب كان صديقاً مقرباً من الشرطي مهاب وشلته الذين راحوا ضحية حادث حانة النجوم الساهرة.. لقد كان محظوظاً لأنه لم يكن معهم في ذلك اليوم، فهو لا يكاد يفارق شلة الحانة إلا نادراً..
مهاب وسمير وراشد.. شلة الدراسة والعمل.. والنزوات كذلك..
حينما علم الخبر حشى مسدسه بالطلقات ولم ينتظر التعليمات التي عممت على سائر أفراد الشرطة.. سيبحث عن الفاعل بمفرده، وسيمثل به..
هناك متمرد قام بتجاوز الحد المسموح به ههنا.. معلوم أن تارتاروس تعج بهم، لكن زمن التسامح قد ولى..
شارك في عدة مداهمات فاشلة وعاد بعد أيام إلى بيته وأسرته منهكاً..
قالت له زوجته أن فلاتر التنقية لا تعمل بصورة جيدة.. نظر لوجوه أطفاله الثلاثة فرأى بوادر الاحتقان الذي يميز زيادة نسبة تلوث الهواء داخل البيت.. لا يوجد سلالي هنا، إنه لا يقوى على الحياة في تلك الأجواء المسممة.
ـ تعرفين أن إصلاح الفلاتر يحتاج لمبلغ وقدره..
قالت له وهي تسعل :
ـ أفعل شيئاً من أجل أولادك.. إنهم أولى من شلة الأنس التي تسعى للانتقام لها..
قال وهو يمسك رأسه كي لا ينفجر :
ـ يمكنك أن تأخذي الأولاد وتذهبي إلى والدتك..
ـ الأقنعة الواقية للأطفال بحاجة لإصلاح أيضـ..
هنا تركها وقام إلى فراشه متثاقلاً.. ربما سمعها تشتم وربما لا.. لم يعد يهتم كثيراً بما تقول.. الحمقاء لا تدري أن هناك مكافأة مجزية في الطريق لو نجحوا في القبض على الفاعل..
لم يكد يأوي لفراشه حتى جائه اتصال من الوحدة.. هناك مشتبه به في شارع... لم نشأ أن نستمتع من دونك.. سأكون هناك قبلكم أيها الأوغاد..
نهض من الفراش وطمأن زوجته.. لن يغيب كثيراً.. الحقيقة أنها تعرف أنه قد لا يعود لكنها تعودت على تلك العبارات.. هكذا احتضنت الأطفال وجلست بجوار المذياع، تنتظر الأخبار وتسعل..
الشارع المعني تم إخلائه تقريباً من السكان، حتى لا يحدث هرج ومرج يستغله المشتبه به..
سيارات الشرطة تفرض حصاراً على مدخل ومخرج الشارع.. بعد قليل سيتم القبض على الرجل الذي هز تارتاروس كلها..
رجال الشرطة يغادرون العربات بأقنعتهم المميزة لإطباق الحصار على العقار الذي تم تحديد الهدف فيه.. ثم اقتحامه..
شهاب يقبض على سلاحه وصور رفاقه لا تفارق ذهنه.. صدر الأمر بالهجوم فدخلوا العقار وبدأوا ينتشرون باحترافية..
بعد ثلاث أو أربع ثوان دوت سلسلة من الانفجارات المتتابعة أطاحت بالجميع..
هناك من زرع عبوات ناسفة في مناطق متفرقة من العقار ليتحول في لحظة بعينها إلى جحيم ..
للأسف لن يعرفوا حقيقة ما حدث وقد تحولوا إلى أشلاء.. وشهاب لن يعود لإصلاح فلاتر بيته كذلك..
ستقيم زوجته عند أمها لأجل غير مسمى..

***

بالأمس مكث باسم في إعداد كل شيء بنفسه..
إنه وقت استرجاع الدروس التي تلقاها على يد عارف.. صناعة قنابل شديدة الانفجار من أبسط الأشياء المنزلية.. هناك دوائر كهربية كذلك..
كلمات الرفيق عارف مازالت تدوي في أذنيه وهو يعلمه.. ويده تنفذ ما تسمع بالحرف..
المبنى الذي اختاره مهجور منذ فترة.. والفلاتر هنا عششت فيها العناكب.. ربما مات سكانه ولم يدر بهم أحد.. هناك بقايا هياكل عظمية وجدها في بعض الغرف.. مكان لا يطيق أحد البقاء فيه لذا كان هو أفضل مكان للاختباء.. استطاع إصلاح بعض الفلاتر كي يتمكن من خلع قناعه الذي أهدته إليه تلك الفتاة الغامضة.. وجلس ليتنفس في عمق ويفكر في كل ما مر به.. هل كانت حياته في إلوسيوم سيئة لهذا الحد؟..
هل كان زواجه فاشلاً فعلاً؟.. أم أن أعصابه التي ألهبتها الشرائح الذكية وألعاب الفيديو ثلاثية الأبعاد كانت هي السبب؟..
ثم توصل إلى أن حياته كانت تتجه دائماً من السيء للأسوأ.. ربما كان الآن في الذروة.. وربما كان يتجه إلى مزيد من السوء.. على الأقل عليه أن يحاول وقف مؤشر التدهور..
تمرد على النخبة.. ثم صار متمرداً على المتمردين على النخبة.. هل هذا هو الطريق الصحيح؟
مازال يتمنى لو غادر هذا العالم كله.. بكل ما فيه من طغاة وثوار وملوثات سمعية وبصرية.. مازال يبحث عن الشعور بالأمان..
شعر بتأثر شديد وحاجة ماسة إلى البكاء.. إنه بالرغم من كل ما صنع وصنع به ما يزال يحمل في داخله قلب طفل مذعور..
حتى وهو يضغط على زر المفجر فيتحول مدخل العقار إلى جحيم..
هو مجرد طفل.. طفل في لعبة فيديو أخرى..
طار أفراد الشرطة المقتحمين وارتج المبنى وبدا وكأنه على وشك الانهيار..
وكان هذا هو الوقت الذي قرر فيه باسم التحرك..
حمل قناعه وغادر مكمنه .. سيصعد إلى سطح العقار ومنه سيقفز إلى مبنى ملاصق لظهر العقار.. بعدها سيكون في الشارع يستوقف أحدى سيارات الصرف الصحي.. يقصد الأجرة..
لكنه لم يكد يرقى بضع درجات حتى سمع صوت خطوات قادمة من أعلى..
هناك شخص قادم إليه خصيصاً من السطح حيث يتوقع فراره ..
امتشق مسدسه وصوبه إلى أعلى وقلبه يدق .. هنا رآها تهبط بخطوات واثقة .. رتيبة .. جنائزية ..
لقد أرسلت الأسرة عفاف شخصياً من أجلك..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-26-2019, 05:55 PM   #19
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


(7)

كانت واقفة أعلى السلم وهي تخفي يدها اليمنى وراء ظهرها وفي عينيها نظرة ميتة لا انفعال فيها..
كان عليه أن يتوقع هذا على كل حال.. لا يفل الحديد إلا الحديد.. يمكنه أن يخدع رجال الشرطة.. لكنه لن يخدع أبناء كاره فهم الذين دربوه على كل تلك الوسائل .. لذا هم يتوقعون كل تحركاته..
لكن كيف علموا أنه هنا أصلاً ؟.. هذا السؤال خطأ كبير في حق الأسرة..
للحظات ظل الموقف جامداً.. هي لا تتحرك ولا تطرف عيناها، وباسم يصوب إليها سلاح الشرطي مهاب وهو يفكر.. كيف تتصور أنها ستصنع شيئاً بسكينة مطبخ وهو يصوب إليها مسدس؟
ـ أنا لا أريد إيذائك..
هنا فاجأته بسؤال غريب كأنها كانت مشغولة أثناء هبوطها بحل الكلمات المتقاطعة :
ـ هل تعرف معنى تارتاروس؟
سؤال غريب في وقت أغرب.. قال لها وهو يحكم التصويب إلى عينها الميتة:
ـ إنه اسم كسائر الأسماء التي يعج بها النظام العالمي الجديد..
ـ تارتاروس عند الإغريق هو أسوا مكان في الجحيم..
هز مسدسه في وجهها وصاح في غيظ :
ـ ما شاء الله أنت مثقفة جداً.. لكن لو تدرين.. لو لم نتحرك الآن سيتحول المكان كله إلى جحيم حقيقي ..
قالت وهي تواصل الهبوط ببطء كأنها لا تسمعه :
ـ سينتهي كل شيء بسرعة.. وبهدوء..
ـ حذار لا تتقدمي أكثر..
لكنها رفعت سكينها وهجمت عليه ..
ضغط الزناد تلقائياً وهو يميل جانباً ليتفادى هجمتها الشرسة.. كان جسده يرتجف من رأسه إلى أخمص قدميه.. وظل فترة مستنداً بظهره إلى الجدار وعينه لا تفارق جثتها التي انكفأت على درجات السلم .. الغريب أن السكين ظل في يدها..
لم يصدق أن هذه المرأة الكابوس انتهت هكذا في طرفة عين.. كأنها كانت مقدمة على الانتحار لا أكثر.. لقد قتل الكثيرين في تارتاروس.. القتل شيء سيء لكن الأسوأ أن تكون أنت المقتول..
هكذا انتزع نفسه من تأملاته وارتدى قناعه بسرعة ثم بدأ يثب فوق درجات السلم ..
أخيراً السطح..
اتجه عدواً إلى حافة السور.. ومنها قفز إلى سطح المبني الملاصق..
وهكذا ظل يثب من سطح إلى سطح حتى ظن أنه ابتعد عن الخطر بالشكل الكافي، فتوقف عند أحد الأسطح واتجه إلى السلالم..
حينما بدأ يهبط الدرج اكتشف أن المبنى الذي اختاره أشبه بمصنع مهجور.. وكان هذا مناسباً تماما.. فليس لديه وقت يضيعه مع الفضوليين.. لكن عند نهاية السلم شعر بتلك الوخزة في فخذه فتوقف.. نظر فرأى ذلك السهم مغروساً في أعلى فخذه.. رفع طرفه ثانيه فرأى شبح شخص يختبئ هناك خلف مجموعة من الصناديق..
هناك من يريد تخديره لسبب مجهول.. بدأ يفقد الإحساس بساقه المصابة فأخذ يثب على ساقه الأخرى محاولاً الخروج من هنا قبل أن.. تباً إن ساقه الأخرى تخذله هي أيضاً.. سمع صوت الخطوات من خلفه فاستل مسدسه وأستدار بصعوبة شاعراً أن قدميه مغروستان في قالبين من الخرسانة المسلحة..
هنا رآه بوضوح وهو يحمل قاذفة أسهم بدائية في يده.. كان شاباً طويل القامة نحيل، محني الظهر، تحت عينيه هالات سوداء.. إنه لا يرتدي قناعاً.. إذن الجو هنا مفلتر .. وبدا في وقفته مطمئناً وكأنه واثق من أن باسم لن يتمكن من إيذائه..
بالفعل حاول باسم أن يطلق الرصاص لكن يده خذلته.. وخر على قدميه والرجل يضحك..
ـ ما.. ماذا تريد؟
كانت تلك أخر كلمة قالها قبل أن ينعقد لسانه بفعل المخدر.. طبعاً عبارته تلك لم تتجاوز قناعه فلم يسمعها غيره ..
حينما اقترب منه الرجل بوجهه الشاحب، كان يبتسم في ود مفزع وهو يتفرس في ملامحه ..
ـ يا للمصادفة الكبرى.. أنت الشاب الذي كاد يفقد حياته بالحانة من أجل العاهرة.. تعرف عندي لك مفاجأة سارة.. لقد احتفظت لك بجثتها هنا في وكري.. اطمئن هذا المكان مهجور لا يوجد به أحد إلا أنا وأنت وجثة فتاتك.. لقد مللتها خصوصاً بعد أن بدأ العفن يدب في جسدها.. لكنني احتفظت بالأعضاء المهمة قبل أن تتلف.. سأضمها إلى أعضائك الطازجة طبعاً وستجتمعان يوماً ما في جسد أحد الأغنياء من الشرائح العليا والذين يدفعون كثيراً لأمثالي في مقابل هذه الأشياء..
كان الخدر قد سيطر على كل جسده فلم تبق إلا عبرات يائسة تسيل من عينيه الجامدتين..
شيء قاسي جداً أن تجد نفسك بعد كل ما فعلت، قد وقعت بالصدفة في قبضة مريض بالنيكروفيليا، وتاجر في الأعضاء البشرية كذلك.. وأنت معه بلا حول ولا قوة.. شيء قاسي جداً حينما تعرف المصير الأسود الذي صارت إليه أمل.. والذي ستصير أنت أيضاً إليه بعد قليل.. ولا تملك حتى أن تصرخ محتداً.. العزاء الوحيد أنك ستغادر هذا العالم الكئيب بعد قليل.. لا يهم ما سيصير إليه جسدك، المهم أن روحك ستحلق بعيداً عن هنا .. ربما حلقت هناك في العالم الذي حلمت به يوماً .. صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
عاد بوعيه الشارد لعالمه الأسود ليرى الشاب مشغولاً في المفاضلة بين مجموعة رائعة من السكاكين البراقة .. لم ينتهي هذا الأحمق منه بعد..
هنا تراها.. رأسها الدقيق يبرز من خلف كتف الشاب حيث جلس القرفصاء.. إنها نفس الفتاة الصغيرة التي أعطتك القناع الواقي يوم الحانة ..
إنها تبتسم في رقة، وتلوح لك بكفها الدقيق.. ترى هل جاءت لتنقذ حياتك ثانية؟.. أم أنها جاءت لتقول لك: الوداع ..

***

ليلى تعاني آلام المخاض..
تفكر في زوجها الأحمق الذي طلقها وجن قبل أن يعرف أنها حامل..
حامل في الطفلة التي يريدها..
لكنها للأبد ستظل تعمل من أجل تحقيق حلمه في ابنته.. سترحل بها بعيداً بعيداً عن كل هذا الصخب المحموم ..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..

***
نهاية الجزء الثاني..
ويليه الجزء الثالث والأخير..
( اللامنتمي).

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-27-2019, 02:47 PM   #20
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


اللا منتمي

(1)

فارس وحيد جوه الدروع الحديد..

رفرف عليه عصفور وقال له نشيد..

منين منين و لفين لفين يا جدع..

قال من بعيد، و لسه رايح بعيد..

***

ألقى جثة الأرنب البري بجوار باب الكوخ، وانحنى ليغسل وجهه ويديه في طست مليء بماء أصفر مجاور لفراشه.. الأصفر صار يميل للبني.. عليه أن يستبدل هذا الماء في أقرب فرصة..
رقد على ظهره ونظر للسقف الخشبي.. شعر بتلك القبضة الباردة تطبق على قلبه.. لقد تعلم كيف يفرق بين أزمات قلبه وبين انقباضه.. هذه المرة هو انقباض بسبب مجهول.. هل هناك كارثة ما تقترب في الأفق؟..
يقولون أن هذا يحدث حينما يتعرض لك قريب بسوء.. هل له أقرباء في هذا العالم؟..
نعم.. كان لديه زوجة وابن وحيد تركهما مجبراً ليحيا على هامش العالم على طريقته..
في هذا الخلاء يمضي يومه بين الصيد للعشاء والجلوس للقراءة بجوار النار.. في بعض الليالي الرائقة، يهاجمه ذئب جائع فيمارس معه بعض الرياضة، التي يحافظ بها على لياقته التي عملت فيها السنون بأنيابها ومخالبها..
اسمه حسن.. حسن شعيب .. ربما يجلس الساعات ليتذكر اسمه الذي لم يعد له قيمة هنا.. هنا يحيا على طريقته الخاصة التي اختارها لنفسه.. بعيداً عن ضوضاء النظام العالمي .. بعيداً عن التكنولوجيا..
اعتدل وهو يشعر بتلك الرعشة في أوصاله.. هناك شيء ما يجري، هل سيموت الآن؟.. لا بأس.. سيكون سعيداً حينما يموت حيث أختار أن يعيش.. وربما صارت جثته وجبة سهلة لذئب جائع.. سيكون مفيداً حتى وهو ميت..
قام مترنحاً وهو يتذكر وجه ولده الوحيد.. عماد الدين.. لابد أنه قد صار رجلاً الآن .. وللمرة المليون يلوم نفسه على تركه وحيداً في ذلك العالم القاسي..
بصق في التراب مشمئزاً وغادر الكوخ..
أخ!.. لقد نسي صيده ، وما كان ينبغي له أن ينساه..
سلخ الأرنب بعد عذاب، ثم بدأ يشق بطنه ويخرج الأحشاء..
هنا تذكر يوم قرر الفرار من بين براثن النظام العالمي .. سيعيش على طريقته الخاصة لن يضع شرائح في معصمه وتحت إبطه وداخل أذنه لتحصي عليه أنفاسه.. لن يشرب القهوة من يد روبوت ثرثار.. لن يقضي عمره رقماً يضاف لرصيد النخبة.. مجرد رقم..
لقد حرص على غرس تلك القيم في ولده الوحيد.. رأى في عينيه مستقبل أسود.. إما مع النخبة أو مع المتمردين على النخبة.. وعليه أن يختار بين أن يخسر روحه أو أن يخسر حياته..
أيقن أنه حينما يكبر لن يكون له عليه سلطان في ذلك العالم الذي انحلت فيه عرى الأسر.. لذا ففرصته الوحيدة هي في تدعيمه الآن..
كتب له يوماً :
) تلك التكنولوجيا يا ولدي هي لعنة العالم الحديث.. منذ أن بدأ الإنسان يرتقي في سلم التطور والتكنولوجيا، بدأ العد التنازلي للحياة على الأرض..)
كتب له عبارات كثيرة على أمل أن يجدها يوماً ويقرأها ويفهما .. لم يكن باستطاعته التصريح بهذا الكلام في ذروة المجد البشري .. بحكم كونه يخدم في جيش النخبة، كانت جملة كتلك تكفي لاتهامه بخيانة النظام العالمي.. سيتم استدعائه في وحدته العسكرية وسيحاكم في خمس دقائق ويعدم رمياً بالرصاص بعد خمس دقائق أخرى..
لكنه لا يريد لنفسه تلك النهاية السريعة.. يريد أن تصل صرخته لنهاية العالم.. يسمعها الزنوج العراة في الغابات الحارة، ويتردد صداها فوق قمم الجليد..
إنه يقرأ ويقرأ ويقرأ.. إن تعبير دودة القراءة صار لا يناسبه.. إنه حوت بالع.. وكلما قرأ كلما ازداد هماً وهرماً..
الكتب أضاءت له الطريق، فكان ما رآه مريعاً.. ومع ذلك أنت لا تستطيع الكلام حتى مع أقرب الناس إليك.. لأن الشرائح الذكية لن ترحمك .. كان بحكم عمله العسكري قد تلقى تدريباً في كيفية تضليل الشرائح الذكية في حالة الحروب، لكن مجرد استعمال تلك الوسائل السرية في وقت السلم ووسط المدنيين تعد جريمة عسكرية عقوبتها قد تصل للإعدام.. بالرغم من ذلك هو يعرف جيداً أن كثيراً من زملائه يرتكبونها معتمدين على ثقتهم في مهارتهم..
فكر كثيراً فوجد أنه لم يعد لديه حل أخر حتى لا يموت كمداً.. لكنه فوجئ حينما بدأ عملية التشويش أن لديه تحت سقف واحد زوجة مخلصة جداً للنظام العالمي.. مخلصة لأبعد الحدود.. لقد ثارت عليه واتهمته بأنه يعرض حياتهم للخطر، وأنه لا يتصرف كجندي في جيش النخبة وإنما كمتمرد وضيع.. إنها لا تسمع ولا ترى إلا ما تراه النخبة.. الكتب هراء.. والماضي سوءة في جبين البشرية..
ولم تهدأ حتى وعدها بألا يعود لفعلته تلك ثانية.. لكنه كان يعود لها حينما تكون هي خارج الوحدة.. كان يستغل غيبتها في تعطيل شرائحه وشرائح ولده ويبدأ في سكب ما لديه على أذنيه.. كانت سنه صغيرة على الاستيعاب، لكنه أمل في أن تظل عباراته تلك مخزنة في رأسه الصغير حتى يكبر ويبدأ في عملية الاستدعاء..
إلى أن جاء اليوم الذي تلقى فيه عرضاً مثيراً..
تذكر الرجل الودود الذي زاره في غيبة زوجته، بينما طفله الوحيد يغط في نوم عميق بحجرته.. تذكر ذلك الأزيز الذي أصاب شرائحه كلها يوم الزيارة.. إنه يعرف معناه جيداً، ولم يكن هو السبب هذه المرة..
ـ أنت تشوش على الشرائح؟
كذا سأل حسن الرجل الودود بطريقة صارمة كما تقتضي الحكمة.. قال الودود وهو يرفع ذراعيه كالمستسلم :
ـ إنها معنا تكون بلا فائدة..
ـ معكم؟!
قال وهو يبتسم في غموض:
ـ إنني أعمل لحساب الرفاق..
هنا جذبه حسن من ياقته للداخل وأغلق الباب خلفه في عنف .. بالداخل وجد الودود نفسه منطرحاً على وجهه وحسن جالس على ظهره وقد كبل يديه خلف ظهره.. بالرغم من ذلك لم تتلاشى ابتسامة الودود عن وجهه رغم ما سببه له حسن من ألم ..
كانت الأفكار حيوان مسعور تنهش رأس حسن.. ما معنى هذا كله؟ يبدو أنه لم يكن حريصاً كما ينبغي.. هل هذا الرجل من المتمردين فعلاً؟ أم مجرد فخ من المخابرات العسكرية؟.. لو كان من جهة النخبة فقد نجح في الاختبار، أما لو كان متمرداً فعلاً فهو لا يعرف ماذا يصنع معه؟
بعد قليل اكتشف أن الرجل مندوب من المتمردين حقاً.. معنى هذا أنهم وصولوا لما لم تصل إليه أجهزة استخبارات النخبة العسكرية!
أصاب حسن الذهول حينما أدرك أن المتمردين لديهم حاسة سادسة يشمون من خلالها بوادر التمرد قبل النخبة الأممية ذاتها.. هو الذي استطاع أن يداري أفكاره السوداء لسنوات يكتشف أن قلبه كان كتاب مفتوح أمام تنظيم المتمردين.. وما وجدوه كان جديراً بالاهتمام.. إن ضم عنصر من جيش النخبة الأممية لتنظيمهم لحدث جلل.
إنه يدرك من خلال عمله أنهم مخترقين للجيش الأممي نفسه لكنهم خاملين إلى يوم الوقت المعلوم. لن يكون هو الأول ولا الأخير.
قال له الودود :
ـ الآن.. هل يمكننا أن نجلس جلسة طبيعية؟
نهض حسن من فوق ظهره وسمح له بالجلوس.. ثم قدم له كوب من القهوة الساخنة!..
لاحظ أن الودود يرمي ببصره جهة غرفة الطفل الغافي فشعر بقلق مبهم ..
ـ كيف حال عماد؟
ـ لا شأن لك به.
تشمم الودود الأبخرة المتصاعدة من كوب القهوة باستمتاع.. ثم قال :
ـ لقد اشتقت لمثل هذه القهوة منذ زمان..
ثم إنه وضع كوب القهوة جانباً وسأل حسن في حزم :
ـ أنا بانتظار ردك.
يذكر حسن تلك اللحظة الفارقة.. تلك اللحظة التي تغيرت بعدها حياته للأبد..
ـ لا!
لم يصدق الودود في البداية .. ظن أنه لم يسمع جيداً.. هل أخطأ الرفاق في تقدير حالة حسن؟ لم تقابله حالة مماثلة لكنه يعرف القواعد جيداً..
قال وهو يدس يده في جيب معطفه:
ـ خسارة.
وحينما أخرجها كانت تقبض على مسدس صغير وأنيق.. ما حدث بعدها كان بسرعة البرق.. قام حسن بضرب رسغ الودود بكلتا يديه فأطاح بالمسدس.. وقبل أن يفهم شيئاً وجد نفسه منطرحاً على وجهه ثانية وحسن جالس على ظهره مرة أخرى.. لكن الفارق هذه المرة أن الأخير كان يضع المسدس الصغير والأنيق في قفاه..
ـ أنت لن تقتلني هنا..
ضغط حسن بفوهة المسدس على قفاه أكثر وقال بخشونة:
ـ ربما قتلتك لو تسببت في إيقاظ الطفل.
ـ أنت تهتم لأسرتك أكثر من اللازم.. كان عليك أن تقبل.
ـ لما؟
ـ لأن لنا نفس العدو المشترك..
ـ قد يكون عدونا واحد.. لكننا مختلفون كل الاختلاف.. في الطريقة والأسلوب الذي به نواجه هذا العدو..
ـ أنت رجل واحد.. ونحن تنظيم ضخم ومتكامل..
قال حسن في مقت :
ـ وكذلك النخبة.. هذا يذكرني بقول القائل: داوني بالتي كانت هي الداء..
ـ لا يفل الحديد إلا الحديد..
ـ هذا هو الضياع بعينه.. ضياع الهدف.. ضياع البوصلة.. اختلاط الوسائل والمقاصد.. أنتم تتعبون أنفسكم وتتعبون البسطاء معكم.. تلعبون مع النخبة لعبة القط والفأر.. تقدمون للنخبة تسلية أخيرة.. من الممتع أن تشعر النخبة الأممية بالإثارة.. أن تكون لها معارضة هزلية هدفها تثبيت دعائم ملكها.. وكل يوم يقبضون على حفنة منكم ويرسلونهم إلى هيدز ليصيروا فرجة العالم.. ليقال هذا هو جزاء من يعادي النخبة.
ظل الودود يستمع بلا مقاطعة حتى سكت حسن ليلتقط أنفاسه المبعثرة.. صدره يعلو ويهبط انفعالاً، لكنه يحب ما يقول.. يؤمن بما يقول.. يكره عكس ما يقول..
بعدها قال الودود بلا أي ود بسبب ثقل جسد حسن فوق ظهره والذي بدأ يخنق عباراته:
ـ أنت جندي .. كيف تريد أن تحارب النخبة إذن؟
ـ سأترك الخدمة في جيش النخبة من أجل التفرغ لحربها..
تساءل الودود باستمتاع رغم وجهه المحتقن:
ـ كيف ستحاربها؟
ضغط حسن بفوهة المسدس على رأس الودود، وهمس:
ـ من هنا..
رمش الودود بعينه عدة مرات كأنما يحاول ابتلاع صدمة الجواب.. ثم غمغم:
ـ هل تعتقد أنك ستصل يوماً ما؟..
ـ لا يهمني أن أصل.. المهم أن أموت وأنا أحاول الوصول..
ساد الصمت بينهما برهة .. ثم قطعه الودود بلا أي ود:
ـ قبل لي الصغير حينما يستيقظ..
قال حسن وهو يقوم عنه :
ـ سأفعل لكن ليس من أجلك..
نهض الودود وعدل من هندامه قائلاً:
ـ أحرص على الفرار بعيداً.. لأن العد التنازلي لحياتك سيبدأ من اللحظة التي أغادر فيها وحدتك.
ـ بعيداً.. إلى أين؟
ـ المكان الوحيد الذي يصلح لأمثالك هو الصحراء..
وقف حسن يرمق عماد وهو نائم .. تذكر كلام مبعوث المتمردين وشعر بغصة في حلقة.. لا فائدة من البقاء في هذا العالم حقاً..
حتى لو نجا بمعجزة ما من المتمردين، فلن ينجوا من شكوك المخابرات العسكرية.. ربما قام المتمردين بالوشاية به للمخابرات العسكرية، فهذه طريقة معتادة لديهم للتخلص من بعض أتباعهم المتمردين.. متمردين على المتمردين!..
ولو نجا من ذاك وتلك وظل خاضعاً للنظام العالمي فسيكبر ولده وسينشأ إما نخبويا ً غارقاً في دنيا الشرائح الذكية كأمه، وإما متمرداً.. وهو لا يريد له ذاك أو تلك..
الصحراء.. ولم لا..
ـ أرحل وحدك..
هكذا قالت له عفاف وهي تحول بينه وبين غرفة الصغير النائم..
كان حسن قد نزع عن نفسه الشرائح الذكية بعد أن قام بالتشويش عليها واستعد لتحرير ولده الوحيد حينما وصلت عفاف.. لم يخبرها بما دار بينه وبين مندوب المتمردين، لذا بدا لها قراره نتيجة حتمية لانغماسه في كتب الماضي.. الجنون.. جنونه سيضيعها وسيضيع ولدهما الوحيد..
قال :
ـ هذا ابني وأنت زوجتي .. يجب أن تطيعني..
ـ أنت مخبول.. تريدني أن أتبعك إلى الصحراء.. تريد لابننا أن ينشأ بين العقارب والحيات.. يعود للعصر الحجري.. عماد هو أملي.. سأربيه جيداً.. سأجعله أفضل مني ومنك..
قال في مرارة :
ـ كيف سيكون أفضل في ظل النظام العالمي؟
ـ النظام العالمي هو الضمان الوحيد لحياة أفضل..
كانت تتكلم وخلفها على الجدار شعار النخبة..
ـ سآخذ ولدي بالقوة..
هنا فوجئ ببريق السكين الضخم يلوح في يدها المرتعشة .. كانت تتكلم بشراسة واللعاب يتناثر من فمها مع الكلمات:
ـ مرحباً بك في النظام العالمي الجديد أيها الرجل الحجري.. أنت لن تستطيع لمس شعرة واحدة من ولدك.. سأخبرهم عن تعطيلك للشرائح الذكية.. سأخبرهم عن آرائك في النظام العالمي.. سأخبرهم بكل شيء.. كل شيء..
نظر لها في ذهول.. شعر أنه يواجه وحشية النظام العالمي الجديد في صورة زوجته .. أنها تنتمي إلى هنا ولا لشيء أخر.. أما هو فغير منتم..
ربما كان رحيله منفرداً حل مريح لجميع الأطراف.. ابنه سيتربى مع أمه على كل حال ولا أحد يدري ما في غد.. المتمردون لا يريدون إلا رأسه هو..
حسن شعيب أنت ورم خبيث لابد أن يستأصل من النظام العالمي..
ـ ماذا ستقولين لابننا حينما يستيقظ؟
أجابت ببرود وهي لم تتخل بعد عن سكينها:
ـ سأجعله يدعو لك بالرحمة..
غادر حسن عالم النخبة بلا شرائح بلا أمل في أي مستقبل.. غادر عالم المدنية الذي نشأ به وترعرع إلى الصحراء المترامية.. يجوبها بسيارة عتيقة مكشوفة هي أخر ما كان يملك..
عاد إلى الطبيعة التي حرم منها البشر.. يتمتع فيها بالحياة على طبيعتها بلا ملوثات ذكية أو رقمية..
حياته العسكرية السابقة أهلته للتغلب على قسوة الصحراء، بل على ترويضها.. شعر في ذلك الكوخ الذي ابتناه لنفسه في قلب الصحراء لأول مرة بأنه إنسان على فطرته التي خلقه الله عليها ..
في الليل يجلس ليرقب النجوم التي تؤنس وحدته، ثم يعود إلى جوال الكتب التي أحضرها معه.. كتب لم يعد لها وجود ولا قيمة في عالم النخبة.. الثقافة هنا جاهزة مثل الأكلات الجاهزة.. يتم شحن الدماغ بها عن طريق الشرائح اللعينة.. لست بحاجة للكتب التي تذكرك بالماضي الذي كان.. الماضي لم يكن وإن توهمت أنه كان.. النخبة هي الماضي والحاضر، هي هناك منذ الأزل وستبقى إلى ما لانهاية..
كم مرة وقف وحده في قلب الصحراء يصرخ بالحل، فلا يجيبه إلا صدى صوته الملتاع..
الحل هنا..
الحل سهل ممتنع لكن لا أحد يفهم.. ويتلفت حوله فلا يجد سوى الصحراء المترامية .. لا أحد يفهم لأنه لا يوجد أحد غيره أصلاً..
يعود للرقاد وتأمل النجوم .. يغلبه النعاس فيحلم بأحلام عجيبة..
إنه يحاول أن ينقذ عماد من مصير أسود .. إنه يذوب كالملح في حساء النخبة .. والنخبة تتناوله بملاعق ذهبية عملاقة..
هناك صرخات حادة ملتاعة يائسة تأتي من لا مكان .. والنخبة تتناول حسائها بلا اكتراث ..لكن هذا ليس صوت عماد .. إنه صوت أنثى.. تنتبه حواسه أخيراً فيفتح عينيه ويبدأ في إدراك ما هو حلم وما هو حقيقة..
هذا صوت أنثوي يستغيث بالفعل وقد تداخل مع الحلم.. هناك غرباء قد اقتحموا نطاق عالمه الخاص..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-28-2019, 03:04 PM   #21
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(2)

التقط بندقيته وغادر الكوخ محنقاً..
ظل يمسح بعينيه المرهقة الصحراء القاحلة، هناك على مسافة لا بأس بها توجد سيارة متوقفة تنبعث منها الأضواء. إنه محنق لأن عالمه الخاص قد اخترق من قبل الغرباء، يحدث هذا على فترات متباعدة فليس وحده المتشرد هنا.. لكنه الوحيد الذي يتشرد لمبدأ..
الجديد هنا أن هناك أنثى حمقاء واقعة في مشكلة ما..
السيارة مكشوفة كسيارته، وبجوارها مجموعة من المتشردين يطوقون فتاة في مقتبل العمر مهلهلة الثياب ومنكوشة الشعر.. كانوا في قمة الانبساط والضحك وهي تسبهم وتضربهم ..
إنهم مستمتعين بضرباتها.. يعرفون أنها تلعب بقواعدهم هم.. سينتهون منها حينما يملون اللعبة.. نفس منطق النخبة..
هاجت مشاعره وغلى الدم في عروقه .. لقم البندقية وضغط على الزناد فانتفضوا جميعاً.. وقبل أن يتحرك أحدهم سمعوا صيحة حسن التحذيرية :
ـ ضعوا أيديكم فوق رؤوسكم..
بادر الجميع وبلا تردد إلى أمره حتى الفتاة المعتدى عليها، و قبل حتى أن يروه قادما نحوهم وهو يصوب بندقيته بإحكام..
تمتم الأول :
ـ من هذا العجوز؟..
همس الثاني :
ـ يبدو إسماعيليا..
أما الفتاة فقد وقفت تتأمله وهو يقترب بخطوات واسعة ثم قالت لهم بنبرة ساخرة:
ـ الإسماعيليين لا يسمحون بإهانة امرأة في أرضهم..
زجرها الثالث قائلاً :
ـ إنهم يرجمون الساقطات كذلك..
انتهى حسن إليهم فأشار للفتاة كي تخفض يدها، ثم التفت باشمئزاز لبقية المجموعة.. هو يعرف هذه النوعية التي تحيا على هامش الدنيا.. هؤلاء الحثالة لم يقدروا على العيش داخل نظام النخبة ولم ينضموا للمتمردين لأنهم لا مبدأ لهم ولا هدف.. يقضون الساعات في التسكع والعبث بالصحاري.. ربما عثروا على شيء ما يخطف من هنا أو يسرق من هناك.. لقد عانى من أمثال هؤلاء المتشردين كثيراً حينما وفد إلى الصحراء أول مرة .. كان هذا قبل أن يعلمهم الأدب طبعاً..
هتفت به الفتاة :
ـ يريدون سرقتي؟
هتف الثالث :
ـ أنها تكذب عليك يا رجل .. إنها كذابة أبنة..
قاطعة حسن بصرامة:
ـ لا تتطاول عليها أمامي..
ثم أشار للفتاة فلحقت به، واحتمت بظهره منهم، فلم يرها وهي تخرج لسانها لهم.. أشار لهم بالبندقية صائحاً:
ـ سأعد حتى ثلاثة.. إذا لم تغادروا بعدها.. فلن تغادروا أبداً.. واحد..
انطلق ثلاثتهم نحو السيارة وأولهم يصيح في جزع:
ـ حسناً يا أبت فقط لا تتعصب هكذا..
واصل حسن بصرامة :
ـ اثنان..
وثب الرجلان الباقيان إلي السيارة والأول يدير محركها بسرعة هاتفاً:
ـ هيا أيتها اللعينة..
ونظر لحسن في بغض وحرك شفتيه بكلام غير مسموع خمنه الأخير بالطبع.. صوب البندقية نحوهم وهو يهتف :
ـ ثلاثة..
وانطلقت سيارة الأوغاد الثلاثة مثيرة خلفها عاصفة من الغبار..
خفض حسن بندقيته ثم أطلق زفرة حارة.. دار على عقبيه ليتأمل عن كثب الفتاة التي وقفت خلفه وهي تبتسم له بامتنان.. أشار باتجاه كوخه قائلاً :
ـ كوخي على مقربة من هنا.. ستكونين فيه بأمان..
ـ لو كنت مكانك لأطلقت النار عليهم مباشرة..
ـ الحمد لله أنك لست في مكاني..
مشت خلفه وهي تقول :
ـ أنت شجاع..
ـ هل كنت تعرفينهم؟
باغتها السؤال فهزت كتفيها قائلة :
ـ ر.. ربما..
غمغم وهو يواصل المشي صوب الكوخ :
ـ أنا لا أريد مشاكل هنا..
ـ كنت أقول لك أنك عجوز شجاع..
ـ وأنت فتاة خرقاء تجوب الصحاري مع حفنة من المتشردين.. أليس لك أهل؟
ـ لقد كنت تهددهم ببندقيتك منذ قليل..
توقف وقال لها بدهشة :
ـ هؤلاء الحثالة أقاربك؟..
ـ ليس تماماً.. لقد نشأت بينهم ولا أعرف لي أحد سواهم..
هز رأسه في فهم ثم واصل المشي ..
إنه يعرف حياة الضياع تلك.. يوماً ما خشي على ولده الوحيد من مثل هذا المصير.. ربما كان مصيراً أسوأ من مصير الاندماج مع النخبة أو مع الثوار على النخبة.. التشرد..
وصلوا إلى الكوخ.. دخل وأشار لها لتجلس على الفراش.. الكوخ ليس به مقاعد.. فراش وطاولة وكتب متناثرة هنا وهناك..
ـ ما اسمك؟
تساءل وهو ينظر لها بتركيز .. قالت وهي تتثاءب:
ـ لوسي..
ـ تشرفنا.. وأنا حسن..
ـ تشرفنا.. هل أنت متشرد؟
ـ نعم.. ولا..
ابتسمت له بركن فمها، فشعر بشيء يختلج في صدره.. هذه لا تعدو كونها طفلة غريرة.. ضحية أخرى من ضحايا النخبة الأممية.. وهي كذلك في عمر ولده عماد.. قال لها موضحاً عبارته :
ـ متشرد بمعنى لا أهل ولا وطن فنعم .. أما على طريقتك أنت وعائلتك اللطيفة فلا..
هزت رأسها في فهم وإن كانت لم تفهم شيئا.. سألها:
ـ هل أنت جائعة؟..
قالها ولم ينتظر إجابة.. ألقى إليها بفخذ أرنب، وجلس يرقبها وهي تأكل بنهم.. كانت جائعة.. متشردة.. ولم تستحم منذ دهور..
وكان بداخله صراع محتدم بين شعورين متنافرين.. شعور نحوها بالشفقة البالغة.. وشعور نحو نفسه بأنه أحمق كي يأمن لمتشردة مثلها في كوخه..
قالت لما رأته يطيل النظر إليها :
ـ هل ستتركني أبيت هنا الليلة؟
ـ بشرط..
هزت رأسها مستفهمة.. فأكمل :
ـ أن تستحمي أولاً..
بدا على وجهها الذعر وعدم التصديق.. لم تتوقع أن يكون العجوز بهذه القسوة البالغة كي يطلب منها الاستحمام.. أخيراً ابتلعت ريقها وقالت باستسلام:
ـ من أين تأتي بالماء هنا؟
ـ هناك بئر قريب عدة كيلومترات من هنا..
ـ وتملك بئراً ؟!
ـ هو ملك لبعض أصدقائي من البدو..
سكتت هنيهة.. ثم عادت تسأله بمسكنة وهي تهرش في شعرها المنكوش :
ـ لابد أن أستحم؟
فرك عينيه قائلاً :
ـ هذا شرطي الحالي..
ـ وستحميني من عصابة دان؟
عصابة.. ودان.. تذكر ملامح الرجال.. إنهم ليسوا متشردين عاديين.. إنهم إحدى العصابات اليهودية التي تعج بهم الصحراء .. هذا ما كان ينقصه..
ـ هل تعتقدين أنهم سيعودون؟
ـ لن يتركوني بسهولة..
ـ ماذا أخذت منهم؟
فردت كفيها أمامه قائلة في براءة :
ـ لا شيء..
نظر لها بمعنى : أنت تكذبين.. فابتسمت له برقة جعلت قلبه يخفق من جديد.. غريبة تلك الفتاة .. تجمع بين التشرد والرقة في آن..
قال لها بلهجة أبوية كان مفتقدها منذ زمن :
ـ تعرفين.. ربما أمكنك المكث هنا لفترة أطول.. لكن عليك أن تتخلي عن حياة التشرد مع عصابة دان وغيرها.. سأعطيك فرصة ربما لن تتكرر..
قالت وهي تجول ببصرها في أرجاء الكوخ واضعة كفيها في خاصرتها:
ـ يمكنني أن أنظف لك الكوخ وأطهو لك الأرانب..
ـ وأنا يمكنني أن أنظف لك عقلك وأجلي لك بصرك..
التفتت إليه بدهشة..
ـ أنت تتكلم بطريقة غامضة وغير مفهومة..
ـ ببساطة.. سأعيد تربيتك من جديد.. لتكوني فتاة صالحة..
ـ هذا أغرب ما سمعت من رجل..
سكت برهة وهو ينظر إليها طويلاً.. كان يلمح عبر بريق عينيها صورة باهتة لولده عماد.. ودون أن يشعر وجد نفسه يهمس لها :
ـ لا أدري لماذا الآن يا لوسي؟.. لا أدرى..
نظرت له في غباء، فأطرق هامساً لنفسه :
ـ لكن.. الحمد لله على كل حال..
اقتربت منه ومالت عليه سائلة :
ـ تعرف الله؟..
ظهر الإعياء على وجهه فجأة فصاحت به :
ـ ماذا دهاك؟
ـ لا شيء فقط ستقتلينني برائحتك.. متى استحممت أخر مرة؟
تراجعت للخلف، ثم أخذت تعد على أصابعها ناظرة للسقف، فوثب بها حسن وجرها من يدها ناحية الفراش..
ـ لا أريد أن أعرف..
ثم انحنى ليسحب طست ضخم من أسفل الفراش مردفاً:
ـ هذا هو المغطس الخاص بي.. سأحضر لك الماء وسأتركك لتنعمي بحمامك ..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-30-2019, 12:22 AM   #22
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


(3)

جلس خارج الكوخ يحاول إشعال جذوة من النار يصطلي بها..
حينما ابتعد عن الفتاة انتابه شعور بالسخف.. ماذا يظن نفسه فاعلاً؟..
لوسي بقايا إنسان.. سيستيقظ في الصباح ليجدها قد سرقته وفرت..
صحيح هو ليس لديه شيء يسرق.. لكنها ستجد ما يصلح حتماً.. ربما ذبحته وباعت جثته لمن يريد قطع غيار بطريق غير شرعي..
ربما كانت تلك التمثيلية كلها مع رفاقها من أجل ذلك في النهاية..
حتى هنا لا تتركك أدران النخبة لحالك..
بعد قليل خرجت الفتاة وهي ترفل في أحد ثيابه بعد أن غسلت ثيابها وتركتها لتنشف.. نظر إليها فوجدها زهرة برية تتحسس طريقها بين عالم من الأشواك القاسية.. وفي لحظة تلاشت من رأسه كل أفكاره السوداء تجاهها..
ـ عماد كف عن ارتداء ثياب والدك إنها لا تناسبك..
ـ حينما أكبر ستناسبني حتماً..
ـ دعيه يا عفاف..
ـ الثياب ستتسخ..
قالت لوسي وهي تمشي بحرص:
ـ سأغسلها لك..
نظر لها وهي تتحرك بحرص كي لا تفسد الثوب ثم جلست بجواره أمام النار.. قال لها ووهج النيران ينعكس على تعبيرات وجهه :
ـ لقد تغيرت مائة وثمانون درجة..
ضحكت قائلة:
ـ لن يعرفني دان لو عاد ليأخذني..
ـ يبدو أنك مهمة جداً بالنسبة إليهم..
ـ في عالمنا تستعمل الفتاة كطعم جيد للإيقاع بالحمقى..
قال وهو ينكت في النار بعود :
ـ لكن ليس كل الحمقى يطلبون منك أن تستحمي كذلك..
ضحكت وقد فهمت ما يرمي إليه.. قالت وهي تمرر يدها في شعرها الملتوي كالحلقات :
ـ لقد كنت على وشك إطلاق النار على رجال دان .. لا أظن أن هذا كان جزءاً من الطعم..
ـ كانوا يريدون شيئاً منك.. شيئاً سلبتيه إياهم..
ـ لم أسلبه منهم.. لقد حصلت عليه بنفسي.. وهم يريدون مشاركتي فيه؟
ـ ما هو؟
مدت يدها في جيب سترته وأخرجت شيئاً في راحتها.. حينما نظر إليه حسن أدرك أنه لم يبتعد كثيراً عن أعين النخبة..

***

لم يصدق دان حينما أخبره المتشردين الثلاثة بما حصل مع لوسي..
كان جالساً باسترخاء أمام كوخه القذر.. وحوله تلال من السيارات القديمة المكومة فوق بعضها البعض، وقطع متفرقة من روبوتات وشاشات حاسب وأجهزة بث ثلاثي الأبعاد، وأثاث منزلي متابين بين العتيق والمتوسط والحديث..
أما دان نفسه فكان في العقد السادس ممتلئ الجسد قليلاً وله عينان خضراوان وبشرة لوحتها الشمس.. وقد كان رد فعله مدهشاً حينما أخبره الرجال العائدون بما جرى.. لقد أوسعهم ركلاً ولكماً وسباًً وبصقاً..
إنه لا يصدق أن لوسي التي رباها على يديه قد فرت بصحبة عجوز إسماعيلي..
ـ لابد أنه قد حدث لها مكروه يا أولاد الأفاعي..
صاح أحدهم وهو ينحني ليتفادى لوح من الصاج قذفه دان في وجهه:
ـ بل قد طمعت في بعض الشرائح التي نتعب ونكد حتى نحصل عليها من أجلك..
ـ وتتهمونها بالسرقة أيضاً!
وحمل أسطوانة غاز وهم أن يقذفها عليهم، لولا أن توقف فجأة وترك الأسطوانة، و بدأ يهدأ.. هو يعرف أن لوسي تربيته.. وبما أنه لص كبير فلا ينبغي أن ينتظر من تلميذته أن تصير قديسة.. بل هو يعرف أنها لن تتورع عن سرقة أحشائه نفسها لو كانت ذات فائدة لها..
قال بصوت أقرب للبكاء :
ـ أريد شرائحي..
ـ إننا نحفظ مكان الكوخ التي تقيم به..
هرش تحت إبطه في غل قائلاً :
ـ كم عددهم يا شامير؟..
قال المدعو شامير:
ـ إنه مجرد رجل واحد ومسن..
تدخل ثان قائلاً :
ـ لكنه يبدو قوياً ومحنكاً..
ركل دان الأرض صائحاً :
ـ وأنا أريد شرائحي أيها الأوغاد..
ثم أشار إليهم بسبابته واحداً تلو الأخر وهو يردد أسمائهم :
ـ شامير.. ديفيد .. إيزاك.. إعادة الشرائح والفتاة هي مسئوليتكم..
سأله المدعو ديفيد:
ـ والعجوز؟
لوح بذراعيه صائحاً :
ـ لا مكان للعجائز..

***

كانت بالفعل مجموعة من الشرائح الذكية تم لفها بشريط لاصق..
نهض كالمجنون وانتزعها من يدها صائحاً :
ـ لو كنت أعرف أن هذه الأشياء معك لما سمحت لك بالدخول هنا..
ثم ألقاها في النار أمام عينيها الذاهلتين..
ـ مجنون..
قالتها وهي تنهض وعيناها تتسع لمشهد الشرائح وهي تتموج وتذوب في قلب النار..
ثم وثبت عليه في توحش وهي تصرخ :
ـ أنت عجوز مجنون..
أمسك يدها ولوى ذراعها قبل أن تخمش وجهه بمخالبها.. بدت له كهرة صغيرة متنمرة لا أكثر..
ـ هذه الأشياء تتجسس علينا..
ـ هذه الأشياء تساوي مالاً يا أحمق..
دفعها لترتطم بجدار الكوخ قائلاً :
ـ أنا في مثل سن أبيك..
اعتدلت وهي تكور قبضتيها كأنها ستعاود الهجوم عليه.. ثم قررت أن تتراجع وهي تصرخ بغيظ :
ـ لن أبيت معك.. أنت عجوز مختل..
أشار إلى ثيابه التي ترتديها ..
ـ ردي إلي ثيابي إذن..
ـ إليك ثيابك اللعينة..
قالتها وهي تخلع الثياب عنها وتقذف بها في وجهه حتى وقفت كيوم ولدتها أمها.. أشاح حسن بوجهه عنها هاتفاً:
ـ يا معتوهة..
لكنها انطلقت مبتعدة وهي تسبه وتلعن اليوم الذي رأته فيه.. وظل هو واقفاً ينظر لقدميه متردداً.. هل يلحق بها أم يتركها لمصيرها.. تخيل فتاة مثلها تجوب الصحراء عارية.. ما المصير الذي ينتظرها؟.. خصوصاً بعد أن استحمت!..
ركل الحصى بحذائه ثم عاد للجلوس أمام النار وهو يزفر.. نظر لألسنة اللهب وهي تتمايل وهمس لنفسه:
ـ مرة أخرى تفشل في أن تكون أباً يا حسن..

***

حينما هم لإطفاء النار والعودة لفراشه لمح خيالها في الظلام يتسلل إلى الكوخ.. انتظر حتى تأكد أنها ارتدت ثيابها، ثم دخل عليها قائلاً:
ـ الثياب لم تجف بعد؟
ـ وما شأنك أنت؟
اقترب منها وقال مبتسماً :
ـ الثياب المبتلة قد تؤذيك..
نظرت له باستغراب ثم هزت رأسها بلا معنى واتجهت لباب الكوخ..
استوقفها قائلاً :
ـ ستعودين لعصابة دان؟
ـ لماذا تهتم؟
ـ لو كانت لي أبنة مثلك لما تركتها تذهب إلى وغد مثل دان.
أدارت وجهها إليه فرأت وجهه متأثراً.. بدا لها عجوزاً تعساً رغم جسد المشدود وبنيته القوية.. مجرد عجوز أصلع الرأس، والذي بقي من شعره على جانبي الرأس لم يتركه الشيب وشأنه..
قالت وقد هدأت حدة لهجتها نوعاً :
ـ ربما عدت لدان.. وربما بحثت عن غيره..
فرك حاجبيه بأنامله كالمرهق وقال :
ـ هذه ليست حياة يا لوسي..
ـ وأنت هل لديك حياة مختلفة؟
سكت قليلاً فظنت أنها أفحمته.. لكنه عاد ليقول لها في صرامة مفاجئة:
ـ أنا اخترت تلك الحياة على الأقل..
ـ اخترت أن تكون متشرداً مثلي؟
ـ قلت لك أنا لست متشرداً مثلك.. أنا أحيا في الصحراء بعيداً عن النظام العالمي الذي أفرز أمثالك من المتشردين يعيشون على هامش الحياة.. يسرقون وينهبون ويفرون في الصحراء.. هدفهم حيواني بحت.. البقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة..
سألته بدهشة:
ـ وهل لديك هدف أخر في الحياة؟
جذب نفساً عميقاً قبل أن يجيب :
ـ بلى..
سألته بلهفة:
ـ وما هو؟
قال بهدوء :
ـ إجابة هذا السؤال قد تحتاج وقتاً طويلا..
هزت كتفيها قائلة :
ـ ليس لدي ما أقوم به حالياً..
أشار للخارج وقال بلكنة ساخرة :
ـ ربما عليك أن تلحقي بدان وعصابته.. قد يحالفك الحظ ويغفر لك سرقة الشرائح.. لكن لا أدري ماذا سيفعل لو علم أن الشرائح قد ذابت في النار..
قطبت جبينها قائلة:
ـ هل ستتركني أعود إليه ليقوم بربطي بسيارته ويجوب بي الصحراء..
أولاها ظهره كي يداري ابتسامته..
ـ بابا أنت لن تتركني هه؟
ضم شفتيه وهو يغمغم :
ـ ممممم.. دعني أفكر..
احتضن عماد ساقيه وهزه صائحاً :
ـ بل لن تتركني.. لن تتركني.. لن..
هنا لا يتمالك نفسه .. ينفجر في الضحك وهو يستدير ليرفعه عالياً و..
اختل توازنه فاستند على قائم الفراش كي لا يسقط.. تسأله لوسي:
ـ هل أنت بخير؟
قال وهو يحاول أن يبدو متماسكاً :
ـ أنا بخير يا لوسي..
وسكت قليلاً وهو ينظر إليها بثبات جعلها ترتبك..
قال بلهجة حانية محت ارتباكها ليحل محله إحساس غامض:
ـ ولن أتركك.. لن أكرر نفس الخطأ مرتين..
تأملته الفتاة كأنها تنظر له لأول مرة.. ولا تدري سر ذلك الإحساس الغامض الذي داهمها وهي تنظر لعينيه المنهكتين التي تشع طيبة وحنان وإرهاق..
هذا العجوز البائس بحاجة ماسة إليها وهي أيضاً بحاجة ماسة إليه..
لذا ستبقى..

***

افترش أمام باب الكوخ ووضع بندقيته تحت الوسادة المحشوة بالقش والخرق القديمة، حملق في سجادة السماء المرصعة بالنجوم وتنهد.. سبحان الله.. كيف بدأ يومه وكيف انتهى؟ بالأمس كان سيد هذا المكان بلا منازع.. والآن صار بواباً لفتاة متشردة من قلب الصحراء..
لم يكد يغمض عينيه حتى سمع صوت محرك سيارة يأتي من بعيد.. قبضت يده على البندقية بتلقائية وغمغم من بين أسنانه وهو مغمض العينين :
ـ بدأنا..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-30-2019, 11:19 PM   #23
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


(4)

حينما وصلت الأشباح الثلاثة إلى الكوخ لم يكن هناك أثر لحسن على باب الكوخ..
توقعوا أنه غافي بالداخل مع الفتاة منذ البداية؛ لذا استعدوا بأسلحتهم لاقتحام الكوخ وتصفيته بسرعة، واستخلاص الفتاة والشرائح..
وهكذا وقف ديفيد بالخارج بينما اقتحم شامير وإيزاك الكوخ شاهرين أسلحتهم..
ـ لا أحد بالداخل!
هنا جاوبهم صوت عظام تتحطم بالخارج، مع صوت صرخة مكتومة..
حينما غادرا الكوخ وجدا زميلهما ملقى على الأرض مهشم الأوصال، وقد استلب منه سلاحه..
ـ ديفيد ماذا حدث؟..
جائم الجواب من الخلف حينما سمعا تكة السلاح المميزة مع صوت حسن يطلب منهما إلقاء السلاح..
ألقيا السلاح بلا تردد واستدارا ببطء.. وجدا حسن يصوب إليهما سلاح ديفيد وهو يقول بهدوء:
ـ بالنسبة لرفيقكم فقد كسرت ذراعه اليمنى وساقه اليسرى.. لكنه قد يكون أسعد حظاً منكما لو حاولتما إغضابي..
ـ لا تنفعل هكذا يا أبت..
قالها إيزاك مصطنع المزاح، فقال له حسن بصرامة :
ـ أبحث عن أبيك بعيداً عني يا هذا.
ابتلع إيزاك لسانه ونظر لشامير مستنطقاً إياه..
وضع الأخير يديه فوق رأسه وصاح بصوت مبحوح:
ـ لم نأت لإيذائك يا أبت.. فقط أردنا الفتاة والشرائح..
ـ الفتاة لا تريدكم.. والشرائح قمت بحرقها بنفسي..
هنف إيزاك محنقاً:
ـ تباً.. هذا سيغضب دان..
قال له حسن ببرود :
ـ سأعد حتى ثلاثة.. أريدكما خلالها أن تحملا رفيقكما وتغادرا المكان..
صاح شامير في ذعر :
ـ لا ليس ثانية .. ثلاثة قليل جداً يا رجل.. لن أتمكن من أن..
قاطعه حسن ببرود:
ـ واحد!

***

ـ لقد رأيتك من بعيد وأنت تهشم عظام ديفيد.. أين تعلمت أساليب القتال تلك؟..
دخل حسن الكوخ فألقى قطع السلاح التي غنمها في ركن، والتفت إليها حيث هرولت خلفه.. قال لها :
ـ لقد خدمت في شبابي في الجيش..
كورت لوسي قبضتيها ووقفت وقفة قتالية مضحكة وهي تقول بحماس طفولي :
ـ لن أدعك حتى تعلمني..
أشار إلى فراشه الذي هجره من أجلها وقال :
ـ نامي الآن وفي الصباح سأعلمك كل شيء..

***

العجوز يعرف الكثير فعلاً..
هذا ما تأكدت منه في الأيام التالية التي قضتها معه.. لم تتركه حتى علمها كيف تدافع عن نفسها بسلاسة حتى وإن كان من يهاجمها كل عصابة دان دفعة واحدة.. فستعرف كيف تحولهم إلى حفنة من ذوي العاهات في ثوان.. هذا هو الإحساس الذي داهمها بعد كم التدريبات التي لقنها إياها..
قال لها :
ـ لا يهم كم عدد من يهاجمك.. ولا يهم مقياس قوتهم إلى قوتك.. المهم هو هنا..
وأشار إلى جهة قلبها..
ـ عقلك وهدوئك هو المقياس الحقيقي لقوتك.. احترسي من الخصم العاقل والهادئ، وإن كان أقل منك قوة، بأكثر مما تحترسين من القوي الأحمق والغضوب..
لم تنتهي دروسها مع العجوز على تعلم فنون القتال بالأيدي أو بالسلاح وفقط ..
لقد رأت منه أشياء أعجب وتعلمت منه أشياء أخرى لم تكن تجري بخاطرها..
كانت تحب مراقبته وهو يصلي، وتنصت إليه وهو يقرأ بصوت رخيم في كتاب صغير يدعوه مصحفاً..
سألها مرة عن ديانتها فقالت أنها لا تدري..
قال:
ـ توقعت أن تكوني يهودية مثلاً..
ـ من أجل دان وعصابته من اليهود؟.. أنا لا أعرف لي دين معين منذ وعيت على الدنيا..
ـ ملامحك عربية.. من يدري ربما تكونين مسلمة على الأرجح..
قلبت شفتيها وهي تهز كتفيها بمعنى أنها لا تدري.. ولا تعبأ..
نظر لها ملياً ثم سألها :
ـ هل تمانعي لو اخترت لك اسماً عربياً غير اسمك هذا؟
فاجئها السؤال.. فكرت قليلاً ثم ردت بسؤال :
ـ وماذا ستسميني؟
نظر للصحراء الممتدة كأنه يستلهم منها اسماً ، ثم عاد ليهمس لها :
ـ ليكن .. ليلى..
قالت باسمة :
ـ إنه قريب من لوسي..
هز رأسه ببطء نافياً ..
ـ شتان..
ساد الصمت بينهما برهة، ثم خطر لها سؤال فقالت:
ـ ما معنى أن أكون مسلمة؟
جذب نفس عميق ثم أغلق المصحف ورد على سؤالها بسؤال:
ـ ما هو هدفك في هذه الحياة؟..
ـ هدفي أن أحيا آكل وأشرب وأنام ملء جفوني..
ضحك وقال:
ـ هذا هو هدف سائر البهائم والحيوانات يا ليلى.. أما البشر فقد خلقوا لغاية وهدف أسمى.. أمانة عظيمة تحملها الإنسان وأشفقت منها سائر المخلوقات.. لكن ذلك الهدف وتلك الغاية طمست معالمها في غالب عقول البشر..
فتحت عينيها وقلبها لكلامه.. تلاشت الصحراء القاحلة من حولهما وحلت محلها مروج خضراء وينابيع عذبة.. شعرت بحلاوة في حلقها، فقالت لنفسها ذلك هو مذاق الحياة الحقيقية التي لم تعرفها.. لأول مرة تشعر بكينونتها.
طلبت منه المزيد، ففتح لها كتب في الدين والأدب والتاريخ، فتح لها باباً على دنيا عاشتها لعقدين من الزمان، ولم تعرفها..
تحت فروة رأس ذلك العجوز يوجد كنز أغلى من الشرائح التي عملت على سرقتها مذ نشأت مع عصابة دان..
أعطاها نبذ من تاريخ العالم القديم والحديث، كيف بدأت الدنيا وإلى أين صارت بالبشر في دوامات من المحن والابتلاءات والدسائس والمؤامرات، حكى لها عن النخبة الحاكمة أصلهم وفصلهم، كيف سيطروا على مقاليد الأمور في العالم، وصهروا الدول والشعوب والقبائل والطوائف تحت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ثم صاروا هم يفرقون ويميزون بين البشر، درجات وشرائح بعضها فوق بعض، وهم وحدهم على قمة هرم النظام العالمي..
استيقظ العالم على نظام هو أبشع ما توصلت إليه قرائح الطغاة عبر العصور..
استغربت كيف يعرف كل هذا رجل يحيا وحيداً بالصحراء، إنه يعرف عن النظام العالمي أكثر من هؤلاء الذين يحيون ليل نهار يسبحون بحمده، أو حتى هؤلاء الذين يناصبونه العداء.. سألته عن حياته السابقة فحكى لها ماضيه مع النظام العالمي الجديد .. لعلها المرة الأولى التي يحكي فيها تلك التفاصيل لكائن حي.
ـ لماذا اخترت الصحراء؟
ـ لا يوجد أصفى ولا أنقى من جو الصحراء..
ـ وكذلك لا يوجد أقسى منها..
ـ النظام العالمي أشد قسوة .. أما الصحراء فهي أقرب لأب يقسوا على ابنه كي يصقله..
قالت له وهي تمسك بحفنة رمل، ترفعها أمام عينيها ثم تنثرها في الهواء:
ـ هل ترغب في أن يحذو الناس حذوك؟
قال وهو ينكت بعود في يده :
ـ لا أجد لهم طريقاً أخر..
ـ تريد من الناس أن يتركوا العمران والحضارة ويعودوا للصحراء؟
ـ أنا لا أدعو للتصحر.. أنا أدعوهم حيث كانوا أن يزيلوا غبار القرون الذي علا فطرهم .. لقد لذت بالصحراء لأنها كانت أرحم بي من الخلق.. حتى من أقرب الناس إلي.. ولو وجدت يد حانية في عالم العمران والحضارة لما جئت لهنا..
قالت بشفقة تسللت كقطرات الماء العذب عبر شقوق روحه العطشى:
ـ تحيا هنا بلا أنيس ولا جليس؟
هز رأسه نافياً، وقال:
ـ لم أعد كذلك يا ليلى..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 07-02-2019, 10:54 PM   #24
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي




(5)

أخذها بسيارته المكشوفة إلى مخيمات البدو التي تقبع بالقرب من كوخه.. قال لها أن هناك عقيقة وهو مدعو إليها، لم تفهم ما هي العقيقة لكنها أدركت أنه سيكون هناك الكثير من لحم الضأن..
كانت تخشى مثل تلك الرحلة فحياتها مع عصابة دان علمتها أن البدو هم أعدائها الطبيعيون.. حاول أن يطمئنها فقال لها أنهم من بقايا الزمن الغابر الذي لم يتلوث بمعاول الحضارة بعد.. ربما لضيق ذات اليد.. وربما لأن جيناتهم ترفض عالم النخبة المعدني البارد الخالي من الحياة..
بعكس الصحراء التي تشعرك بأن كل ذرة رمل فيها لها حياتها المستقلة وإن امتزجت مع مثيلاتها لتنسج تلك السجادة الصفراء الشاسعة التي يفترشونها صيفاً وشتاءً..
كان يحمد الله على أن يد النخبة الطائلة لم تصل بعد إلى الصحراء.. الصحراء هي المكان الوحيد الذي يهمله الطغاة غالباً ولا يلتفتون إليه..
حينما وصلوا إلى مخيمات البدو رأت ليلى حشد من الأطفال الصغار حفاة الأقدام باسمي الثغور يعدون ناحيتهم مهللين.. ولم يكد حسن يترجل حتى أحاطوا به من كل جانب وجعل هو يضمهم إليه بحنان جارف، كأنها عودة أب غائب لأولاده من صلبه. إنه يحفظ أسمائهم جميعاً ويسأل كل منهم عن حاله وحال أبيه، كم حفظت من القرآن يا على؟ أنت تتقدم على أقرانك يا فتى، وأنت يا بلال؟
بدأوا يلتفتون لليلى بوجوههم المغبرة برمال الصحراء الطاهرة وعيونهم التي تشع ذكاءً.. كانوا مستغربين من رؤيتها مع صاحبهم الذي كان شعاره الوحدة والتفرد.. من هذه يا عم؟
ـ أختكم ليلى..
ـ أنت لديك بنات؟
يبتسم حسن وهو ينظر لليلى :
ـ رزقت بها منذ أيام..
قال لها وهم يمشون بصعوبة بين الرؤوس الدقيقة، أن هؤلاء الأطفال كنز المستقبل.. لقد نشأوا على فطرتهم بعيداً عن صخب العالم وملوثاته السمعية والبصرية، وبقليل من الجهد والمثابرة سينشئون رجالاً كما ينبغي أن يكون الرجال.. النموذج المثالي الذي تنهض بسواعده الأمم.. النموذج الذي يحلم به حسن..
البدو هنا لا يستوعبون كثيراً من كلامه هذا، لكنه لا يشعر باليأس أو الإحباط أبداً. يقول لنفسه: غداً سيفهمون، ويكفي أنهم يثقون فيه.. يعتبرونه حكيم الصحراء الذي يأتي إليهم بين الحين والحين لينثر عليهم فيض من حكمه التي لا تنتهي.. إنه الوحيد الذي يملك كتباً في هذا الجزء من العالم الذي كف عن القراءة منذ عقود، فسكان الصحاري قد عادوا لتلقي العلوم عن طريق السماع.. أما أن يكون مصدر علومك هو الكتب فأنت بالنسبة للبدو تعد علامة زمانك وأوانك؛ لذا كانوا ينصتون إليه ويحاولون فهمه قدر المستطاع، وهو كذلك كان يحاول تبسيط الأمور لهم قدر المستطاع.. كذلك لم تتوقف فوائده لهم على النواحي الثقافية فقط، فخبراته القتالية التي لم تفارق دمه إبان خدمته العسكرية، كانت مفيدة جداً لهؤلاء الذين يعيشون حياة قاسية لا تخلوا من الصدامات العنيفة مع عصابات الصحاري.. هؤلاء الذين جاءوا من شتى بقاع الدنيا بعد أن لفظهم النظام العالمي، ليجدوا لأنفسهم هنا مرتعاً خصباً للممارسة شتى أنواع الجريمة بلا رقيب أو حسيب..
لقد نقل حسن إلى البدو خبراته العسكرية النظامية، وجعلهم يفاجئون تلك العصابات بأساليب لم يألفوها في قتال الصحراء الذي يعتمد غالباً على الفطرة الصحراوية، لذا فقد عاد إليهم قدر كبير من الأمن والرخاء مع ظهور ذلك الرجل الغريب والفريد في حياتهم.
مجرد رجل واحد ووحيد، فماذا لو كان هناك دستة منه في هذا العالم؟ حسن كان يعتقد أن من هم على شاكلته لا يلتقون غالباً، لأنهم جميعاً هائمون على وجوههم في الصحاري والقفار، فارين بأرواحهم من هوس النظام العالمي..
وصلوا لخيمة شيخ البدو الذي استقبلهم بوجه بشوش وإن لم يفت ليلى تلك النظرة المستغربة التي رماها بها.. إنه عجوز متماسك مثل حسن، وهو سليل قبيلة عريقة يعرفها الأخير جيداً.. توقعت ليلى أنه سيثب بها متهماً إياها بسرقة بعض رؤوس الماشية العام الماضي.. هؤلاء البدو لا ينسون الوجوه بسهولة.. أما هي فتنسى دائماً وجوه ضحاياها.. لكن لم يحدث شيء لحسن الحظ.
سألته وهم يقدمون لهما القهوة العربية مع التمر، لماذا لم يقم معهم بدلاً من حياة الوحدة تلك؟ قال لها أنهم يرحبون به، لكنه يحب الاكتفاء بزيارتهم غباً ليزدادوا له حباً..
شيخ البدو لا يكف عن تجاذب أطراف الحديث مع حسن.. أحياناً يدور حديثهم عن أحوال القبائل.. مشاكلهم.. خلافاتهم.. ثم يتطرق الحديث إلى العالم الخارجي.. فالبدو يسترقون السمع من هنا وهناك وينقلون لحسن شذرات من أخبار العالم الذي هجره منذ زمان .. فينصت باهتمام شديد كأنه ينتظر أن يسمع خبراً من هنا أو هناك عن زوجته وابنه الوحيد .. ثم لا يلبث أن يهز رأسه محبطاً وهو يردد أن هذا كله عقوبة من الله..
لاحظت ليلى أن الشيخ صداح قد أسر لحسن ببعض الكلام.. أدركت أن الكلام عنها فاضطربت .. إن لم تكن لهم معها سابقة سرقة أو نصب، فغالب الظن أنه يوصي صاحبه بالحذر في التعامل معها..
بعدها دخل شاب يشبه صداح يحمل وليداً في قماطه.. ثم لم يلبث أن ناوله لحسن، فنظر الأخير في وجه الوليد، وسرحت خواطره بعيداً.. ـ ماذا ستسميه يا حسن؟
ـ عماد.. عماد الدين..
تلاشت الذكرى فوجد نفسه يحدق في وجه أبو الوليد.. سأله عن اسمه فقال :
ـ عابر ..
غمغم حسن :
ـ عسى أن يكون له نصيب من اسمه.. ويعبر بنا المحنة.
هز صداح رأسه ممتناً لدعاء حسن، وأمر بصب المزيد من القهوة .. سأله حسن أن يلقي عليهم بعض أبيات الشعر.. فالشيخ صداح يحفظ دواوين من الشعر العربي القديم بالسماع ويجيد فن الإلقاء كذلك.. أما حسن فكان من المتذوقين..
وجيء بشاتين فوضعتا في السفود على النار، ورأت ليلى أجمل مشهد شوي في حياتها.. لقد أكلت لحوم نيئة من قبل، وأكلت أطعمة فاسدة من مخلفات المقاطعات، لكنها لم تر مثل هذا المشهد البدائي الخلاب في آن..
فكرت في الهجوم على الشاة وهي على النار، لكنها أحجمت كي لا تسبب فضيحة لحسن..

***

انتحى الشيخ صداح بحسن جانباً وقال له:
ـ عرفناك دقيقاً في علاقاتك مع بني البشر.. فكيف انحدر بك الحال إلى مصاحبة فتاة من سن أولادك وهي ربيبة لعصابة يهودية..
أومأ حسن برأسه كأنما توقع ما سيقول ..
ـ لقد أنقذتها من هلاك محقق.. كادوا يفتكون بها لولا تدخلت.. ولما كانت من سن أولادي كما ذكرت.. قررت أن أمارس معها دور كنت مفتقده بشدة منذ عقود.. دور الأب..
ـ إنها فتاة متشردة؟
ـ القسمة والنصيب..
ـ وعصابة دان لن تتركك..
ـ إنهم جبناء كغالب بني جنسهم..
ـ أخشى عليك غدرة الجبان..
ـ الله المستعان..
قال صداح وهو يبتسم في مكر :
ـ أنت عجوز ..
بادله الابتسام قائلاً :
ـ أنت لم ترهم وهم يعدون أمامي كالأرانب البرية..
كان اللحم قد نضج أخيراً، فتوقفوا عن الكلام .. ليلى كانت تنتظر على أحر من الجمر الذي نضجت عليه الشاة.. ولما وضعوا أمامها اللحم الساخن لسعت لسانها بسبب عدم صبرها على اللحم حتى يبرد.. وظلت تتحدث بقية يومها بلثغة مثيرة للضحك..
بعدها أخذوها لخيمة الحريم فلم يرها حسن إلا حينما قرر أن ينصرف، ساعتها رآها تغادر الخيمة وهناك شال مطرز يكسو شعرها الثائر، وقرط متدلي من أنفها لم تكد تبتسم لحسن حتى سقط منها فتلقفته بسرعة وحاولت تثبيته مرة أخرى بشتى الطرق..
ـ لا بد أن أصنع ثقباً في أنفي حينما أعود..
جذبها حسن وهو يلوح للشيخ صداح وبقية الرجال مودعاً..
ـ ومن سيسمح لك بهذا..
نظرت له بدهشة وهو يسحبها خلفه، لكنها دهشة لم تخل من سعادة غامرة لم تستطع أن تخفيها..
في طريق العودة قالت له وهي تسترخي في مقعدها :
ـ لماذا يعاقبنا الله ؟
ألقى عليها نظرة جانبية عابرة ثم قال :
ـ وأي شيء مما نفعله لا يستحق العقوبة من الله.. أتظنين أن النخبة هبطت علينا من المريخ؟ وأن العالم استجاب لها بالحديد والنار؟..
شعرت بالشفقة نحوه، إنه مهموم دائماً ومثقل بالجراح.. قالت له محاولة التسرية عنه :
ـ لكن الله موجود أيضاً..
هز رأسه أن نعم وقال:
ـ كل ما نحن فيه يؤكد تلك الحقيقة يا لوسي.. لكنه لا يتولى الظالمين.. كنا قديماً سادة هذا العالم حينما سرنا مع الله.. وقبلها لم نكن نساوي شيئاً بين الأمم.. قبائل متناثرة متناحرة.. الآن ترين أننا عدنا من حيث بدأنا لما تخلفنا.. على هامش العالم..
حلقت ببصرها في السماء الصافية ثم همست:
ـ تعرف.. بالرغم من كل ذلك.. أنا سعيدة..
انفرجت شفتيه عن شبح ابتسامة باهتة رغم ما به من هموم.. كانت ليلى كالفراشة العابثة التي تحلق بين الزهور، و لا تكاد تستقر لها على موضوع معين حتى تثب إلى موضوع أخر..
قال :
ـ السعادة شيء عزيز المنال في عالمنا هذا يا ليلى..
ـ لا أدري كيف أشرح لك.. لكن..
ولوحت بكفها كأنها تستدعي كلمات مناسبة للتعبير عن حالتها .. ثم أردفت وهي تهز كتفيها:
ـ لم يهتم بي أحد من قبل مثلك..
ظل حسن يقود بوجه جامد وعين لا تطرف.. شعرت ليلى بخيبة أمل من رد فعله البارد فأطرقت.. لكنه سرعان ما التفت إليها قائلاً :
ـ أنا أيضاً سعيد يا ليلى..
رقص قلبها وهي تسأله بدلال :
ـ وما سر تلك السعادة يا ترى؟
قال باسماً:
ـ لأنني لم أهتم بأحد منذ زمن بعيد مثلما اهتممت بك..
نظرت طويلاً لتجاعيد وجهه المرهق وهي تفكر.. ترى هل لو كانت قد عثرت على أبيها الحقيقي.. هل كانت ستشعر معه بنفس الاطمئنان والدفء الذي تشعر به الآن وهي إلى جواره؟..
شردت ببصرها في الصحراء المترامية التي تنهبها السيارة وتمنت أن يطول الطريق أكثر.. لم تحب الصحراء من قبل لكن حسن جعلها تهيم بها حباً.. مثله لا يمكن أن يظل بقية حياته مشرداً هكذا.. مثله كان في أمس الحاجة لمثلها..
ـ لا يمكن!
نظرت لحسن فرأت وجهه مسوداً وعيناه تضيقان..
الكوخ يلوح من بعيد.. لكن لماذا تتصاعد منه الأدخنة؟
زاد حسن من سرعته مثيراً خلفه عاصفة من الرمال.. الكوخ يقترب ومعه تتضح الرؤية.. أخيراً أطلقت السيارة فرملة عاتية ووثب منها حسن وهو يحمل بندقيته صائحاً :
ـ أبقي هنا..
لكنها لم تبق.. وثبت خلفه لترى المأساة التي سببتها لذلك العجوز البائس..
لقد عاد دان مع عصابته أثناء غيبتهم، وقرر أن يترك بصمته على كوخ حسن..
بصمة ربما لن تنمحي آثارها من روحه إلا مع مغادرتها لجسده..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رواية كاملة بقلمي بعنوان ......رجل بدون ملامح..... حسن التازي أبعاد القصة والرواية 6 09-29-2018 03:29 PM
قراءة في رواية اليهودي الحالي عبدالله باسودان أبعاد العام 1 03-27-2015 01:17 AM
ملخص رواية \ مسلسل ( الجذور ) لـِ أليكس هالي عماد تريسي أبعاد العام 10 07-08-2014 02:20 AM
ملخص رواية دون كيشوت عماد تريسي أبعاد العام 4 06-19-2014 09:22 AM
الموتُ في وهران رواية للحبيب السايح سارة النمس أبعاد النقد 7 04-17-2014 04:25 PM


الساعة الآن 12:11 AM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.