د. منال عبدالرحمن
07-17-2009, 02:38 AM
http://www.shathaaya.com/go/dir/60/Ud201.jpg
" تُرى هل كانَ عليَّ أن أنتبِهَ على تلك النّبوءة ؟ كيفَ كنتُ أبدأُ بخاتمةِ الكتابِ و تبدئينَ بمقدّمته !! لم أكن موفّقاً في التقاطِ ذلك ... تعشقينَ البدايات و أنا أهيمُ بالخاتمة ! "
هيَ لم تكن نبوءةً بقدرِ ما كنَت التقاطةً ذكيّةً للحسِّ الكتابيّ , يبدأُ روايَتَهُ بالمغادرة و يختمها بالانتظار و ما بينهما يجيدُ التّنقّلَ بحرفةٍ عاليةٍ بينَ وجلِ الأولى و رهبةِ الثّانية !
عندما تُمسِكُ بحقيبةِ حذرٍ , على أصابعِ ذاكرتِكَ أن تلامِسَ فتيلَ أقفالِها باحتراف , عليها أن تُجيدَ العزفَ على الشّوقِ و الحبِّ و الخوفِ و الفقدِ و الغربةِ و المنفى و .. الكثيرِ من الوطن !
هكذا يأتي عاطف البلوي حاملاً مِعطَفَ حذرهِ في حقيبة , و تاركاً للمطرِ فرصةَ ملامسةِ ما يحملُ على أكتافهِ من شوقٍ " حدَّ اليُتم " و وفاءٍ " حدَّ الاندماج و تفصيلٍ حدَّ التّطرّف !
حقيبة حذر رواية يدخلُ بها الكاتبُ عواطِفَ القارئِ من بابهِ الأوسَع , بالتّعابيرِ البسيطة و المفرداتِ القريبة و المعاني العميقة و يتركُ للقارئِ - لكلِّ قارئٍ - متعةَ أن يبحثَ عن نفسهِ في تلك التّفاصيل و من ثمَّ الخروج بما يُناسِبُ ذاكرتَهُ و قلبَه و مجهرَ التّفاصيلِ الصّغيرةِ المخبوءِ في حسّهِ بالآخر .
" كنتُ سأقولُ لهُ إنّي لازلتُ أذكرُ جيّداً قولك : أحبّها جدّاً يا صديقي إلى الدّرجة الّتي أتمنّى فيها أن تموت ! "
يركّزُ الأستاذ عاطف البلوي كثيراً على الآخر في روايتِه , ينطلقُ منهُ من خلالِ " الرّفاق " و يدورُ حولّهُ من خلالهم , و يبيّنُ من خلالِ تناقضاتِهم مركزيّة الآخرِ في حياةِ كلٍّ منهم , و تمحورَهم حولَ ذلكَ المحورِ اللّامرئيّ المبنيّ على أُسسٍ يشكّلُ الآخرُ لبنتها الأساسيّة و تنطوي تحتَ مسمّىً معنويٍّ جدّاً و هو الصّداقة .
الحوارات المتعدّدة منحَت الرّوايةَ طابَعاً إنسانيّاً و جعلتها تقتربُ من القارئِ بكلماتٍ محبّبةٍ عاميّةٍ أدرجها الكاتبُ بينَ الفينةِ و الأخرى ليمنحّها عبقَ أصالةِ عمّان و سحرِ هدوئها و نشاطَ ضجيجها , و ليمنحَ القارئ نشوةَ الذّاكرةِ بالوطن .
الرّسائل كانَت وسيلةَ الكاتبِ للهروبِ من رتابةِ السّردِ إلى إثارةِ المفاجأة , ليعودُ بالقارئ إلى الواقع تاركاً مساحةً في عقلهِ للأسئلةِ و التّخمينات .. كانت بمثابةِ عنصر المفاجأةِ الّتي تمنحها العصا السّحريّة لكاتبٍ يضعُ نفسَهُ في مكانِ القارئِ كثيراً قبلَ أن يكتب .
التقاطاتٌ رائعةٌ كانَت تلكَ الفواصلُ الّتي تفصلُ واقعَ الرّوايةِ عن روحها الشّعريّةِ المتمثّلةِ في رسائلهِ إليها :
" المتشابهون لا يلتقون يا حبيبة , لا يلتقون . و كأنّي بهم يحملون الشّحنةَ ذاتَها , يتنافرونَ فقط إذا اقتربوا , و لكنّهم في البعدِ قبلةٌ واحدة .
آهٍ فاتتني يعلمُ الله أنّني أشتاقكِ ... حدَّ اليتم ."
و يكمل :
" وقعُ طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب .. لا بدَّ أنّهُ المعنيُّ بآخرِ كلمة .. "
عاطف البلوي يلقي الضّوء في روايتهِ " حقيبة حذر " على الإنسان بكلِّ ما فيهِ من خيرٍ و شرٍّ و تناقضٍ و انسجام , مركزُ الرّواية الرّفاق الأربعة كانَ يُشكّلُ محوري الصّفات الإنسانية في هذا الجيل الّذي يعيشُ الواقعَ بما ورثَهُ و ما يأتيهِ على طبقٍ من حريّة : ما بينَ انحلالٍ و تزمّت , و تطرّفٍ و اعتدال , و اندماجٍ بالآخرِ حدَّ الإيثار , و أثرةٍ بالذّاتِ حدَّ الضّياع .
غريب و كريم و صادق أصدقاء شخصيّة الرّواية الأساسيّة و فارس الّذي انضمَّ إليهم بعدَ أغنيةٍ في حافلةٍ و حزنٍ عالٍ , كانوا يُشكّلونَ رؤى الكاتِب للمجتمع ..
و على الرّغمِ من قربِ العباراتِ و الألفاظ إلّا أنّ الأستاذ عاطف استخدمَ التّورية اللّفظية المخبوءةَ تحتَ الحوارات البسيطة و الذّكرياتِ الخافتةِ الهامسةِ للذّات , و الّتي نقلت كمّاً هائلاً من الرّسائل , تلكَ الرّسائل تحوي همومَ هذا الجيل و تطلّعاته أحلامه , و إحباطاته .. أمنياتهُ و ذاكرتهُ .. و خيباته ! كما أنَّه تجنّبَ ببراعةٍ التّقليديّة السّرديّة الّتي تقتل الحدث بالاستطالةِ الزّمانيّة و التّقريريّة المباشرة في الحوار , بنقلاتٍ تلبّي فضولَ القارئ و تُشبعُ رغبتهُ في ملاحقة الحدث بعيداً عن الملل عن طريقِ إشباعِ العباراتِ بأكبرِ كمٍّ ممكنٍ من المعاني .
يقولُ في أحدِ الحوارات :
" - هل تعلمُ انّكَ إذا بدأتَ بالاقترابِ إلى فئةٍ معيّنةٍ سوفَ تكونُ عدوّاً مباشراً للأخرى ؟
- - ما تتعوّد فعلهُ في الظّلام سوف ينزعجُ منه الضّوء . "
و في مكانٍ آخرٍ معنونٍ بعبارةٍ لجلال الدّين الرّومي : لا تنظر إلى وجهي المصفّر فإنَّ لي قدماً من الفولاذ , منطلقاً من دائرةِ الذّاتِ إلى محيطِ العالم :
" نصفهُ الشّمالي متقدّم و بارد و يعيش بأعصاب باردة و يقتل بأعصاب باردة و يتناول الشّاي مجمّداً و يعيشُ بسلامٍ و أمنٍ باردين , و نصفه الجنوبي متململٌ و يعيشُ بأعصاب حارّة و يحبُّ بحرارة و يتناول الشّاي حارّاً و هو في حالةِ حربٍ دائمة يُشعلها الجزء الشّمالي الّذي يبدو أن أرضهُ لا تحتمل الغليان . "
ليلامسَ بذكاءٍ عللاً تنهشُ في جسدِ المجتمع , المجتمع المتأرجحِ ما بينَ التّطرّفِ و التّطرف , في محاولةٍ لإيجادِ نقطةِ وسطٍ تضمنُ السّلامة !
اللّغة في الرّواية تنبضُ بالحياة و تأخذ طابع المدينة , مع المحاولة الخروج من قوقعة الارتباط الكليّ بالبيئة الأردنيّة إلى محيط البيئة العربيّة بشكلها الأوسع و لغةِ جيلها الشّاب المشترك في الواقع نفسهِ مع اختلاف التّسميّات .
أمّا البعد المكاني للرّواية فقد تنوّعَ ما بينَ الوطنِ و الغربة , في محاولة لرسم الخطَّ الرّفيع الفاصل و الرّابطِ في الآن ذاته بينَ الحلمِ و الأمنية , و الحنينِ و الطّموح , و الاستقلال و الانتماء .
تعتمدُ الرّوايةُ في الأساس على الصّداقة المتينة و الثّابتة و الّتي قد تكونُ أكثر قوّةً من روابطِ القرابةِ و الحبّ , الموت كانَ مرافقاً وفيّاً لسطورِ الرّواية بدءاً من نجاةِ البطلِ من الموتِ أمامَ محلِّ الخضار , مروراً بالزّميلِ الّذي سقطَ من علوِّ 80 متراً إلى والديّ كريم و وفاتهما بالسّرطان .. ثمَّ إلى الحدث الأكثر ألماً و الّذي تنتهي بهِ الرّواية دونَ أن تنتهي فعلاً , بل تترك للقارئ مساحةً شاسعةً جدّاً للأمنياتِ و الأفكارِ و الحزن .
في الرّواية يتكرّر المثل القائل : الآباء يأكلون الحصرم و الأبناء يضرسون , في قالبٍ واقعيٍّ يربطُ ما بينَ الماضي و الحاضر ... و المستقبل !
الجمل المكثّفة و القصيرة أعطت الرّواية طابعاً أوبرالياً , يتسارعُ فيهِ الإيقاعُ و يبطئ .. لكنّهُ لا يتوقّف , ممّا يمنحُ القارئ زخماً فكريّاً و تصويرياً مُدهشاً يجعلهُ في تلهّفٍ مستمرٍّ للقادم !
ثقافة الكاتب الاجتماعيّة و الأدبيّة كانَ لها دورٌ أيضاً في منح الرّواية طابعاً خاصّاً يلبّي الكثيرَ من التّوجهّات المختلفة للقرّاء و يعكسُ مرّةً أخرى الاندماج الثّقافي الّذي يتعمّق في فكر الشّباب العربي , مابينَ ثقافة الغربِ و الشّرق و تطلّعات المُستقبل و رواسب الماضي .
نجح عاطف البلوي في أن يقدّم لنا صورة الشّاب العربيّ بكلِّ ملامحهِ و تفاصيلِ ذاكرتِهِ و رغباتهِ و أحلامهِ و علاقتهُ بما حولهِ سواءاً كانَ وطناً أو حبيبةً , أم أهلاً أو أصدقاءاً ..
الرّواية تضجُّ بالحياة , حتّى أنّها تتحوّل في أماكنَ كثيرةٍ إلى كائنٍ من دمٍ و لحمٍ يبادلكَ أفكارهُ و تصوّراتِهِ و رؤاه قريباً جدّاً من الواقع الّذي يمتهنُ أدلجة التّوجهات الشّبابيّة بأسسٍ يحكمها التطرّف في التحرّر و الالتزام في ذاتِ الوقت .
أيضاً الغلاف يُعطي مقدّمة مناسبة عن الرّواية إذ يغلب عليه الطّابع المتدرّج نحو العتمة و العتمةُ المتدرّجةُ من وراءِ رجلٍ تلاحقُ ظلّهُ حقيبة حذر !
هي دعوةٌ لفتحِ أذرعةِ الفكر و استقبال الأدبِ القادمِ بقوّة و المعاصر لقضايا جيلنا و همومه و واقعه بعيداً عن سلطة الإعلامِ في دعمِ رؤى شخصيّة قد لا تتناسب و رؤانا أو أنّها قد تحدُّ من بناءنا الذّاتي لها بعيداً عن أيِّ تأثير ,
فلنبحث فينا .. سنجدُ الكثيرَ .. أجزم !
" تُرى هل كانَ عليَّ أن أنتبِهَ على تلك النّبوءة ؟ كيفَ كنتُ أبدأُ بخاتمةِ الكتابِ و تبدئينَ بمقدّمته !! لم أكن موفّقاً في التقاطِ ذلك ... تعشقينَ البدايات و أنا أهيمُ بالخاتمة ! "
هيَ لم تكن نبوءةً بقدرِ ما كنَت التقاطةً ذكيّةً للحسِّ الكتابيّ , يبدأُ روايَتَهُ بالمغادرة و يختمها بالانتظار و ما بينهما يجيدُ التّنقّلَ بحرفةٍ عاليةٍ بينَ وجلِ الأولى و رهبةِ الثّانية !
عندما تُمسِكُ بحقيبةِ حذرٍ , على أصابعِ ذاكرتِكَ أن تلامِسَ فتيلَ أقفالِها باحتراف , عليها أن تُجيدَ العزفَ على الشّوقِ و الحبِّ و الخوفِ و الفقدِ و الغربةِ و المنفى و .. الكثيرِ من الوطن !
هكذا يأتي عاطف البلوي حاملاً مِعطَفَ حذرهِ في حقيبة , و تاركاً للمطرِ فرصةَ ملامسةِ ما يحملُ على أكتافهِ من شوقٍ " حدَّ اليُتم " و وفاءٍ " حدَّ الاندماج و تفصيلٍ حدَّ التّطرّف !
حقيبة حذر رواية يدخلُ بها الكاتبُ عواطِفَ القارئِ من بابهِ الأوسَع , بالتّعابيرِ البسيطة و المفرداتِ القريبة و المعاني العميقة و يتركُ للقارئِ - لكلِّ قارئٍ - متعةَ أن يبحثَ عن نفسهِ في تلك التّفاصيل و من ثمَّ الخروج بما يُناسِبُ ذاكرتَهُ و قلبَه و مجهرَ التّفاصيلِ الصّغيرةِ المخبوءِ في حسّهِ بالآخر .
" كنتُ سأقولُ لهُ إنّي لازلتُ أذكرُ جيّداً قولك : أحبّها جدّاً يا صديقي إلى الدّرجة الّتي أتمنّى فيها أن تموت ! "
يركّزُ الأستاذ عاطف البلوي كثيراً على الآخر في روايتِه , ينطلقُ منهُ من خلالِ " الرّفاق " و يدورُ حولّهُ من خلالهم , و يبيّنُ من خلالِ تناقضاتِهم مركزيّة الآخرِ في حياةِ كلٍّ منهم , و تمحورَهم حولَ ذلكَ المحورِ اللّامرئيّ المبنيّ على أُسسٍ يشكّلُ الآخرُ لبنتها الأساسيّة و تنطوي تحتَ مسمّىً معنويٍّ جدّاً و هو الصّداقة .
الحوارات المتعدّدة منحَت الرّوايةَ طابَعاً إنسانيّاً و جعلتها تقتربُ من القارئِ بكلماتٍ محبّبةٍ عاميّةٍ أدرجها الكاتبُ بينَ الفينةِ و الأخرى ليمنحّها عبقَ أصالةِ عمّان و سحرِ هدوئها و نشاطَ ضجيجها , و ليمنحَ القارئ نشوةَ الذّاكرةِ بالوطن .
الرّسائل كانَت وسيلةَ الكاتبِ للهروبِ من رتابةِ السّردِ إلى إثارةِ المفاجأة , ليعودُ بالقارئ إلى الواقع تاركاً مساحةً في عقلهِ للأسئلةِ و التّخمينات .. كانت بمثابةِ عنصر المفاجأةِ الّتي تمنحها العصا السّحريّة لكاتبٍ يضعُ نفسَهُ في مكانِ القارئِ كثيراً قبلَ أن يكتب .
التقاطاتٌ رائعةٌ كانَت تلكَ الفواصلُ الّتي تفصلُ واقعَ الرّوايةِ عن روحها الشّعريّةِ المتمثّلةِ في رسائلهِ إليها :
" المتشابهون لا يلتقون يا حبيبة , لا يلتقون . و كأنّي بهم يحملون الشّحنةَ ذاتَها , يتنافرونَ فقط إذا اقتربوا , و لكنّهم في البعدِ قبلةٌ واحدة .
آهٍ فاتتني يعلمُ الله أنّني أشتاقكِ ... حدَّ اليتم ."
و يكمل :
" وقعُ طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب .. لا بدَّ أنّهُ المعنيُّ بآخرِ كلمة .. "
عاطف البلوي يلقي الضّوء في روايتهِ " حقيبة حذر " على الإنسان بكلِّ ما فيهِ من خيرٍ و شرٍّ و تناقضٍ و انسجام , مركزُ الرّواية الرّفاق الأربعة كانَ يُشكّلُ محوري الصّفات الإنسانية في هذا الجيل الّذي يعيشُ الواقعَ بما ورثَهُ و ما يأتيهِ على طبقٍ من حريّة : ما بينَ انحلالٍ و تزمّت , و تطرّفٍ و اعتدال , و اندماجٍ بالآخرِ حدَّ الإيثار , و أثرةٍ بالذّاتِ حدَّ الضّياع .
غريب و كريم و صادق أصدقاء شخصيّة الرّواية الأساسيّة و فارس الّذي انضمَّ إليهم بعدَ أغنيةٍ في حافلةٍ و حزنٍ عالٍ , كانوا يُشكّلونَ رؤى الكاتِب للمجتمع ..
و على الرّغمِ من قربِ العباراتِ و الألفاظ إلّا أنّ الأستاذ عاطف استخدمَ التّورية اللّفظية المخبوءةَ تحتَ الحوارات البسيطة و الذّكرياتِ الخافتةِ الهامسةِ للذّات , و الّتي نقلت كمّاً هائلاً من الرّسائل , تلكَ الرّسائل تحوي همومَ هذا الجيل و تطلّعاته أحلامه , و إحباطاته .. أمنياتهُ و ذاكرتهُ .. و خيباته ! كما أنَّه تجنّبَ ببراعةٍ التّقليديّة السّرديّة الّتي تقتل الحدث بالاستطالةِ الزّمانيّة و التّقريريّة المباشرة في الحوار , بنقلاتٍ تلبّي فضولَ القارئ و تُشبعُ رغبتهُ في ملاحقة الحدث بعيداً عن الملل عن طريقِ إشباعِ العباراتِ بأكبرِ كمٍّ ممكنٍ من المعاني .
يقولُ في أحدِ الحوارات :
" - هل تعلمُ انّكَ إذا بدأتَ بالاقترابِ إلى فئةٍ معيّنةٍ سوفَ تكونُ عدوّاً مباشراً للأخرى ؟
- - ما تتعوّد فعلهُ في الظّلام سوف ينزعجُ منه الضّوء . "
و في مكانٍ آخرٍ معنونٍ بعبارةٍ لجلال الدّين الرّومي : لا تنظر إلى وجهي المصفّر فإنَّ لي قدماً من الفولاذ , منطلقاً من دائرةِ الذّاتِ إلى محيطِ العالم :
" نصفهُ الشّمالي متقدّم و بارد و يعيش بأعصاب باردة و يقتل بأعصاب باردة و يتناول الشّاي مجمّداً و يعيشُ بسلامٍ و أمنٍ باردين , و نصفه الجنوبي متململٌ و يعيشُ بأعصاب حارّة و يحبُّ بحرارة و يتناول الشّاي حارّاً و هو في حالةِ حربٍ دائمة يُشعلها الجزء الشّمالي الّذي يبدو أن أرضهُ لا تحتمل الغليان . "
ليلامسَ بذكاءٍ عللاً تنهشُ في جسدِ المجتمع , المجتمع المتأرجحِ ما بينَ التّطرّفِ و التّطرف , في محاولةٍ لإيجادِ نقطةِ وسطٍ تضمنُ السّلامة !
اللّغة في الرّواية تنبضُ بالحياة و تأخذ طابع المدينة , مع المحاولة الخروج من قوقعة الارتباط الكليّ بالبيئة الأردنيّة إلى محيط البيئة العربيّة بشكلها الأوسع و لغةِ جيلها الشّاب المشترك في الواقع نفسهِ مع اختلاف التّسميّات .
أمّا البعد المكاني للرّواية فقد تنوّعَ ما بينَ الوطنِ و الغربة , في محاولة لرسم الخطَّ الرّفيع الفاصل و الرّابطِ في الآن ذاته بينَ الحلمِ و الأمنية , و الحنينِ و الطّموح , و الاستقلال و الانتماء .
تعتمدُ الرّوايةُ في الأساس على الصّداقة المتينة و الثّابتة و الّتي قد تكونُ أكثر قوّةً من روابطِ القرابةِ و الحبّ , الموت كانَ مرافقاً وفيّاً لسطورِ الرّواية بدءاً من نجاةِ البطلِ من الموتِ أمامَ محلِّ الخضار , مروراً بالزّميلِ الّذي سقطَ من علوِّ 80 متراً إلى والديّ كريم و وفاتهما بالسّرطان .. ثمَّ إلى الحدث الأكثر ألماً و الّذي تنتهي بهِ الرّواية دونَ أن تنتهي فعلاً , بل تترك للقارئ مساحةً شاسعةً جدّاً للأمنياتِ و الأفكارِ و الحزن .
في الرّواية يتكرّر المثل القائل : الآباء يأكلون الحصرم و الأبناء يضرسون , في قالبٍ واقعيٍّ يربطُ ما بينَ الماضي و الحاضر ... و المستقبل !
الجمل المكثّفة و القصيرة أعطت الرّواية طابعاً أوبرالياً , يتسارعُ فيهِ الإيقاعُ و يبطئ .. لكنّهُ لا يتوقّف , ممّا يمنحُ القارئ زخماً فكريّاً و تصويرياً مُدهشاً يجعلهُ في تلهّفٍ مستمرٍّ للقادم !
ثقافة الكاتب الاجتماعيّة و الأدبيّة كانَ لها دورٌ أيضاً في منح الرّواية طابعاً خاصّاً يلبّي الكثيرَ من التّوجهّات المختلفة للقرّاء و يعكسُ مرّةً أخرى الاندماج الثّقافي الّذي يتعمّق في فكر الشّباب العربي , مابينَ ثقافة الغربِ و الشّرق و تطلّعات المُستقبل و رواسب الماضي .
نجح عاطف البلوي في أن يقدّم لنا صورة الشّاب العربيّ بكلِّ ملامحهِ و تفاصيلِ ذاكرتِهِ و رغباتهِ و أحلامهِ و علاقتهُ بما حولهِ سواءاً كانَ وطناً أو حبيبةً , أم أهلاً أو أصدقاءاً ..
الرّواية تضجُّ بالحياة , حتّى أنّها تتحوّل في أماكنَ كثيرةٍ إلى كائنٍ من دمٍ و لحمٍ يبادلكَ أفكارهُ و تصوّراتِهِ و رؤاه قريباً جدّاً من الواقع الّذي يمتهنُ أدلجة التّوجهات الشّبابيّة بأسسٍ يحكمها التطرّف في التحرّر و الالتزام في ذاتِ الوقت .
أيضاً الغلاف يُعطي مقدّمة مناسبة عن الرّواية إذ يغلب عليه الطّابع المتدرّج نحو العتمة و العتمةُ المتدرّجةُ من وراءِ رجلٍ تلاحقُ ظلّهُ حقيبة حذر !
هي دعوةٌ لفتحِ أذرعةِ الفكر و استقبال الأدبِ القادمِ بقوّة و المعاصر لقضايا جيلنا و همومه و واقعه بعيداً عن سلطة الإعلامِ في دعمِ رؤى شخصيّة قد لا تتناسب و رؤانا أو أنّها قد تحدُّ من بناءنا الذّاتي لها بعيداً عن أيِّ تأثير ,
فلنبحث فينا .. سنجدُ الكثيرَ .. أجزم !