منصور الرحيمي
09-24-2008, 10:00 PM
<< مقتطف >>
بناءُ البيتِ أَصْلٌ مِن أصولِ بناءِ القصيدةِ، وللفحولِ فيه مَذْهَبٌ يَجْعَلُ بناءَ البيتِ جَوْهَرَ البناءِ الشِّعرِيِّ كلِّه. وللشُّعراءِ في بناءِ البيتِ طريقان ـ على اختلافٍ في إرادةِ التَّقابلِ بين الشَّطْرَيْنِ أو تَرْكِه ـ: فمِنْهم مَن كان يأتي بالمِصْراعِ الأوَّلِ ثم يَبْني عليه فيُتَمِّمُه في المِصْراعِ الآخر، ومِنْهُم مَن كان يَنْصِبُ القافيةَ أوَّلاً ويَضَعُ المعنى في المِصْراعِ الثَّاني ثم يأتي بما يُقابلُه في المِصْراعِ الأوَّلِ، وجَعَلَه ابنُ رَشِيقٍ مَذْهَبَ المُصَنِّعين كأبي تَمَّامٍ ونُظَرائِه. والطَّريقُ الأوَّلُ هو الشَّائعُ بين الشُّعراءِ، وكثيراً ما تَجِدُ الشَّطْرَ الأوَّلَ عندهم مُسْتقِلاً عن الشَّطْرِ الآخرِ في بنائِه النَّحْوِيِّ، وتراه أيضاً تامَّ المعنى لا يُمْسِكُه مع قسِيمِه إلا المعنى العامُّ للأبياتِ أو تقابلٌ يَصْطَنِعُه الشَّاعرُ، وفيه يُلْزَمُ القارئُ بالسَّكْتةِ بين الشَّطْرَيْنِ لانفصالِ المعنى وتمامِه. وفي شعرِ كلِّ شاعرٍ تَجِدُ شواهدَ كثيرةً على هذا المَذْهَبِ الأخيرِ، فمِن شواهدِه:
تُبْدِي لَكَ العَيْنُ ما في نَفْسِ صاحبِها = مِنَ الشَّناءَةِ والوُدِّ الذي كانا
إنَّ البَغِيضَ لَهُ عَيْنٌ يَصُدُّ بِها = لا يَسْتَطِيعُ لِما في القَلْبِ كِتْمانا
وعَيْنُ ذي الوُدِّ لا تَنْفَكُّ مُقْبِلَةً = تَرَى لها مَحْجِراً بَشَّاً وإنسانا
والعَيْنُ تَنْطِقُ والأَفْواهُ صامتةٌ = حتَّى تَرَى مِن ضَمِيرِ القَلْبِ تِبْيانا
ولَئِنْ حَكَمَ ابنُ رَشِيقٍ على المَذْهَبِ الآخِرِ بأنَّه مَذْهَبُ المُتَصَنِّعين فإنَّ المَذْهَبَ الأوَّلَ ـ وإنْ غَلَبَ على الشُّعراءِ ـ فيهِ ركاكةٌ وضَعْفُ وتَفَكُّكٌ، ويُدْرِكُ القارئَ مِنْه مَلالٌ حين تتوالى عليه في خواتمِ الشُّطُورِ الأولى أَحْرُفُ الجَرِّ أو المُضافُ إليهِ أو الفَضَلاتُ كالحالِ والنَّعْتِ مِمَّا لا حقيقةَ له غيرَ رَمِّ ما وَهَى مِن بناءِ البيتِ.
على أنَّ المذْهَبَ الذي غَلَبَ على فحولِ الجاهليَّةِ في بناءِ أبياتِهم، وأَجْوَدُ شعرِهم ما كان عليه، وهو بعدُ في أشعارِ الإسلامِيِّين طريقٌ مأنوسةٌ، وجاءَ عليهِ مِن شعرِ أصحابِ النَّمَطِ البَدَوِيِّ ما لا يُحْصَى كَثْرةً، أكتفِي هنا بمِثالٍ واحدٍ هو قَوْلُ النَّابغةِ الذُّبْيانِيِّ يَرْثِي حِصْنَ بنَ حُذَيْفَةَ بنِ بَدْرٍ:
يَقُولُونَ حِصْنٌ، ثم تَأبَى نُفُوسُهُم = وكَيْفَ بِحِصْنٍ والجِبَالُ جُنُوحُ
ولَمْ تَلْفِظِ الأرْضُ القُبُورَ، ولَمْ تَزَلْ = نُجُومُ السَّماءِ، والأَدِيمُ صَحِيحُ
فَعَمَّا قَلِيلٍ، ثُمَّ جَاشَ نَعِيُّهُ = فَبَاتَ نَدِيُّ القَوْمِ وَهْوَ يَنُوحُ
وهذا المَذْهَبُ لا يَنْصِبُ القافيةَ ثم يَبْنِي عليها، ولا يأتي بالمِصْراعِ الأوَّلِ ثم يُتَمِّمُه، كما في المَذْهَبَيْنِ المُتقدِّمَيْنِ.
إنَّه يقومُ على جُمْلةٍ يَنْبِذُها الشَّاعرُ، قد تَقْصُرُ عن مَلْءِ صَدْرِ البيتِ فيرمي بعدها بجُمْلةٍ أخرى، وقد تتوالى أَكْثَرُ مِن جُمْلةٍ في الصَّدْرِ، وقد تطولُ الجُمْلةُ فيضيقُ عنها الصَّدْرُ فيُكْمِلُها الشَّاعرُ في عَجُزِ البيتِ، ولا يَلْتَفِتُ إلى السَّكْتةِ بين الشَّطْرَيْن؛ فالبيتُ عنده جُمَلٌ تتعاقبُ لا شَطْرَيْنِ مُنْفصلَيْنِ، فإذا بَلَغَ مَوْضِعَ القافيةِ جاءَ بها غير قَلِقةٍ ولا مُجْتلبةٍ.
وقد وَرَدَ شَيْءٌ يَقْرُبُ مِن هذا المَذْهَبِ في قَوْلِ أَحَدِ النُّقادِ: "خَيْرُ الأبياتِ عندهم ما كَفَى بَعْضُه دون بَعْضٍ، مثلُ قولِ النَّابغةِ:
ولَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ = على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟"
غير أنَّ النُّقادَ ذَهَبُوا إلى مُقابلةِ هذا الأسلوبِ في بيتِ النَّابغةِ بالتَّضْمِينِ، ولَمْ يَجْعَلُوه مَذْهباً في بناءِ البيتِ على الجُمَلِ لا على الشَّطْرَيْنِ، ولَمْ أَقِفْ على كلامٍ لهم فيه يُوْضِحُه أو يُشِيرُ إليهِ عدا كلمةً لِحازمٍ يقولُ فيها: إنَّ مِن الشُّعراءِ مَن "يَبْنِي الكلامَ مِن أوَّلِه إلى آخرِه إذا سَنَحَتْ له القافيةُ بيُسْرٍ، أو يُكْمِلَ بناءِ الشَّطْرِ الأوَّلِ أو أَكْثرَ مِن الشَّطْرِ ثم يُتِمُّ الباقي إذا سَنَحَتْ له القافيةُ" ويختارُ للشَّاعرِ "أنْ يَبْنِيَ (على القافية) مِن أوَّلِ الشَّطْرِ الثَّاني أو مِمَّا يَتَّصِلُ بهِ مِمَّا قَبْلَه... ثم يَبْنِي الشَّطْرَ الأوَّلَ... وذلك غيرُ عزيزٍ".
وشاهدُ هذا المَذْهَبِ قولُ عمارةَ بنِ عقيلٍ:
دَعَاني أبو سَعْدٍ، [وأَهْدَى نَصِيحةً = إليَّ، ومِمَّا أنْ تَغُرَّ النَّصائِحُ]
لأَجْزُرَ لَحْمِي كَلْبَ نَبْهَانَ، [كالذي = دَعَا القاسِطِيَّ حَتْفُهُ وَهْوَ نَازِحُ
أَوِ البُرْجُمِيِّ، حِينَ أَهْداهُ حَيْنُه = لِنارٍ، علَيْها مُوْقِدانِ وذابِحُ
ورَأْيُ أبي سَعْدٍ، [وإنْ كانَ حازِماً = بَصِيراً، وإنْ ضاقَتْ عليهِ المَسَارِحُ]
أَعارَ بِهِ مَلْعونَ نَبْهَانَ سَيْفَهُ = على قَوْمِهِ، [والقَوْلُ عافٍ وجَارِحُ
ونَصْرُ الفتى في الحَرْبِ أعداءَ قَوْمِهِ = على قَوْمِهِ لِلْمَرْءِ ذِي الطَّعْمِ فاضِحُ]
فانظُرْ إلى صَدْرِ العَجُزِ فيها تَرَ سِمَةً لائحةً مِن هذا الأسلوبِ؛ فإنَّكَ تَجِدُه موصولَ السَّبَبِ في المعنى والتَّركيبِ النَّحْوِيِّ بالصَّدْرِ، ويُضارِعُه وَصْلُ آخرِ الصَّدْرِ بأوَّلِ العَجُزِ. ثمَّ انْظُر إلى تَشْعيثِ الكلامِ؛ فهو يَسُوقُ حديثَ أبي سَعْدٍ ويَمْزُجُه بتَفْنيدِه، ومثالُه أيضاً قولُه:
أَلَمْ تَرَنِي، [والمَرْءُ يَقْلَى ابنَ أُمِّهِ = إذا ما أَتَتْ عَوْجاءُ، لا تَتَقَوَّمُ]
ضَمَمْتُ جَناحِي عن أبي النَّضْرِ بَعْدَ ما = تَلَوَّمْتُهُ ما كان لِي مُتَلَوَّمُ
وقُلْتُ لَهُ لَمَّا التَقَيْنا، [وقال لي = مَقالةَ مُزْرٍ، عائثٍ، يَتَجَرَّمُ]
أَتَعْذُلُنِي في أَنْ أَبِيعكَ مِثْلَ ما = بِهِ بِعْتَنِي، [والبادِئُ البَيْعِ أَظْلَمُ]
وليس على وُدِّ امْرِئٍ ليس عِنْدَهُ = وَفاءٌ [ولا عَهْدٌ إذا غابَ] مَنْدَمُ
فهو لا يَسُوقُ خبرَه مع أبي النَّضْرِ سياقاً واحداً، ولَوْ صَنَعَ لكان مَغْسُولاً مَطْمُوسَ الحُسْنِ، إنَّه يَقْذِفُ حديثَ نَفْسِه واحتجاجَه بين الخبرِ، وقد تطولُ هذه الجُمَلُ المقذوفةُ حتى تَذْهَبَ بالبيتِ كلِّه إلا كُلَيْماتٍ كالبيتِ الأوَّلِ والثَّالثِ، ومَقْطِعُ القوافي فيها نَزَلَتْ مَنْزِلَها مِن غيرِ اجتلابٍ ولا حَشْوٍ.
ففي هذه الشَّاهِدَيْن الميميَّةِ والحائيَّةِ مَلْحَظانِ: بناءُ البيتِ على الجُمَلِ لا على الشَّطْرَيْنِ، وتَشْعيثُ الكلامِ فيُدْخِلُ سياقاً في سياقٍ مِن غير حَشْوٍ ولا مُعاظلةٍ. ولهذا المذهبِ أَثَرٌ كبيرٌ في تَدَفُّقِ العاطفةِ ونَغَمِ الشِّعرِ، وهو أَدْخَلُ في الصِّناعةِ؛ ففيه إيرادُ المعاني بدليلِها أو إيرادُها بنَقْضِها، كالذي فَعَلَ عمارةُ في عتابِ أبي سَعْدٍ وأبي النَّضْرِ إذْ يُورِدُ حُجَّتَهما سريعةً مُلَجْلجةً ولا يُتِمُّها، فيَنْقُضُها مِن قريبٍ ويَحْتَجُّ، ثمَّ يعودُ فيأتي بباقي حُجَّتِهما وقد سَقَطَ مِنْها ما سَقَطَ.
بناءُ البيتِ أَصْلٌ مِن أصولِ بناءِ القصيدةِ، وللفحولِ فيه مَذْهَبٌ يَجْعَلُ بناءَ البيتِ جَوْهَرَ البناءِ الشِّعرِيِّ كلِّه. وللشُّعراءِ في بناءِ البيتِ طريقان ـ على اختلافٍ في إرادةِ التَّقابلِ بين الشَّطْرَيْنِ أو تَرْكِه ـ: فمِنْهم مَن كان يأتي بالمِصْراعِ الأوَّلِ ثم يَبْني عليه فيُتَمِّمُه في المِصْراعِ الآخر، ومِنْهُم مَن كان يَنْصِبُ القافيةَ أوَّلاً ويَضَعُ المعنى في المِصْراعِ الثَّاني ثم يأتي بما يُقابلُه في المِصْراعِ الأوَّلِ، وجَعَلَه ابنُ رَشِيقٍ مَذْهَبَ المُصَنِّعين كأبي تَمَّامٍ ونُظَرائِه. والطَّريقُ الأوَّلُ هو الشَّائعُ بين الشُّعراءِ، وكثيراً ما تَجِدُ الشَّطْرَ الأوَّلَ عندهم مُسْتقِلاً عن الشَّطْرِ الآخرِ في بنائِه النَّحْوِيِّ، وتراه أيضاً تامَّ المعنى لا يُمْسِكُه مع قسِيمِه إلا المعنى العامُّ للأبياتِ أو تقابلٌ يَصْطَنِعُه الشَّاعرُ، وفيه يُلْزَمُ القارئُ بالسَّكْتةِ بين الشَّطْرَيْنِ لانفصالِ المعنى وتمامِه. وفي شعرِ كلِّ شاعرٍ تَجِدُ شواهدَ كثيرةً على هذا المَذْهَبِ الأخيرِ، فمِن شواهدِه:
تُبْدِي لَكَ العَيْنُ ما في نَفْسِ صاحبِها = مِنَ الشَّناءَةِ والوُدِّ الذي كانا
إنَّ البَغِيضَ لَهُ عَيْنٌ يَصُدُّ بِها = لا يَسْتَطِيعُ لِما في القَلْبِ كِتْمانا
وعَيْنُ ذي الوُدِّ لا تَنْفَكُّ مُقْبِلَةً = تَرَى لها مَحْجِراً بَشَّاً وإنسانا
والعَيْنُ تَنْطِقُ والأَفْواهُ صامتةٌ = حتَّى تَرَى مِن ضَمِيرِ القَلْبِ تِبْيانا
ولَئِنْ حَكَمَ ابنُ رَشِيقٍ على المَذْهَبِ الآخِرِ بأنَّه مَذْهَبُ المُتَصَنِّعين فإنَّ المَذْهَبَ الأوَّلَ ـ وإنْ غَلَبَ على الشُّعراءِ ـ فيهِ ركاكةٌ وضَعْفُ وتَفَكُّكٌ، ويُدْرِكُ القارئَ مِنْه مَلالٌ حين تتوالى عليه في خواتمِ الشُّطُورِ الأولى أَحْرُفُ الجَرِّ أو المُضافُ إليهِ أو الفَضَلاتُ كالحالِ والنَّعْتِ مِمَّا لا حقيقةَ له غيرَ رَمِّ ما وَهَى مِن بناءِ البيتِ.
على أنَّ المذْهَبَ الذي غَلَبَ على فحولِ الجاهليَّةِ في بناءِ أبياتِهم، وأَجْوَدُ شعرِهم ما كان عليه، وهو بعدُ في أشعارِ الإسلامِيِّين طريقٌ مأنوسةٌ، وجاءَ عليهِ مِن شعرِ أصحابِ النَّمَطِ البَدَوِيِّ ما لا يُحْصَى كَثْرةً، أكتفِي هنا بمِثالٍ واحدٍ هو قَوْلُ النَّابغةِ الذُّبْيانِيِّ يَرْثِي حِصْنَ بنَ حُذَيْفَةَ بنِ بَدْرٍ:
يَقُولُونَ حِصْنٌ، ثم تَأبَى نُفُوسُهُم = وكَيْفَ بِحِصْنٍ والجِبَالُ جُنُوحُ
ولَمْ تَلْفِظِ الأرْضُ القُبُورَ، ولَمْ تَزَلْ = نُجُومُ السَّماءِ، والأَدِيمُ صَحِيحُ
فَعَمَّا قَلِيلٍ، ثُمَّ جَاشَ نَعِيُّهُ = فَبَاتَ نَدِيُّ القَوْمِ وَهْوَ يَنُوحُ
وهذا المَذْهَبُ لا يَنْصِبُ القافيةَ ثم يَبْنِي عليها، ولا يأتي بالمِصْراعِ الأوَّلِ ثم يُتَمِّمُه، كما في المَذْهَبَيْنِ المُتقدِّمَيْنِ.
إنَّه يقومُ على جُمْلةٍ يَنْبِذُها الشَّاعرُ، قد تَقْصُرُ عن مَلْءِ صَدْرِ البيتِ فيرمي بعدها بجُمْلةٍ أخرى، وقد تتوالى أَكْثَرُ مِن جُمْلةٍ في الصَّدْرِ، وقد تطولُ الجُمْلةُ فيضيقُ عنها الصَّدْرُ فيُكْمِلُها الشَّاعرُ في عَجُزِ البيتِ، ولا يَلْتَفِتُ إلى السَّكْتةِ بين الشَّطْرَيْن؛ فالبيتُ عنده جُمَلٌ تتعاقبُ لا شَطْرَيْنِ مُنْفصلَيْنِ، فإذا بَلَغَ مَوْضِعَ القافيةِ جاءَ بها غير قَلِقةٍ ولا مُجْتلبةٍ.
وقد وَرَدَ شَيْءٌ يَقْرُبُ مِن هذا المَذْهَبِ في قَوْلِ أَحَدِ النُّقادِ: "خَيْرُ الأبياتِ عندهم ما كَفَى بَعْضُه دون بَعْضٍ، مثلُ قولِ النَّابغةِ:
ولَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ = على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟"
غير أنَّ النُّقادَ ذَهَبُوا إلى مُقابلةِ هذا الأسلوبِ في بيتِ النَّابغةِ بالتَّضْمِينِ، ولَمْ يَجْعَلُوه مَذْهباً في بناءِ البيتِ على الجُمَلِ لا على الشَّطْرَيْنِ، ولَمْ أَقِفْ على كلامٍ لهم فيه يُوْضِحُه أو يُشِيرُ إليهِ عدا كلمةً لِحازمٍ يقولُ فيها: إنَّ مِن الشُّعراءِ مَن "يَبْنِي الكلامَ مِن أوَّلِه إلى آخرِه إذا سَنَحَتْ له القافيةُ بيُسْرٍ، أو يُكْمِلَ بناءِ الشَّطْرِ الأوَّلِ أو أَكْثرَ مِن الشَّطْرِ ثم يُتِمُّ الباقي إذا سَنَحَتْ له القافيةُ" ويختارُ للشَّاعرِ "أنْ يَبْنِيَ (على القافية) مِن أوَّلِ الشَّطْرِ الثَّاني أو مِمَّا يَتَّصِلُ بهِ مِمَّا قَبْلَه... ثم يَبْنِي الشَّطْرَ الأوَّلَ... وذلك غيرُ عزيزٍ".
وشاهدُ هذا المَذْهَبِ قولُ عمارةَ بنِ عقيلٍ:
دَعَاني أبو سَعْدٍ، [وأَهْدَى نَصِيحةً = إليَّ، ومِمَّا أنْ تَغُرَّ النَّصائِحُ]
لأَجْزُرَ لَحْمِي كَلْبَ نَبْهَانَ، [كالذي = دَعَا القاسِطِيَّ حَتْفُهُ وَهْوَ نَازِحُ
أَوِ البُرْجُمِيِّ، حِينَ أَهْداهُ حَيْنُه = لِنارٍ، علَيْها مُوْقِدانِ وذابِحُ
ورَأْيُ أبي سَعْدٍ، [وإنْ كانَ حازِماً = بَصِيراً، وإنْ ضاقَتْ عليهِ المَسَارِحُ]
أَعارَ بِهِ مَلْعونَ نَبْهَانَ سَيْفَهُ = على قَوْمِهِ، [والقَوْلُ عافٍ وجَارِحُ
ونَصْرُ الفتى في الحَرْبِ أعداءَ قَوْمِهِ = على قَوْمِهِ لِلْمَرْءِ ذِي الطَّعْمِ فاضِحُ]
فانظُرْ إلى صَدْرِ العَجُزِ فيها تَرَ سِمَةً لائحةً مِن هذا الأسلوبِ؛ فإنَّكَ تَجِدُه موصولَ السَّبَبِ في المعنى والتَّركيبِ النَّحْوِيِّ بالصَّدْرِ، ويُضارِعُه وَصْلُ آخرِ الصَّدْرِ بأوَّلِ العَجُزِ. ثمَّ انْظُر إلى تَشْعيثِ الكلامِ؛ فهو يَسُوقُ حديثَ أبي سَعْدٍ ويَمْزُجُه بتَفْنيدِه، ومثالُه أيضاً قولُه:
أَلَمْ تَرَنِي، [والمَرْءُ يَقْلَى ابنَ أُمِّهِ = إذا ما أَتَتْ عَوْجاءُ، لا تَتَقَوَّمُ]
ضَمَمْتُ جَناحِي عن أبي النَّضْرِ بَعْدَ ما = تَلَوَّمْتُهُ ما كان لِي مُتَلَوَّمُ
وقُلْتُ لَهُ لَمَّا التَقَيْنا، [وقال لي = مَقالةَ مُزْرٍ، عائثٍ، يَتَجَرَّمُ]
أَتَعْذُلُنِي في أَنْ أَبِيعكَ مِثْلَ ما = بِهِ بِعْتَنِي، [والبادِئُ البَيْعِ أَظْلَمُ]
وليس على وُدِّ امْرِئٍ ليس عِنْدَهُ = وَفاءٌ [ولا عَهْدٌ إذا غابَ] مَنْدَمُ
فهو لا يَسُوقُ خبرَه مع أبي النَّضْرِ سياقاً واحداً، ولَوْ صَنَعَ لكان مَغْسُولاً مَطْمُوسَ الحُسْنِ، إنَّه يَقْذِفُ حديثَ نَفْسِه واحتجاجَه بين الخبرِ، وقد تطولُ هذه الجُمَلُ المقذوفةُ حتى تَذْهَبَ بالبيتِ كلِّه إلا كُلَيْماتٍ كالبيتِ الأوَّلِ والثَّالثِ، ومَقْطِعُ القوافي فيها نَزَلَتْ مَنْزِلَها مِن غيرِ اجتلابٍ ولا حَشْوٍ.
ففي هذه الشَّاهِدَيْن الميميَّةِ والحائيَّةِ مَلْحَظانِ: بناءُ البيتِ على الجُمَلِ لا على الشَّطْرَيْنِ، وتَشْعيثُ الكلامِ فيُدْخِلُ سياقاً في سياقٍ مِن غير حَشْوٍ ولا مُعاظلةٍ. ولهذا المذهبِ أَثَرٌ كبيرٌ في تَدَفُّقِ العاطفةِ ونَغَمِ الشِّعرِ، وهو أَدْخَلُ في الصِّناعةِ؛ ففيه إيرادُ المعاني بدليلِها أو إيرادُها بنَقْضِها، كالذي فَعَلَ عمارةُ في عتابِ أبي سَعْدٍ وأبي النَّضْرِ إذْ يُورِدُ حُجَّتَهما سريعةً مُلَجْلجةً ولا يُتِمُّها، فيَنْقُضُها مِن قريبٍ ويَحْتَجُّ، ثمَّ يعودُ فيأتي بباقي حُجَّتِهما وقد سَقَطَ مِنْها ما سَقَطَ.