[ شـفـت أبـها ] :
كَان قدراً حضر فجأة و تركتها . تلك ( أبها ) أرضُ البرَد و الخضرة ، ( أبها ) أرضي التي شهدتني مُذ ولادتي حتى اخترتُ بنفسي أن ألفظني
منها و أمضي ، لم يكن الرحيل سِوى فكرة جاءت و خفت أن أُضيّعها فقبلتُ بها . خلّفت من بعدها خُلوتي و لوم نفسي على اتخاذ قرارٍ لا زلتُ
حتى اليوم أجهلُ صحته أو خطئه بحق نفسي.
يا الله كم اشتاقُني فيها . و أبحثني في صور الجنائن و أرض السودة و حديقة بيتنا ، في الضباب و صوت المطر ، اشتاقني لحد أحس فيه أني قد تركتني
هناك ومضيت . أو أنني صرتُ أُخرى غيري.. و أضعتُني فيها . لا لم أضيعني أنا احتاجُ أن أبقيني فيها لأشعر بالحياة ، هي البهاء و روحي
الأصلية ، هي التفاصيل الباقية و المنسية ، هي الصباحات و المساءات المتغيرة ، هي الحياة كما يجبُ أن تُمسى حياتي ولا تتناسب أن تكون بغيرها،
هي تنهيدة جدي ، و حضن أبي ، و لعب أصحاب الطفولة و شغبي ، و طيبة ِحيّنا .. يا الله كم تقاسمنا العيش و الملح و الحاجيات بأنفس نقية .
هي سنينٌ تورطت فيها بالدلع و الشغب و معاندة الكبار ، وأنت يا طلال تُغني فترهق الذاكرة في التذكر و أنا التي تجمع الغبار جيداً كي أتناسى
ولا أبتئس . ليس لكوني جاحدةٌ لماضٍ لم أكن أنا إلا به .. بل لأن لي قلبٌ طافح بالذكريات المرهقة .. يحتفظ بها جيداً ولا ينساها بل أنه يخطو
بجانب النسيان و يُفلِت ! ثُم ما حيلتي و صوتكَ قد قاسمني إياها ؟ أتذكرُ عندما أطلب أبي بشغف أن يُدير جهازه لأغنية ( شفت أبها ) ؟ أسمعها
وأحدق من نافذة غرفته عليها وفي داخلي ينمو فخر ٌ يقول لي : أنتِ فيها .. هنيئاً هنيئاً ، قُل لي ما حيلتي و لي قلبٌ مُمتليءٌ بكل هذه الأشياء ولا
يبغي أن يرتاح منها أبداً ؟
و كأنني أرى الآن أمامي بيتنا و شجرة ِ الخوخ الكبيرة . كُنت أقطفه أخضراً قبل النضوج و يضحك أبي من قسماتِ وجهي عندما أتذوقه ،
كان حامضاً كفاية لدرجة لا أستطيع فيها أن أُخفي الإحساس بذلك رغم محاولاتي أن أخفيه ، كُنت في باديء الأمر أُعاند أبي لكني تعودت المذاق و عشقته ،
أذكر الشارع الخلفي حيثُ تُختزلُ الذكريات و تُحفظ بعناية كي تتقافز حولي عند كل مرور او استراق نظر ، أراني هناك طفلة لا تخشَ صوت السيارات و
أرى قطع الفحم التي لطالما كانت وفية معي ، في رسمي على الجدران و في لعبي . يا الله ـ ما كان اسم اللعبة ؟ لا أعلم و
استفهامي ذا ظل مرتكزاً فيّ حتى أحسستُ أن رأسي سينفجر . كنت اجتهد أمام أبي في كتابة الأرقام عليها جيدا ورسم الخطوط باستقامة ، و أعود للبيت لتستقبلني
أمي بحال ٍ مهترئة و في جيب ثوبي قد دسست أكبر قدرٍ ممكن من الخوخ الأخضر و الفحم و اللوز .
شجرة اللوز .. شجرتي الوفية ، كُنت أحبها كثيراً لأن لها أغصانٌ قوية تتحملني وحدي أنا الطفلة ولا تسمح لأي أحد أن يُعكر وحدتي ، كُنت أدس فيها بعض الفحم
و أقلام الرصاص لأرسم هيئة جدي و كرسيه المهتز أمام البيت و وسط الأشجار ، كان الآخر مغرماً بالتحديق في أرجاء المدينة أيضاً و من حظنا أن لنا بيتٌ
يجلسُ عالياً فوق جبلٍ بطرفِ أبها يُعطينا إمكانية الرؤية لمساحة كبيرة من المدينة.
أووه نسيت .. هناك في الزاوية كانت حفرتي السرية ، تُرى هل الأرض وفية كفاية للاحتفاظ بصندوقي الصغير ؟ أم أن للطين شائبة
الأخذ فقط دون أن يُعيد شيئاً , كنحن : الطين .
[ قلبي حبك والله يا أبها ]
- الحكي يطول ، راح أكمل -
-