الموتُ في وهران
رواية لِـ الحبيب السائح
عن دار العين المصرية
في رواية "الموت في وهران" الصادرة عن دار العين المصرية (2013)، لا يأخذنا الروائي الجزائري الحبيب السائح، في جولةٍ سياحية! فهو من خلال الرواية يحاولُ أن يرينا ما هو تحتَ وجه وهران، وما وراء الملامح؛ فلا يكتفي بتسمية الشوارع والأحياء و الشواطئ، بل يقوم بدور الطبيب الشرعي، يشرّح طبيعة مجتمع يجهله الكثيرون. فأغلب الناس يعرفون أنّ وهران مدينة ساحلية يرتادها السياح صيفاً كي ينفضوا عن أجسادهم تعب السنة، و يغسلوا قلوبَهم من الهموم باستحمامهم في بحرها البارد، أو ينسون الماضي بتجرع خمور الحانات ويراقصون العاهرات في الملاهي الليلية. كما يعرفون أنّ وهران أنثى ساحرة، بكل ما تحمله الأنوثة من معنى، بكل ما يحمله السحر من دهشة؛ تفتن كل من يزورها فتنة لا تمتلكها مدينة سواها.
أوّل ما يلفت انتباه القارئ، الأسماء الذي يسمعها عادة في وهران: هواري، بختة، عبدقا! أسماء شائعة لازالت تتردد على المسامع ليومنا هذا.فالروائي لم يختر الأسماء بعبث بل ليهمس للقارئ بصمت أنّ كل ما سيقرأه في هذا الكتاب يتعلّق بوهران! يفتحُ القارئ الكتاب ليجدَ نفسه أمامَ عاشقين ضمن مشهد حب سنيمائي؛ يتبادلان الشوق واللهفة المتجلية في جمَل قويّة كهذه التي انزلقت من لسانِ بختة بعد أن مصّت طرف السلسلة التي علّقتها بيدها على صدرِ حبيبها قبلَ الرحيل: " عرقكَ ألذ من ريقك "!
تدور أحداث رواية "الموتُ في وهران" حول شابٍ (هواري) يبلغ أربعا وعشرين سنة. دخل السجن، ولكن في ظلّ أية ظروف؟ يعيشُ حياة الضياع، ولكن نتيجة أية أسباب؟ ارتكب جريمة، وقتلَ رجلاً لكن بأي حق؟ يفتقدُ والدته الراحلة وهيبة بوذراع منذ أول حرف إلى آخر نقطة. كي يفهمَ القارئ حياة هذا الشاب، عليه أن يتحلى بالصبر، ويصغي إلى حكاية هواري الذي شق عليه أن يرويها وهو يقولُ لنا جميعاً: "ما الذي يكرهني على نقل وقائع من أيامي، أثثها كل ما يمكن أن يملأ حياة شخص مثلي، إلاّ الفرح و الحلم، إن لم تكن وحدتي التي تحيط بي من كل زاوية في هذه الشقة المحزونة بفراقاتي وضياعاتي المتعاقبة" ص11.
هواري .. وقعَ في غرامِ بختة ابنة المفتش الذي قضى على والده معمر صفصفاف، المنتمي إلى جماعة إرهابية؛ هذا الأخير قام باغتيال مدير المدرسة الذي كان يدْرس فيها هواري.غريبة ظروف هذا الحب التي ارتبطت بالموت، كأنّ هواري ورثها عن والديه! فقد وقعَ معمر صفصاف ـ والد البطل ـ في غرام وهيبة بوذراع، ابنة المجاهد الذي قضى على والده الحركي (أي العميل) ليختطفها في أحدِ الجبال بعدَ قصة حب جارفة جمعت بينهما ويتزوجها ضدّ رغبة والدها.
تحدّث الروائي الحبيب السائح، عن أكثر من فئة و أكثر من جيل، من خلال شخصيات الرواية جميعها؛ مثل (العارم جدّة البطل) التي يتعرف عليها هواري من خلال حديث صديقتها الممرضة المطلّقة (حلّومة) حين يلتقيها صدفة بمقبرة (سيدي الشحمي) فتصطحبه إلى بيتها وتروي له عمّا يجهله عن جدّه و جدّته وبعضاً من حكاية أمه الراحلة. كما يتعرفُ هواري، في رحلة البحث عن أصوله، على جدّه من خلال شخصية مصطفى، الذي يحكي له شطرا من سيرته في بيته القديم نفسه بمدينة تموشنت؛ بيت كانت العارم باعته لابن أخت مصطفى.
(حسنية) أيضاً هي إحدى الشخصيات التي تسلب القارئ بحكايتها: صبية قاومت ـ والدها خاصة ـ كي تتم دراستها الجامعية، رماها قدرها بين مخالب خطيب فضّ بكارتها بشراسة الحيوان، وتركها غارقة في دمائها. بعد اغتصابها المرير وخسارتها لوالدتها بالموت وظلم والدها، ولجوئها إلى وهران هروبها وجدت نفسها تغنّي في الملاهي متنازلة عن جسدها للنهش. في كشف للروائي عن مشاعر حسنية وذكرياتها وجروحها الأنثوية، التي تخفيها وراء قناع المجون، لا يملك القارئ في أحد الحوارات غير أن يحس أن قلبه يدمي لهذه الجملة الموجعة: "رؤيتي قضيب الرجل، لا تزال ترعبني، أحس حركة دخوله و خروجه المتواصلة، حفراً مؤلماً لاختراق روحي." ص 82.
حسنية تموت بجرعة زائدة من المخدّرات، فيُتهم صديقها هواري بالتقصير في مساعدتها فيحبسُ لأشهر. وهناكَ في السجن يقتل هواري خصْرو البومة، الذي تحرش به جنسيا، بأكثر من طعنة من مثقب ثلج. ثم تُلصق التهمة بأحدِ المحكوم عليهم بالمؤبد.
أمّا شخصية وهيبة بوذراع، التي كانت موضوع الغلاف والرواية، فكأنّ الروائي كرمّها بالضريح عليه اسمها، تاريخ ميلادها ورحيلها. وهيبة بوذراع هي والدة البطل هواري، التي خالفت رغبة والدها وتزوجت من رجلٍ رفضه بسبب نسبه المنحدر من عميل.يسند الحبيب السائح وصف وهيبة بوذراع إلى ابنها هواري فيتحدّث عن سيّدة غامضة؛ في غموضها كثيرٌ من الفتنة. سيّدة صهباء نذرت عمرها كي ترى نجاحات ابنها. أنثى تثير شهوة كلّ من يحدّق إليها. تقطر فتنة و جمالاً و سحراً، بلون جسدها المرمري. ساحرة بتفاصيلها الأنثوية، ملابسها الحريرية، عطورها الغالية. هذه السيدة رحلت في ظروف موتٍ غريبة، وقد قضى على جسدها مرضٌ مزمن تحيط به الشبهات؛ أكثر مرارة من السرطان، فالسرطان ينهش جسدَ الإنسان، والإيدز ينهشُ الجسدَ والسمعة معاً.
ليس غريباً أنّ الروائي لم يصرّح بالمرض بالاسم مكتفيا بالتلميح؛ فأسلوبه غالباً لا يتسم بالمباشرة. فهو حين يتحدّث يترك دائما مجالاً للصمت، مجالاً يفكّر فيه القارئ، يحلل الفكرة في رأسه، يلتقط أنفاسه، ويرسخ انطباعه.
وأنا أتصفح هذه الرواية، وضعتُ يدي على خدّي أفكّر كم تشبهُ وهيبة بوذراع مدينةَ وهران في جمالها وفتنتها ووجع مرضها المزمن! وهيبة المعتّقة بالأصالة، المريضة بوجعِ الماضي، ووجع المستقبل، تاريخها و غدِ ابنها المجهول. كيف التقطت هذه المرأة هذا الفيروس المُميت؟ فالحبيب السائح، بـ"الموت في وهران"، يبغي أن يخبرنا أنّ لكلٍّ خطيئتُه. ولكنْ لكلٍّ وجعه أيضاً! كأنّه يدعونا قائلاً: قبل أن نناقش النتائج، تعالوا نناقش الأسباب، قبل أن نبحث عن الدواء، تعالوا ندرسُ الداء. فكثيرون تركوا مدارسهم في وهران. كثيرات تركن جامعاتهن. فمشاكل الطلاق والخيانة والمجون لم تأتِ من عدم. كأنه يقول: لكل إنسانٍ في وهران قصة؛ فقبل أن تحكموا عليه أصغوا إلى القصة أولاً.
رواية "الموت في وهران" تتألف من 173 صفحة. كتبها الحبيب السائح بضمير المتكلّم ـ صوتِ الأنا ـ تناول أحداثها البطل هواري.ما أدهشني، شخصيا، أن يتمكن كاتب في سن الكهولة إقناع القارئ ببطله الشاب (24سنة)، الذي تحدّث عن كلّ هواجسِ الشاب، مشاعره، أفكاره، بروح شبابية خالصة.فقد قال الكاتب كل ما يريد قوله بحيادية تامّة، دون أن نشعر أنّه الرقيب على البطل؛ فلا تدّخل بصوته، و لا بأحكامه. ولا كان كاتباً متطفلاً، يثرثر بما يريد قوله بدل أن يسمح لنا بالإصغاء إلى أبطاله.ما فعله الحبيب السايح أنّه خلق شخصيات سمح لها بالتوسع ضمن المجال الروائي لأبعد الحدود.
استخدمَ الكاتب اللهجة الوهرانية في النص دون مبالغة، ليترك نكهة اللكنة الغربية تضيف للجوّ الروائي واقعية و مصداقية. أمّا ما افتقدته في الرواية فهو تفاصيل لم يتحدّث عنها الكاتب خلال السجن: مشاعر لم يبح بها البطل، الأثر الذي تركته عليه العقوبة؛ حتى ليخيّل للقارئ أنّ تلك المرحلة كانت عابرة وكأن هواري لم يمكث في السجن سوى ساعات قتل خلالها خصرو البومة ورحل.تميّز الروائي الحبيب السائح باللغة السردية السلسة، الجملة القوية والحِوار المحكم، ثمّ الوصف الدقيق لبيئة الشخصيات، ملامحها تصرفاتها، انفعالاتها، حتى ليرى القارئ بعينه الشخصية ويشعر بنفسه شاهد عيان.
ختمَ السائح، الرواية بمشهد الحب ذاته الذي بدأ به قصة هواري، الذي اتجه إلى الباب وهو لا يعرف من يكون الطارق ليتفاجأ بالمرأة الوحيدة التي سلبت قلبه، إنّها بختة! أتته بعد غياب، و قد تطّيبت من عطرِ أمّه قائلة بلهجة وهرانية شهية:
- أنا نبغيك أنتَ ! ص10.
قراءة و انطباع سارة النمس