هل كان الحجاج مظلوماً!؟

[مشعل الذايدي]

هل كان الحجاج مظلوماً ؟!!!

--------------------------------------------------------------------------------

كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من الزهاد والفقهاء الملازمين للمسجد والتالين للقرآن وكان يعد رابع فقهاء المدينة بعد سعيد بن المسيب وعروة وقبيضة بن ذويب وبويع بالخلافة في سنة خمس وستين على بلاد الشام ومصر قبل أن يظفر بباقي البلاد بعد مقتل ابن الزبير. وقيل إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فأوصاه بعد ما أوصاه بالحجاج بن يوسف الثقفي قائلا: انظر إلى هذا الرجل وأكرمه فإنه هو الذي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لكم الملك وشتت الخوارج . كان الحجاج معلما للغلمان يتدارسون في حلقته كتاب الله وسنة نبيه وكان ذا حدس ونباهة وذكاء مكتمل العقل يقول عنه عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض إلا الحجاج وإياس بن معاوية فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كان الحجاج ذا شهامة وكان لسيفه شدة وقيل إنه يغضب غضب الملوك ولعل ذلك ما جعل وزير عبدالملك روح بن زنباع يزكيه للخليفة بعدما شكا إليه عبد الملك أن الجيش لا ينزلون لنزوله ولا يرحلون لرحيله فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش ومنها انطلق الثقفي إلى بلاط الخليفة وأضحى سيفا لا يضاهيه سيف ضرب به عبدالملك كل خارج عليه وأسكت به كل فتنة ويروى عن الحسن البصري أنه قال: وقذتني (صرعتني) كلمة سمعتها من الحجاج وهو يخطب : أن امرأ ذهبت ساعة من عمره بغير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة وقد روى شريك القاضي عن عبد الملك بن عمير قال: قال الحجاج يوماً: من كان له بلاء أعطيناه على قدره فقام رجل وقال : اعطني فإني قتلت الحسين فقال وكيف قتلته ؟ قال : دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبراً، وما أشركت معي في قتله أحدا. فقال : اذهب فوالله لا تجتمع أنت وهو في موضع واحد،.ولم يعطه شيئاً.
كان الحجاج رحيماً في موضع الرحمة بكاءاً عند المواقف الإنسانية الصعبة فكم من رأس أعتقها من بين يدي عبدالملك ولعل رسالة عبدالملك إليه عندما أمره أن يبعث له برأس أسلم بن عبد البكري خير شاهد على رحمته فبعد أن أحضره الحجاج وقال: أيها الأمير أنت الشاهد وأمير المؤمنين الغائب وقال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وما بلغه عني فباطل وإني أعول أربعا وعشرين امرأة مالهن كاسب غيري وهن بالباب ، فأمر الحجاج بإحضارهن فلما حضرن جعلت هذه تقول : أنا خالته ، وهذه أنا عمته ، وهذه أنا أخته ، وهذه أنا ابنته، وهذه أنا زوجته . فبكى الحجاج وقال : والله لا أعنت عليكن ولا زدتكن تضعضعاً ثم كتب إلى عبد الملك بما قال الرجل ونساؤه فكتب إليه يأمره بإطلاقه وحسن صلته والإحسان إليه وأما لقتله ابن الزبير فقد صعد المنبر خاطباً بأهل مكة بعد حمد الله والثناء عليه : يا أهل مكة بلغني إكباركم قتل ابن الزبير إلا أن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها فنزع طاعة الله واستكن بحرم الله ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الله أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأباح له كرامته وأسكنه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة .من الكعبة واذكروا الله يذكركم والحجاج كان منفقا كريما إلى درجة أن عبدالملك بعث إليه برسالة يلومه فيها على إسرافه بالمال على أهل العراق وتوسعته بالعطاء عليهم فرد عليه الحجاج بقصيدة يوضح أن أهل العراق نصروه على الخوارج وأعانوه عليهم فينبغي أن نكرمهم على قدر بلائهم فكتب عبدالملك إليه مؤيداً أن اعمل برأيك وعن الشافعي رحمه الله أنه قال : قال الوليد بن عبد الملك للغاز بن ربيعة أن يسأل الحجاج فيما بينه وبينه : هل يجد في نفسه مما أصاب من الدنيا شيئاً ؟ فسأله كما أمره فقال : والله ما أحب أن لي لبنان أو ثبير ذهباً أنفقه في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة والله سبحانه وتعالى أعلم بعد كل ما سبق وما عرضناه من صفات وسجايا طيبه للحجاج بن يوسف الثقفي هل يحق لنا أن نقتص هذا الجزء المضيء من سيرة هذا الرجل ولا نذكر أو نتذكر إلا جوانب الظلام والخطايا وإن كانت ليست بهذا الكم الهائل الذي نقله إلينا التاريخ دون أن يعي أغلبنا أن لكل من سبقونا أخطاء وعثرات ولكنها تبقى تحت رحمة التاريخ فينصف من ينصف ويظلم من يظلم ! تحت وطأة قراءاتنا المختزله والتي عادةً ما تكون هي المقص الظالم لمزايا أعلام كانت لهم حسناتهم مثلما كانت لهم سيئاتهم . . . المعضلة ليست فيما يقوله التاريخ ولكن فيما ينقل ويحرف من ذلك التاريخ فيأتينا أحداثا جامدة لا تقبل أي لقاح للمرونة ولا أي دراسة لما وراء النقل. التاريخ نتعاطاه في مجتمعاتنا وكأنه لوحة فنية رسمت لنا على أيد قد تكون وضعت الرتوش لتخفي المعنى الحقيقي للوحة ونحن مطالبون أن نراها كما يريد البعض أن تكون لا كما يجب أن تكون... هذه نقطة إنصاف لرجل ظلمه التاريخ وأصبح في عقول الكثيرين رمزا للقتل والتنكيل دون أن نرى من ينصفه أو يذكره على أقل تقدير بكل ما حمل التاريخ له من إضاءات وعتمات إن صح التعبير.
مشعل الذايدي

نشر في جريدة الوطن 13\3\2005