أنا أستمتعُ بقلمك َكثيراً ، حين يُهديني عَبيراً من المعاني أتنشَّقُها بذائقتي أطيبَ من نفحِ الشِّيْحِ و عَبَقِ الخُزامى.
أستمتعُ بـ"ضمير" روحك كثيراً ، حين يُجْبِرُ ضمائري أن تتلاشى فلا يبقى إلا ضميرُ الـ (أنتَ) ، فأقرأُ ثم اقرأُ ثم أقرأُ ، فلا أشعر بشيءِ إلا أنني أقرؤك .
أستمتعُ بقلمك أكثر ، عندما تدخل بريشة قلمك و مدادك و كلماتك و حروفك إلى أعماق مُدركاتي ، فتُهذِّبُها و تعيدُ صياغتها كما شاءت براعتُك و لسانُك.
أَجِدُكَ رائعاً و أنتَ بين دفاتري عبارةً عن حروف ، أَجِدُكَ مُمْتِعَا و أنت أمام عيني مجموعة معانٍ و كلمات .
أتذوقك لذيذاً جدا ، حينَ أتَنَقَّلُ مع روعة بيانكَ و أنتَ تأخذُني من جنةٍ إلى جنةٍ من الخيالات الرفرافة.
أكادُ أجزمُ حين أَفْنَى بوجودِكَ بينَ السُّطُورِ بأنه لا وجود إلا وجود ذاتك حتى أشكُ في وجودِ ذاتي أو أكادُ أستيقن بأنني (أنتَ).
فأرجوك لا تقترب مني أكثر!!
أنا الان أكسبُ. واقترابُك مني أكثر يعني أنني أخسر أكثر.
أحببتُك حتى أحببتُ بُعدك أكثر.
أتمنى أن تظل في عيني كبيرا ؛ فلا تغدو صغيرا بقُرْبِك مني!!
لهذا لا تقترب أرجوك!!!
قديما قالوا: "أزهدُ الناس بالعالم أهله".
كنت أستغربُ من هذه العبارةِ حين سماعها .. حتى علمتني الأيامُ معناها فعرفتها جيدا.
إن الكاتِبَ حينَ تعرفُه بواسطةِ قلمهِ فإنك تتخيلُه مُجرَّداً عن التراب و الجسد ؛ فتتخيله مَلَكاً أو عُصفوراً أو وردةً ؛ كلاً بحسبِ نوع قلمه ، و بحسب كَرَمِ خيالك.
و لو شاء الله لك أن تراه ، فإن أولَ عملٍ لمُخيِّلتِكَ عند مشاهدته هو : أن تستعيد تلك الشخصية الخيالية فيوقعك هذا الشعور بين الحيرة و الإشتياق.
و تتمنى أن تقترب أكثر... فما إن تخالطه و تجالسه إلا و قد بدأت هيبته و عظمته لديك تتلاشى شيئا فشيئاً ، حتى تكاد تقول له "أنت لا شيء". و كأن ذنبه الوحيد الذي جناه عليك هو أن سمح لك بلقائه. أو ذبنك الوحيد الذي حرمك متعة فكره و قلمه أن سمحت لنفسك بالقرب منه.
قال ابن الشجري:
و أسْتِكْثِرُ الأخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ ...... فَلَمَّا التَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ
النفس مجبولةٌ على تَهَيُّبِ و احترامِ المجهول أو البعيد ، من خلال فكره المنشور ، و حين مقاربته تبدأ النفس تشعر بالإِلْف و القُرْب فلا ترى فرقاً بينها و بين المجهول الحاضر .
فتمتهن هذا القلم ، و تعُد شغفها به كان هوساً لا مبرر له إلا الغباء.
سيما لو أخذت عليه النفس ولو خطيئة واحدة ـ فإنها تسلبُ منه كل جميل ، و تمسخ من محفوظها عنه كل معنى حميد.
هذا حالنا كبشر.. نقرأ أو نسمع فننذهل ، ثم نبني لصاحب القلم في مخيلتنا قصرا من قصب لا نصب فيه و لا تعب.
و نغفل عن طبيعة البشر بأنهم بشر.
المشكلة ليست هنا!
المشكلةُ أنَّ رُوْحَ التَّفَاعُلِ و القَبُوْلِ لِصَاحِبِ هذا المِنْبَرِ الصَّدَّاحِ قَدْ تَراَجَعَ حِيْنَ مُخَالَطَتِهِ إلى أَقَلَّ مِنْ (10%) . بَلْ يَكَادُ يَكُوْنُ مُؤَشِّرَ اْلحَيَاةِ لَدَيْنَا لِكَلِمَاتِهِ يَكَادُ يَكُوْنُ صِفْرَاً.
لأن القيمة و الهيبة المحفوفة بالتَّخَيُّلِ للشخصيةِ المُستحيلةِ قد تم التحقق منها و تحليلها إلى عُنصري : الماء و الطين ، فسقطت حروفُها مِنْ أَعْيُنِ أذواقنا. ففقد لدينا الشعور بأهميتها لكثرة مخالطتها.
لذا قالوا : (أزهدُ الناسِ بالعَالِمِ أهْلُهُ)
و أنا أقول هنا " أزْهَدُ الناسِ بالكاتِبِ أَصْحَابُهُ"
لك أن تعجب حين أخبرك أن بلدان العلماء تكاد لا تُنجبُ مثلهم إلا نادراً ، فتُصدِّر العلم مع الغرباء إلى كل بقاع الأرض ، و تظل بلدانهم مقفرةً محرومة بسبب إلفهم لعلمائهم و بسبب معرفتهم بأحوالهم و أنسابهم.
رأيتُ بعيني معاقل للحديث و العلم و دوراً للغة و الأدب .. أقفرت من أهلها إلا من الزوار من الآفاق و المحبين. فحُرم السكان الأصليين و رحل الآفاقيون مُثقلين بالعلم و الفائدة.
كثرة الإحتكاك يسبب التبلد.
ديكور الكلمات و الجُمَل و أدبُ المداد و الأقلام يختلفان تماماً عن ديكور و أدب الحياة و حريِّة السلوك البشري.
فخذ بالكلمات و الجُمَل ، و دع كاتبها مشكورا عن الحضور ؛ فإنك ستحبه أكثر.
رحلتُ إلى أحدِ العمالقة الكبار من علماء الحديث في هذا العصر -لأكمل ما ينقصني من المعارف و أدوات الإجتهاد- ، و دموعي تسابق راحلتي ، فلما دنوتُ من حّرَم بيته ، رأيتُه .. فشعرتُ بكرم أجفاني على غير سابق سُنَّة منها ، لم أدرِ كيف لم أستطع إخفاء مدامعي التي كانت أجود ما تكون حينئذ.
فعانقتُه ، و قبلتُه و أنا أمسحُ دموعي بإحدى يديَّ .. كما قال البُرعي :
ودعتُها و الدمعُ يقطُرُ بيننا..... فكذاك كلُ مُوَدِّعٍ مُشتاقِ
شُغِلَتْ بتنشيفِ الدموع يمينُها..... و شمالُها مشغولةٌ بعناقي
كان في مُخيلتي أنه شيءٌ من التأريخ ، أو أنه لم يُكتَشَف بَعْدُ ، و ما هي إلا ليالٍ بل لك أن تقول لحظات ، و إذا بتلك الهالةُ و الملحمةُ من الشوق و اللهفة بدأت تذوب كما يذوب الملحُ في الماء ، مكثتُ لديه ثلاث سنواتٍ و نيفاً , فأخذتُ ما كنت أحتاجه من علم الحديث و علله و مصطلحه . مع أنني لم أستفد كما كنتُ أريدً.
لا لنقصٍ فيه ، و إنما لكمال نشاط ذهني الخاطئ ؛ إذ طفِقتُ أنتقد ، و أقارن – شأن الكثير- ,
حاله طبيعيٌ ، فهو مُبدِعٌ خلاَّقٌ للمعارف و الحِكَم ، و حالي أكثر من الطبيعي فأنا طالبٌ مُلاحظٌ دقيق النظر ، و ما أصعبَ الإختراعِ و الإبداعِ ، و ما أسهل الإختيار و الإستماع . فاختياري لشيءٍ من روائعه يعني إهمال الأُخْرَيَاتِ .
و فوق كل ذلك ، فقد شاهدتُ أناقته و حسن لباسِهْ ، و جالسته في منزله فرأيتُ أغلب أحواله مع ذويه و جُلاَّسه .
فلم أعُدْ أستطيع أن أستمتع بهيبته و علمه كما كنتُ قبل مخالطته .
ما أعذب أبيات العلامة الجرجاني -و إن كان يخصنا القليل من الأبيات من طرفٍ خفيٍ و لكن سأكتبها و أشكِّلًها كاملة لجمالها و روعتها- :
يَقُوْلُوْنَ لِيْ فِيْكَ انْقِبَاضٌ و إِنَّمَا .......... رَأَوْا رَجُلَاً عَنْ مَوْقِفِ الْذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَىَ الْنَّاسَ مَنْ دَاَنَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ .......... وَ مَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَ مَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي .......... وَ لَا كُل ُّمَنْ لَاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إِذَا قِيِلَ :هَذَا مَنْهَلٌ ، قُلْتُ :قَدْ أَرَىَ .......... وَ لَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الْظَّمَا
أُنَهْنِهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لِا يَشِيْنُهَا .......... مَخَافَةَ أَقْوَالِ العِدَا :"فِيْمَ أَوْ لَمَا ؟"
وَ إِنِّيِ إِذَاَ مَا فَاتَنِي الْأَمْرُ لَمْ أَبِتْ .......... أُقَلِّبُ طَرْفِي إِثْرَهُ مُتَنَدِّمَا
وَ لَكِنَّهُ إِنْ جَاءَ عَفْوَاً قَبِلْتُهُ .......... وَ إِنْ مَالَ لَمْ أُتْبِعْهُ "لَوْلَا وَ رُبَّمَا "
وَ أَقْبِضُ خَطْوِيِ عَنْ أُمُوُرٍ كَثِيِرَةٍ .......... إِذَا لَمْ أَنَلْهَا وَاَفِرَ الْعِرْضِ مُكْرَمَا
وَ أَكْرِمُ نَفْسِي أَنْ أُضَاحِكَ عَابِسَاً .......... وَ أَنْ أَتَلَقَّىَ بِالْمَدِيِحِ مُذَمَّمَا
و مَا زِلْتُ مُنْحَازَاً بِعِرْضِيَ جَانِبَاً .......... عَنِ الْذُّلِّ أَعْتَدُّ الْصِّيَانَةَ مَغْنَمَا
وَ لَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا .......... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرَتْهُ لِيَ سُلَّمَا
فَإِنْ قِيِلَ حَدُّ الْعِلْمِ نَاءٍ وَ إِنَّمَا .......... نَأَىَ حَيِنَ لَمْ يَحْمِىِ حِمَاهُ وَ أَسْلَمَا
وَ لَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِيِ .......... لِأَخَدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَىَ بِهِ غَرْسَاً وَ أَجْنِيِه ذِلَّةً ؟ .......... إِذَنْ فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوُهُ صَانَهُمْ .......... وَ لَوْ عَظَّمُوُهُ فِي الْنُّفُوُسِ تَعَظَّمَا
وَ لَكِنْ أَدَالُوُهُ فَهَانَ وَ دَنَّسُوُا .......... مُحَيَّاَهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّىَ تَجَهَّمَ.
أستثني في هذا المقال والدي الحبيب ، و أقول له : أرجوك لا تبتعد أكثر ، فإني سأشتاق إليك أكثر.
اقترب يا والدي ... فإنك كلما اقترتبَ أكثر كلما أحببتك أكثر.
فإنك ليس كمثلك شيء من البشر في نظري.
رحمك الله يا أبي.
إهداءةٌ إلى روح أبي الطيبة -إن شاء الله-.
و آمل ممن مرَّ على هذه المقالة المتواضعة -وراقت له- أن يدعوَ لي بالصبر و لأبي بالمغفرة.