محمد مهاوش الظفيري
07-18-2009, 01:59 AM
توطئة :
الحكيم ليس ذلك الإنسان القادر على إرضاء الجميع , لأن رضا الناس غاية لا تدرك كما يقولون . وعلى هذا الأساس فالحكيم , هو ذلك الرجل العالم الفقيه العادل العارف بتفاصيل الأمور , وكما تقول بعض القواميس اللغوية أن معنى الحكمة كما في لسان العرب " معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم , ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها : حكيم " كالطبيب مثلاً . وعلى ضوء هذا الفهم , فإن الحكيم هو ليس ذلك الإنسان المداهن الليّن المساير للآخرين وفق ما يريدون , رضوخًا عند سياسة الأمر الواقع .
من خلال هذا العرض البسيط للبعد اللغوي لهذه الكلمة , فإن الحكمة تعني , التعامل المرن مع الواقع دون إفراط أو تفريط , وإعطاء كل ذي حق حقه .
إذن , فالحكمة هي قول موجز بليغ , صيغ بعبارات لغوية مختزلة , محكمة التركيب , تعبر عن رأي صاحبها في الحياة والناس . وقد فرّق الإمام السيوطي في كتابه المزهر بين الحكمة والمثل , بأن الحكمة لم تُعرف بين الناس , بينما المثل , هو الذي سار وانتشر وتناقلته الأفواه . مع العلم أن هناك شروطًا للتفريق فيما بينهما ليس هذا مجال للحديث عنهما , كارتباط المثل بحادثة قصصية معينة على سبيل المثال
هذا الفهم يقودنا للحديث عن الفلسفة , باعتبار أنها علم الحكمة , والبحث عنها عن طريق الاستقصاء المعرفي , هذه الحكمة النابعة من الفلسفة رفضت الشعر منذ زمن سقراط الذي دعا أهل بلدته في زمانه إلى الابتعاد عن الخيال الشعري , ودعاهم إلى عدم إتباع الشعراء . وقد تأثر بهذا الفكر إفلاطون من بعده , الذي طرد الشعراء خارج أسوار جمهوريته الفاضلة مبقيًا الشعراء الذين يتغنون بإنجازات الفلاسفة والعسكر والنبلاء , معللاً هذا الطرد بأن الشعر يهيج العواطف ويثير الغرائز .
إن هذا الطرد مؤشر على فهم إفلاطون الحقيقي للشعر بأنه تعبير تصويري لخلجات النفوس , وهو يتنافى مع صوت العقل الذي يدعو له في نظرياته . أما التعامل مع الحكمة في الشعر , فهي ليست نابعة من فلسفة معزولة عن ذات الشاعر , بقدر ما هي انعكاس للتجارب الواقعية المعاشة التي صاغها الشاعر بقالب شعري , وهو ما سأسميه هنا بتشعير الحكمة أو شعْرنة الحكمة , لأنها تعكس تجارب الشاعر النفسية أثناء تماسه مع ظروف الحياة المعاشة
شعْرنة الحكمة , أو تشعير الحكمة
الحكمة في الشعر نابعة من الإدراك والرؤية . وهذه العلاقة الأزلية أو شبه الأزلية بين الطرفين , قلما تجتمع لشاعر . وذلك أن الإدراك مرتبط بالعقل , بينما الرؤية لها علاقة بالتطلع , أي الحلم , والذي أوضحه الناقد العربي القديم , أبو حازم القرطاجي المتوفى بالقرن السابع الهجري من أن الشعر وسيلة للتخيل . وهنا يختلف التميز بين الشعراء حول مسألة شعْرنة الحكمة , والعمل على سكبها بالروح الشاعرية الكفيلة بمنح هذه الحكم الفضاء الشعري المطلوب . لذا فالحكمة , منها ما هو متعلق بالأمور العقلية المرتكزة على المنطلق والدليل والبرهان , ومنها ما هو متعلق بالموقف الذاتي من الحياة , وإن كان خالف المنطق والعقل , وإنما تتطابق مع نوازع النفس البشرية . فالنوع الأول من الحكم , نوع معاد ومكرر , وقد كثر الحديث عنه , غير أن الصياغات الأسلوبية بين الشعراء تختلف من شاعر لشاعر , وفيه تفريغ للشعر من محتواه الروحي . أما النوع الثاني , فهو من إبتداع الشعراء , وإن خالف الجميع , لأن فيه نظرة ذاتية تخص الشاعر دون سواه
وأنا في هذه الورقة سأسعى إلى الحكمة المعتمدة على التنظير الافتراضي في تجربة الشاعر عبد الله الخزمري , التي تبتعد عن التطبيق العلمي والتحليل الفلسفي , القائم على البرهان وقرع الحجة بالحجة , لأن هذا النوع يفسد الشعر , كما قال الجاحظ في البيان والتبيين : " القصيدة إذا كانت كلها أمثال لم تسر , ولم تجرِ مجرى النوادر " . لهذا سأبتعد عن هذا النوع , لأن مثل هذا الاتجاه فيه توجيه غير منصف للشعر , وحشره ضمن سياق المنطق , وهناك رأي سائد بين العاملين في هذا المجال أن الحكمة مرتبطة بالمنطق وتتعامل مع العقل , , وفي هذا التعامل إقلال لمنسوب الشاعرية في نصوص الشعراء , لهذا سيكون التوجه هنا إلى الحكمة من حيث كونها علاقة خاصة تعني الشاعر , ومرتبطة بالذاتية لديه
عبد الله الخزمري ... حديث الكلمات :
من يقرأ قصائد الشاعر يجد أن الحب مسيطر على الجو العام لهذه التجربة , لاسيما المتصل بالنظر الإشكالي إلى واقع التعايش مع الظروف الاستثنائية التي يمر بها الشاعر . لهذا كان الحب لديه بوابة الدخول في حركة هذا التنظير المتوافق مع الحكمة
يقول الشاعر :
ضيعت مستقبلي مـن شـان رعبوبـه=واليوم راحت لأبو المستقبـل الزاهـر
ضيعـت ثنتيـن مستقبـل ومحبـوبـه=ويا شينها يا ملا جرحيـن فـي خاطـر
لو كل عاشـق لقـى شفـه ومطلوبـه=كان البلد مـا خلـق فيهـا ولا شاعـر
الموقف من الحب موقف أزلي ممتد على امتداد التجربة الإنسانية , غير أن هذا الموقف من الوجهة النظرية الصرفة لا يعنيني في هذا الموضوع , فما يعنينا ويلفت أنظارنا , هذا الموقف الإنساني الذاتي المصاغ بطريقة جمالية . فالشاعر تكلم عن ضياع مستقبله من أجل " رعبوبة " وهي الفتاة الجميلة , لكن هذه الفتاة قد تركت الشاعر نتيجة للظروف , لهذا يعلن الشاعر إحساسه بالخسران وضياع الحب والمستقبل , مما دفعه هذا الموقف إلى إصدار هذا الرأي الخاص به
لو كل عاشـق لقـى شفـه ومطلوبـه=كان البلد مـا خلـق فيهـا ولا شاعـر
حتمًا لا يعنينا أن يبرهن الشاعر على هذا الرأي , لأنه رأي نظري افتراضي خاص بالحالة التي يمر بها , ومرتبط بتجربة الشاعر الذاتية , لهذا كان هذا الموقف الذاتي هو بمثابة إعادة صياغة لتشكيل واقع الشاعر , لكن بطريقة لا تخلو من استخفاف وسخرية
ويا ليتنـا ماكبـرنـا يــوم حبّيـنـا=يا ليت من حبّ مـا يستعجلـه عمـره!
الحب هاجس عظيم ينتاب العلاقات الإنسانية , فهو نعمة عظيمة أوجدها الخالق في عباده , خاصة بالنسبة لكلا طرفي هذه المعادلة , وهما الرجل والمرأة . فبالحب تتهذب الطباع وترتقي العلاقات , ويكون للحياة معنى وقيمة , هذا من جانب , لكن الشاعر لم يهتم بهذا الجانب رغم أهميته , وذلك أنه مشغول التفكير بما هو أهم في نظره , وهو الإحساس المرعب من سطوة الزمن على المحبين , وإحساس كلا الحبيبين بشيخوخة الحب في داخله , لهذا يطلق الشاعر هذا التنظير الجدلي الافتراضي , والذي لن يصل به إلى شيء بقدر ما يفتح هذا التساؤل المعجون بالتمني الفضاء الروحي للشاعر للسفر بعيدًا في خياله وراء هذا التصور الشخصي الأحادي , وهو تمني أن يقف الزمن للاستمتاع بهذه الأجواء من ناحية , ومن ناحية أخرى حتى لا يتسلل الزمن لتشتيت شمل المحبين , وانطفاء وهج الحب فيما بعد في النفوس
عصفور أنا أعشق سنبلـة=والحظ - فـلاحٍ بخيـل!
نلاحظ هذا التلازم مع الحب , هذا الحب المحكوم عليه بالفشل , والشعور بالإفلاس والتشظي , الأمر الذي انعكس على علاقته الذاتية مع المجردات من حوله كالزمن مثلاً , وكذلك على الحظ المقرون بالتوفيق " ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم " . فها هو الحظ يقف أمامه عائقًا مما يريد تحقيقه أو الوصول إليه
لقد صوّر نفسه بالعصفور العاشق للسنابل , أي الطبيعة الجميلة بشكل أوسع , ولولا الأشجار والسنابل ما كان للعصافير أي معنى , فهي لا تزقزق إلا بين الأشجار على الغالب , غير أن الحظ يصده عن البلوغ لِمَا يريد , حينما يتحول هذا المعنى المجرد الجالب للسعادة إلى إنسان جشع وبخيل
السعـادة كمـا ريـم الفـلا جافلـة=تشرد ان حد بغاها وان تركها تجيـه
لعل وقع الإحساس الكائن تحت تأثيره الشاعر , هو ما دفعه لهذا الانسياق وراء الهيام بالتنظير , فكانت الحكم الذاتية تتقاطر عليه ضمن هذا السياق . لقد صوّر السعادة بالظبي الذي " يجفل " ممن يريد الإمساك به أو الاقتراب منه , في الوقت الذي يدنو ممن لا يعيره أي اهتمام , وهو حقيقة لا يقصد هنا الظبي بمعناه المكشوف , وإنما يعني به المرأة , التي تتآكل من الداخل حينما تشعر بالتهميش أو الإهمال المتعمد أو غير المتعمد , في الوقت الذي " تجفل " ممن يكثر التودد لها , والتردد عليها , ويفرش لها الأرض بالزهور بمناسبة أو دون مناسبة , وفي شكل مثير للاشمئزاز , مما يدفعها في الغالب إلى عدم تحمل هذا السلوك في كثير من الأحيان
إن هذا الرأي الافتراضي من الممكن أن يكون انعكاس لعلاقته المتأزمة مع الحب , وأن الحب – ولاسيما المرأة – تكون مع من لا يسعى إليها , وهذا متضح معنا من خلال نصوص الشاعر التي صورت لديه هذه الإشكالية المريرة في حياته , وانعكست على قصائده فيما بعد
غير أن هذا الخط لم يكن هو الخط المسيطر عليه , حيث كانت تتداخل الخطوط لديه حينما يحاول الابتعاد عن الحب , والتعامل مع التنظير المتصل بشعْرنة الحكمة , والذي دخله الشاعر من باب الحب والأنثى , واستطاع فيما بعد التعامل مع هذا الحب للوصول لهذا التشعير المتوافق مع الحكمة النظرية لديه .
يقول الشاعر عبد الله الخزمري :
كل شـيّ بثمـن إلا الأمانـي بـلاش=احلمـي يـا عيونـي قـدّ ما تقدريـن
كلنا يعرف الحكمة المشهورة " الأماني أجنحة العاجز " غير أن هذا البيت حبب إلينا الشعور بالعجز , وجعله مرغوبًا من الوجهة الفنية على الأقل , ومنح المتلقي لحظة لتخيل هذه الأجنحة للطيران بها بعيدا مع هذا التمني , الذي عبر عنه الشاعر بالحلم , باعتبار أن الحلم يمنح الروح قوة سحرية للتحليق في سماء لا تؤمن بالحدود والسياجات
ولو يحقّق مطاليب الرجال...الهـواش=كان هاوشت حتـى ربعـي الأقربيـن
يمتد معه هذا الإحساس المعجون بالنظر الافتراضي إلى الواقع بما فيه من تداعيات , لذا يضع هذا التنظير للوصول هذه الفرضية , فهو يقول لو أن إثارة النزاعات قادرة على تحقيق ما يتمنى المرء من هذه الدنيا , لكان بإمكاني – أي الشاعر – من التخاصم مع كل الناس بما فيهم أقرب المقربين لي . فهذه نظرة ذاتية تخص الشاعر تتعلق بموقفه من الحياة , حاول من خلالها الدخول إلى الواقع , حتى ولو كان ذلك الدخول دخولاً عكسيًّا مثيرًا للاستغراب والتساؤل
هذا أنت يا الشعـر..لا تنفـع ولا تجـدي!=يا كـم كتبتـك ولكـن ما هنـا مكـسـب.
شالفايدة دام خلـق الله مـن بعـدي ..=ما ردّدوا بعـض ما أكتب-عندمـا أكتب !
هذان البيتان , وخاصة البيت الثاني في هذا الكلام لا يخلو من نرجسية , وصوت لل" أنا " الواضح في ذات الشاعر الممزوج بالأنانية , والحب المفرط للذات . إنه هنا يتعامل مع الشعر من سياسة العرض والطلب , وفي هذا التعامل انتقال بالشعر من الشعر إلى اللا شعر , وبمعنى أكثر إيضاحًا , كان الشاعر هنا عارضًا لبضاعة , لا صانعًا لفن , أي أنه يريد من الشعر أن يحقق له المكاسب وكأن عالم الشعر سوق تجاري , والشعراء ما هم إلا باعة متجولون في هذا السوق . إن هذه النظرة الافتراضية تعكس في الواقع أزمة الشاعر مع الشعر , هذا الشعر الذي لم يمنحه الحب وكان عبئًا نفسيًّا عليه , وذلك واضح من خلال علاقته الفاشلة إجتماعيًّا في الحب , والتي ندب حظه فيها أكثر من مرة في أشعاره التي بين أيدينا
موقف الشاعر الفاشل مع الحب إجتماعيًّا واضح في نصوصه , غير أن هذا الفشل – كما يبدو – وهو فشل عملي , وافقه نجاح نظري من خلال الشعر , إذ صوّر لنا هذه المعاناة بعدد لا بأس به من النصوص الشعرية التي عكست معاناته , وهي مجال جميل وثري للكتابة , لمن أراد تناول هذه الزاوية عند الشاعر عبد الله الخزمري في يوم من الأيام
تدري متى تعرف حقيقـة صديقـك..=ان قلت : أنا فلّست او قلت : بأتوب !
تعلق الشاعر عبد الله الخزمري بهذا النوع من الشعر لا يتضح فقط في هذا البيت , فهو منثور بين العديد من نصوصه الشعرية , وهذا يكاد يكون علامة بارزة في شعره , غير أن ما يميزه هو ذلك الجنوح إلى التنظير الافتراضي , وكأني به من خلال هذا الجانب في هذه التجربة الشعرية , ونظرًا لهذا الفشل الواضح في الحب , يريد إيجاد معادلاً يحفظ له توازنه الداخلي مع الذات , ففي الوقت الذي فشل فيه كشاعر عاشق , وذلك يتجلى مع هذين البيتين
ضيعت مستقبلي مـن شـان رعبوبـه=واليوم راحت لابو المستقبـل الزاهـر
ضيعـت ثنتيـن مستقبـل ومحبـوبـه=وياشينها يا ملا جرحيـن فـي خاطـر
ها هو ينجح في مجال العلاقة الذاتية مع الذات , فما خسره هناك , ينجح به هنا , لهذا كان للتنظير الافتراضي نصيب الأسد في تجربته الشعرية . فهذه الإضاءات الشعرية التي يسكبها الشاعر هنا تعوّض أي انزلاق عاطفي إجتماعي أثّر على مسيرة الشاعر مع الشعر . لذا اتجه هذا الاتجاه . إنه يرسم لنا نظرته حول الصداقة والأصدقاء من زاويتين لا يخلوان من طرافة في الالتفات , حيث يقول في هذا البيت إن قلة المال واتجاه المسار الحياتي لدى الشخص هما الوحيدان – كما يعتقد الشاعر – الكفيلان بتغيير طباع الأصدقاء , وهذا الرأي لا يخلو من غرابة , ولا يخلو من جرأة في التصور والتنظير , كما أن هذا البيت يعكس إشكالية تعامل الشاعر مع المال والدين , فالمال أضاع منه الحبيبة " واليوم راحت لأبو المستقبل الزاهر " , وكذلك الدين أحدث له أزمة في علاقته مع الفوضى في حياته من شراب و " تدخين " وبعض الممارسات الأخرى المبثوثة في شعره , والتي عبّر عنها بهذا البيت
سويّت كـل البـلاوي ماعـدا=أدخل كنيسة او أسجد للوثـن
لهذا يطلق هذه الرؤية الأحادية الخاصة به من خلال تعاطيه مع الحياة والأصدقاء " إن قلت : أنا فلست أو قلت : بأتوب " كدليل على هذا الشعور بالتأزم . غير أن هذه الإشكالية لم تمنعه من الرضوخ القسري لسطوة الدين والعرف عليه , وأنه مهما حاول الإنفلات من هذه القبضة , لابد له من الاستسلام لهذا الناقوس القادم من مجاهل النفس والتاريخ , رغمًا عن إرادته
أحيان أوضي قبل وقـت النـدا=وأحيان أسلم ولا أصلي السنن!
سويّت كـل البـلاوي ماعـدا:=أدخل كنيسة أو أسجد للوثـن)
ذنوب-وذنوبـي أفسى م العِـدا=الذنب جـلاّد والليـل السجـن!
فهو يعلن رضوخه , رغم هذا التمرد الواضح فيه , والذي عبّر عنه بأنه فعل كل شيء في هذه الحياة ما عدا دخول غير معابد المسلمين أو السجود لصنم , ليفتح هذا الاستثناء كل إمكانيات التفكير بأنه فعل الأفاعيل من الذنوب , وذلك من أجل أن يصل بنفسه إلى هذه الحكمة الذاتية الخاصة به " الذنب جلاد والليل السجن " , فالليل هو ليل السكارى المعربدين الموغلين بالذنوب والمعاصي , كما أن الإحساس بثقل هذه الذنوب " الذنب جلاد " مفتاح للتفكير بهذه الخطايا , والتي جعلته يقول بأنه إنسان يتوضأ ويصلي الفروض , في الوقت الذي يفعل فيه المعاصي الأخرى , ومتباهيًا رغم كل هذا بأنه لم يكفر ولم يبشرك بالله , رغم ما اقترفه من ذنوب وخطايا , في المقابل يظل مجال التفكير في قوله " والليل السجن " بأنه طريق للتوبة والخلوة مع الذات ومحاسبتها عما اقترف من ذنوب وخطايا في مسيرة حياته
ثلاثينـي مضت..مـا بيـن فكّـي وقتـي البوّاق =أثاري كل يـوم يمـرّ أمـوت ولا أحسب حسابـي
وأنا أتناقص..ويتساقط مـن أغصانـي ثمـر وأوراق..=وتتهاوى حصوني - حصـن يتبـع حصن-بغيابـي..!
فبعض أحيان أقول إن جا الفرح وإلا فبالطقّاق ..=وأنا اللي كل صيف أنوي الـزواج ولا أكتـب كتابـي..
وهذي الأرض مليانة نسا مـن أطيـب الأعـراق..=ولكـن رغـم حبـي للنسا لا زلــت عـزّابـي!
في هذه المقطوعة يعكس لنا الشاعر كالعادة علاقته التأزمية مع الزمن والحب , حيث صوّر الوقت بوحش كاسر مخيف له فكان , وهو مع هذا " بوّاق " أي لص سارق , سرق منه العمر والاستمتاع بالنشوة مع الوقت وخاصة أيام الصبا وزمن الحب الأول . إنه يرى الزمن يتسلل إليه ليقضي على سنوات عمره , سنة وراء أخرى , هذا الشعور خلق لدى الشاعر الإحساس بعدم الاتزان النفسي , لذلك هو متردد , لا يستقر على رأي , فمرة يميل للفرح , ومرة أخرى يقول له " بالطقّاق " كإشارة على منتهى الاستهتار في تعامله مع الحياة , والتي عكسها هذا التردد الكبير بين رغبته بالزواج وجنوحه عنه , وكأنه في صراع لا يُعرف له قرار
لا تسولف كثرة الحكي ما تملي البطـون=كم تعشّينا السوالـف ونمنـا جايعيـن؟
الشاعر يرفض الإكثار من الكلام , أي أنه لا يرفض الكلام ككل , لأن الكلام يعني لديه الشعر , والشعر هو المتنفس الحقيقي له للخلاص من همومه التي تعتصره , غير أنه يحتج على الكلام الزائد عن الحاجة الذي لا يغني ولا يسمن من جوع . وهذا الكلام فيه التقاء مع المثل المشهور " خير الكلام ما قل ودل " , لكننا لو نظرنا له من هذه الزاوية , فلن نقدم أي شيء جديد , باعتبار أن التطرق لمثل هذه الأمور البالية يعتبر مضيعة للوقت والجهد , غير أن الملفت للانتباه هنا " كم تعشينا السوالف ونمنا جايعين " لأن أمثال هذا التنظير هو الذي يحفزنا للكتابة والتأمل من ناحية , ومن ناحية أخرى , يحرضنا على التفكير ولا يطالبنا بالإجابة , ويفتح مجال التأمل في هذا الكلام , ويجعلنا نشرف على سماوات من المعرفة الإنسانية لا تعرف الحدود
يا بحر في وجنـة المينـا رسمـت أغلى أماني=أسألك يا بحر قل لي مـن محـى ذيـك المشاعـر؟
جيت أدورها مسـا البـارح لقيـت آثار ثانـي=واحدٍ غيري شطب شعري وهو ما هو بشاعر!!
كنت أظن الخـط يبقـى رغـم دورات الثوانـي=ما دريت إن الزمن ينسى مـلامـح مـن يغـادر!!
هذه المقطوعة موجعة لدرجة الشعور بالتوحد مع الألم .
في هذا الكلام إحساس مزدوج بالإفلاس والتشظي المرير , فالشاعر فقد الحب حينما فقد الأنثى , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى عكست هذه المقطوعة الشعور بالتأزم الفردي مع الزمن . غير أن هناك معضلة لم يستطع الشاعر التخلص منها في العديد من نصوصه , وهو معضلة الآخر , وأعني بالآخر هنا هو الشخص الثالث , وهو الذي يشكل مثلث الحب العربي , والذي غالبًا ما يكون العاذل الذي يدمر حياة الحبيبين , لكن الشاعر هنا استعاض عنه بالخاطف الذي خطف المحبوبة من بين يديه . وبصرف النظر إن كان الشاعر صادقًا في هذا الجنوح أو غير صادق , وأقصد هنا بالصدق , هو الصدق الإنساني الواقعي لا الصدق الأدبي أو الشعري , فإنني أرى أنه أكثر من هذا العويل الصاخب في نصوصه , والذي جعلنا كمتلقين ننتقل من الإعجاب فيه إلى الشفقة عليه . وهذا ما يجعلنا نحاول أن نفهم أسباب إنكفاء الشاعر في أكثر من نص على ذاته , والتصريح العلني باسمه الصريح " والحبر من دم عبد الله عطية – مع تحيات عبد الله عطية " , وبعض الأحيان يجمع اسمه واسم قبيلته , كما في هذا البيت
وأنا سمعتك تنادي باسم زهراني=صحيح ؟ قالت نعم ناديت عبد الله
إن أمثال هذه المسميات التي وضعها الشاعر في هذه القصائد , جاءت كإشارة دلالية على وجوده , وذلك بشكل خالٍ من الترميز أو اللجوء إلى القناع , أو الإعتماد على المعادل الموضوعي الذي يخلصه من الكثير من الإشكاليات , التي يستطيع الشاعر عن طريقها الإختباء خلفها للتعبير عن ذاته . لعل هذا الإحساس المكشوف هو ما جعله يتحدث عن نفسه بهذه الصراحة ودون أي مواربة " الناس تشرب وأنا مسطول ع الريحة " , وكذلك التصريح العلني باسمه في أكثر من نص كما مر بنا , حيث شكل له هذا السلوك الشعري لديه حقيقة محفزًا للكتابة , وعقدة لم يستطع الخروج منها
الحكيم ليس ذلك الإنسان القادر على إرضاء الجميع , لأن رضا الناس غاية لا تدرك كما يقولون . وعلى هذا الأساس فالحكيم , هو ذلك الرجل العالم الفقيه العادل العارف بتفاصيل الأمور , وكما تقول بعض القواميس اللغوية أن معنى الحكمة كما في لسان العرب " معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم , ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها : حكيم " كالطبيب مثلاً . وعلى ضوء هذا الفهم , فإن الحكيم هو ليس ذلك الإنسان المداهن الليّن المساير للآخرين وفق ما يريدون , رضوخًا عند سياسة الأمر الواقع .
من خلال هذا العرض البسيط للبعد اللغوي لهذه الكلمة , فإن الحكمة تعني , التعامل المرن مع الواقع دون إفراط أو تفريط , وإعطاء كل ذي حق حقه .
إذن , فالحكمة هي قول موجز بليغ , صيغ بعبارات لغوية مختزلة , محكمة التركيب , تعبر عن رأي صاحبها في الحياة والناس . وقد فرّق الإمام السيوطي في كتابه المزهر بين الحكمة والمثل , بأن الحكمة لم تُعرف بين الناس , بينما المثل , هو الذي سار وانتشر وتناقلته الأفواه . مع العلم أن هناك شروطًا للتفريق فيما بينهما ليس هذا مجال للحديث عنهما , كارتباط المثل بحادثة قصصية معينة على سبيل المثال
هذا الفهم يقودنا للحديث عن الفلسفة , باعتبار أنها علم الحكمة , والبحث عنها عن طريق الاستقصاء المعرفي , هذه الحكمة النابعة من الفلسفة رفضت الشعر منذ زمن سقراط الذي دعا أهل بلدته في زمانه إلى الابتعاد عن الخيال الشعري , ودعاهم إلى عدم إتباع الشعراء . وقد تأثر بهذا الفكر إفلاطون من بعده , الذي طرد الشعراء خارج أسوار جمهوريته الفاضلة مبقيًا الشعراء الذين يتغنون بإنجازات الفلاسفة والعسكر والنبلاء , معللاً هذا الطرد بأن الشعر يهيج العواطف ويثير الغرائز .
إن هذا الطرد مؤشر على فهم إفلاطون الحقيقي للشعر بأنه تعبير تصويري لخلجات النفوس , وهو يتنافى مع صوت العقل الذي يدعو له في نظرياته . أما التعامل مع الحكمة في الشعر , فهي ليست نابعة من فلسفة معزولة عن ذات الشاعر , بقدر ما هي انعكاس للتجارب الواقعية المعاشة التي صاغها الشاعر بقالب شعري , وهو ما سأسميه هنا بتشعير الحكمة أو شعْرنة الحكمة , لأنها تعكس تجارب الشاعر النفسية أثناء تماسه مع ظروف الحياة المعاشة
شعْرنة الحكمة , أو تشعير الحكمة
الحكمة في الشعر نابعة من الإدراك والرؤية . وهذه العلاقة الأزلية أو شبه الأزلية بين الطرفين , قلما تجتمع لشاعر . وذلك أن الإدراك مرتبط بالعقل , بينما الرؤية لها علاقة بالتطلع , أي الحلم , والذي أوضحه الناقد العربي القديم , أبو حازم القرطاجي المتوفى بالقرن السابع الهجري من أن الشعر وسيلة للتخيل . وهنا يختلف التميز بين الشعراء حول مسألة شعْرنة الحكمة , والعمل على سكبها بالروح الشاعرية الكفيلة بمنح هذه الحكم الفضاء الشعري المطلوب . لذا فالحكمة , منها ما هو متعلق بالأمور العقلية المرتكزة على المنطلق والدليل والبرهان , ومنها ما هو متعلق بالموقف الذاتي من الحياة , وإن كان خالف المنطق والعقل , وإنما تتطابق مع نوازع النفس البشرية . فالنوع الأول من الحكم , نوع معاد ومكرر , وقد كثر الحديث عنه , غير أن الصياغات الأسلوبية بين الشعراء تختلف من شاعر لشاعر , وفيه تفريغ للشعر من محتواه الروحي . أما النوع الثاني , فهو من إبتداع الشعراء , وإن خالف الجميع , لأن فيه نظرة ذاتية تخص الشاعر دون سواه
وأنا في هذه الورقة سأسعى إلى الحكمة المعتمدة على التنظير الافتراضي في تجربة الشاعر عبد الله الخزمري , التي تبتعد عن التطبيق العلمي والتحليل الفلسفي , القائم على البرهان وقرع الحجة بالحجة , لأن هذا النوع يفسد الشعر , كما قال الجاحظ في البيان والتبيين : " القصيدة إذا كانت كلها أمثال لم تسر , ولم تجرِ مجرى النوادر " . لهذا سأبتعد عن هذا النوع , لأن مثل هذا الاتجاه فيه توجيه غير منصف للشعر , وحشره ضمن سياق المنطق , وهناك رأي سائد بين العاملين في هذا المجال أن الحكمة مرتبطة بالمنطق وتتعامل مع العقل , , وفي هذا التعامل إقلال لمنسوب الشاعرية في نصوص الشعراء , لهذا سيكون التوجه هنا إلى الحكمة من حيث كونها علاقة خاصة تعني الشاعر , ومرتبطة بالذاتية لديه
عبد الله الخزمري ... حديث الكلمات :
من يقرأ قصائد الشاعر يجد أن الحب مسيطر على الجو العام لهذه التجربة , لاسيما المتصل بالنظر الإشكالي إلى واقع التعايش مع الظروف الاستثنائية التي يمر بها الشاعر . لهذا كان الحب لديه بوابة الدخول في حركة هذا التنظير المتوافق مع الحكمة
يقول الشاعر :
ضيعت مستقبلي مـن شـان رعبوبـه=واليوم راحت لأبو المستقبـل الزاهـر
ضيعـت ثنتيـن مستقبـل ومحبـوبـه=ويا شينها يا ملا جرحيـن فـي خاطـر
لو كل عاشـق لقـى شفـه ومطلوبـه=كان البلد مـا خلـق فيهـا ولا شاعـر
الموقف من الحب موقف أزلي ممتد على امتداد التجربة الإنسانية , غير أن هذا الموقف من الوجهة النظرية الصرفة لا يعنيني في هذا الموضوع , فما يعنينا ويلفت أنظارنا , هذا الموقف الإنساني الذاتي المصاغ بطريقة جمالية . فالشاعر تكلم عن ضياع مستقبله من أجل " رعبوبة " وهي الفتاة الجميلة , لكن هذه الفتاة قد تركت الشاعر نتيجة للظروف , لهذا يعلن الشاعر إحساسه بالخسران وضياع الحب والمستقبل , مما دفعه هذا الموقف إلى إصدار هذا الرأي الخاص به
لو كل عاشـق لقـى شفـه ومطلوبـه=كان البلد مـا خلـق فيهـا ولا شاعـر
حتمًا لا يعنينا أن يبرهن الشاعر على هذا الرأي , لأنه رأي نظري افتراضي خاص بالحالة التي يمر بها , ومرتبط بتجربة الشاعر الذاتية , لهذا كان هذا الموقف الذاتي هو بمثابة إعادة صياغة لتشكيل واقع الشاعر , لكن بطريقة لا تخلو من استخفاف وسخرية
ويا ليتنـا ماكبـرنـا يــوم حبّيـنـا=يا ليت من حبّ مـا يستعجلـه عمـره!
الحب هاجس عظيم ينتاب العلاقات الإنسانية , فهو نعمة عظيمة أوجدها الخالق في عباده , خاصة بالنسبة لكلا طرفي هذه المعادلة , وهما الرجل والمرأة . فبالحب تتهذب الطباع وترتقي العلاقات , ويكون للحياة معنى وقيمة , هذا من جانب , لكن الشاعر لم يهتم بهذا الجانب رغم أهميته , وذلك أنه مشغول التفكير بما هو أهم في نظره , وهو الإحساس المرعب من سطوة الزمن على المحبين , وإحساس كلا الحبيبين بشيخوخة الحب في داخله , لهذا يطلق الشاعر هذا التنظير الجدلي الافتراضي , والذي لن يصل به إلى شيء بقدر ما يفتح هذا التساؤل المعجون بالتمني الفضاء الروحي للشاعر للسفر بعيدًا في خياله وراء هذا التصور الشخصي الأحادي , وهو تمني أن يقف الزمن للاستمتاع بهذه الأجواء من ناحية , ومن ناحية أخرى حتى لا يتسلل الزمن لتشتيت شمل المحبين , وانطفاء وهج الحب فيما بعد في النفوس
عصفور أنا أعشق سنبلـة=والحظ - فـلاحٍ بخيـل!
نلاحظ هذا التلازم مع الحب , هذا الحب المحكوم عليه بالفشل , والشعور بالإفلاس والتشظي , الأمر الذي انعكس على علاقته الذاتية مع المجردات من حوله كالزمن مثلاً , وكذلك على الحظ المقرون بالتوفيق " ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم " . فها هو الحظ يقف أمامه عائقًا مما يريد تحقيقه أو الوصول إليه
لقد صوّر نفسه بالعصفور العاشق للسنابل , أي الطبيعة الجميلة بشكل أوسع , ولولا الأشجار والسنابل ما كان للعصافير أي معنى , فهي لا تزقزق إلا بين الأشجار على الغالب , غير أن الحظ يصده عن البلوغ لِمَا يريد , حينما يتحول هذا المعنى المجرد الجالب للسعادة إلى إنسان جشع وبخيل
السعـادة كمـا ريـم الفـلا جافلـة=تشرد ان حد بغاها وان تركها تجيـه
لعل وقع الإحساس الكائن تحت تأثيره الشاعر , هو ما دفعه لهذا الانسياق وراء الهيام بالتنظير , فكانت الحكم الذاتية تتقاطر عليه ضمن هذا السياق . لقد صوّر السعادة بالظبي الذي " يجفل " ممن يريد الإمساك به أو الاقتراب منه , في الوقت الذي يدنو ممن لا يعيره أي اهتمام , وهو حقيقة لا يقصد هنا الظبي بمعناه المكشوف , وإنما يعني به المرأة , التي تتآكل من الداخل حينما تشعر بالتهميش أو الإهمال المتعمد أو غير المتعمد , في الوقت الذي " تجفل " ممن يكثر التودد لها , والتردد عليها , ويفرش لها الأرض بالزهور بمناسبة أو دون مناسبة , وفي شكل مثير للاشمئزاز , مما يدفعها في الغالب إلى عدم تحمل هذا السلوك في كثير من الأحيان
إن هذا الرأي الافتراضي من الممكن أن يكون انعكاس لعلاقته المتأزمة مع الحب , وأن الحب – ولاسيما المرأة – تكون مع من لا يسعى إليها , وهذا متضح معنا من خلال نصوص الشاعر التي صورت لديه هذه الإشكالية المريرة في حياته , وانعكست على قصائده فيما بعد
غير أن هذا الخط لم يكن هو الخط المسيطر عليه , حيث كانت تتداخل الخطوط لديه حينما يحاول الابتعاد عن الحب , والتعامل مع التنظير المتصل بشعْرنة الحكمة , والذي دخله الشاعر من باب الحب والأنثى , واستطاع فيما بعد التعامل مع هذا الحب للوصول لهذا التشعير المتوافق مع الحكمة النظرية لديه .
يقول الشاعر عبد الله الخزمري :
كل شـيّ بثمـن إلا الأمانـي بـلاش=احلمـي يـا عيونـي قـدّ ما تقدريـن
كلنا يعرف الحكمة المشهورة " الأماني أجنحة العاجز " غير أن هذا البيت حبب إلينا الشعور بالعجز , وجعله مرغوبًا من الوجهة الفنية على الأقل , ومنح المتلقي لحظة لتخيل هذه الأجنحة للطيران بها بعيدا مع هذا التمني , الذي عبر عنه الشاعر بالحلم , باعتبار أن الحلم يمنح الروح قوة سحرية للتحليق في سماء لا تؤمن بالحدود والسياجات
ولو يحقّق مطاليب الرجال...الهـواش=كان هاوشت حتـى ربعـي الأقربيـن
يمتد معه هذا الإحساس المعجون بالنظر الافتراضي إلى الواقع بما فيه من تداعيات , لذا يضع هذا التنظير للوصول هذه الفرضية , فهو يقول لو أن إثارة النزاعات قادرة على تحقيق ما يتمنى المرء من هذه الدنيا , لكان بإمكاني – أي الشاعر – من التخاصم مع كل الناس بما فيهم أقرب المقربين لي . فهذه نظرة ذاتية تخص الشاعر تتعلق بموقفه من الحياة , حاول من خلالها الدخول إلى الواقع , حتى ولو كان ذلك الدخول دخولاً عكسيًّا مثيرًا للاستغراب والتساؤل
هذا أنت يا الشعـر..لا تنفـع ولا تجـدي!=يا كـم كتبتـك ولكـن ما هنـا مكـسـب.
شالفايدة دام خلـق الله مـن بعـدي ..=ما ردّدوا بعـض ما أكتب-عندمـا أكتب !
هذان البيتان , وخاصة البيت الثاني في هذا الكلام لا يخلو من نرجسية , وصوت لل" أنا " الواضح في ذات الشاعر الممزوج بالأنانية , والحب المفرط للذات . إنه هنا يتعامل مع الشعر من سياسة العرض والطلب , وفي هذا التعامل انتقال بالشعر من الشعر إلى اللا شعر , وبمعنى أكثر إيضاحًا , كان الشاعر هنا عارضًا لبضاعة , لا صانعًا لفن , أي أنه يريد من الشعر أن يحقق له المكاسب وكأن عالم الشعر سوق تجاري , والشعراء ما هم إلا باعة متجولون في هذا السوق . إن هذه النظرة الافتراضية تعكس في الواقع أزمة الشاعر مع الشعر , هذا الشعر الذي لم يمنحه الحب وكان عبئًا نفسيًّا عليه , وذلك واضح من خلال علاقته الفاشلة إجتماعيًّا في الحب , والتي ندب حظه فيها أكثر من مرة في أشعاره التي بين أيدينا
موقف الشاعر الفاشل مع الحب إجتماعيًّا واضح في نصوصه , غير أن هذا الفشل – كما يبدو – وهو فشل عملي , وافقه نجاح نظري من خلال الشعر , إذ صوّر لنا هذه المعاناة بعدد لا بأس به من النصوص الشعرية التي عكست معاناته , وهي مجال جميل وثري للكتابة , لمن أراد تناول هذه الزاوية عند الشاعر عبد الله الخزمري في يوم من الأيام
تدري متى تعرف حقيقـة صديقـك..=ان قلت : أنا فلّست او قلت : بأتوب !
تعلق الشاعر عبد الله الخزمري بهذا النوع من الشعر لا يتضح فقط في هذا البيت , فهو منثور بين العديد من نصوصه الشعرية , وهذا يكاد يكون علامة بارزة في شعره , غير أن ما يميزه هو ذلك الجنوح إلى التنظير الافتراضي , وكأني به من خلال هذا الجانب في هذه التجربة الشعرية , ونظرًا لهذا الفشل الواضح في الحب , يريد إيجاد معادلاً يحفظ له توازنه الداخلي مع الذات , ففي الوقت الذي فشل فيه كشاعر عاشق , وذلك يتجلى مع هذين البيتين
ضيعت مستقبلي مـن شـان رعبوبـه=واليوم راحت لابو المستقبـل الزاهـر
ضيعـت ثنتيـن مستقبـل ومحبـوبـه=وياشينها يا ملا جرحيـن فـي خاطـر
ها هو ينجح في مجال العلاقة الذاتية مع الذات , فما خسره هناك , ينجح به هنا , لهذا كان للتنظير الافتراضي نصيب الأسد في تجربته الشعرية . فهذه الإضاءات الشعرية التي يسكبها الشاعر هنا تعوّض أي انزلاق عاطفي إجتماعي أثّر على مسيرة الشاعر مع الشعر . لذا اتجه هذا الاتجاه . إنه يرسم لنا نظرته حول الصداقة والأصدقاء من زاويتين لا يخلوان من طرافة في الالتفات , حيث يقول في هذا البيت إن قلة المال واتجاه المسار الحياتي لدى الشخص هما الوحيدان – كما يعتقد الشاعر – الكفيلان بتغيير طباع الأصدقاء , وهذا الرأي لا يخلو من غرابة , ولا يخلو من جرأة في التصور والتنظير , كما أن هذا البيت يعكس إشكالية تعامل الشاعر مع المال والدين , فالمال أضاع منه الحبيبة " واليوم راحت لأبو المستقبل الزاهر " , وكذلك الدين أحدث له أزمة في علاقته مع الفوضى في حياته من شراب و " تدخين " وبعض الممارسات الأخرى المبثوثة في شعره , والتي عبّر عنها بهذا البيت
سويّت كـل البـلاوي ماعـدا=أدخل كنيسة او أسجد للوثـن
لهذا يطلق هذه الرؤية الأحادية الخاصة به من خلال تعاطيه مع الحياة والأصدقاء " إن قلت : أنا فلست أو قلت : بأتوب " كدليل على هذا الشعور بالتأزم . غير أن هذه الإشكالية لم تمنعه من الرضوخ القسري لسطوة الدين والعرف عليه , وأنه مهما حاول الإنفلات من هذه القبضة , لابد له من الاستسلام لهذا الناقوس القادم من مجاهل النفس والتاريخ , رغمًا عن إرادته
أحيان أوضي قبل وقـت النـدا=وأحيان أسلم ولا أصلي السنن!
سويّت كـل البـلاوي ماعـدا:=أدخل كنيسة أو أسجد للوثـن)
ذنوب-وذنوبـي أفسى م العِـدا=الذنب جـلاّد والليـل السجـن!
فهو يعلن رضوخه , رغم هذا التمرد الواضح فيه , والذي عبّر عنه بأنه فعل كل شيء في هذه الحياة ما عدا دخول غير معابد المسلمين أو السجود لصنم , ليفتح هذا الاستثناء كل إمكانيات التفكير بأنه فعل الأفاعيل من الذنوب , وذلك من أجل أن يصل بنفسه إلى هذه الحكمة الذاتية الخاصة به " الذنب جلاد والليل السجن " , فالليل هو ليل السكارى المعربدين الموغلين بالذنوب والمعاصي , كما أن الإحساس بثقل هذه الذنوب " الذنب جلاد " مفتاح للتفكير بهذه الخطايا , والتي جعلته يقول بأنه إنسان يتوضأ ويصلي الفروض , في الوقت الذي يفعل فيه المعاصي الأخرى , ومتباهيًا رغم كل هذا بأنه لم يكفر ولم يبشرك بالله , رغم ما اقترفه من ذنوب وخطايا , في المقابل يظل مجال التفكير في قوله " والليل السجن " بأنه طريق للتوبة والخلوة مع الذات ومحاسبتها عما اقترف من ذنوب وخطايا في مسيرة حياته
ثلاثينـي مضت..مـا بيـن فكّـي وقتـي البوّاق =أثاري كل يـوم يمـرّ أمـوت ولا أحسب حسابـي
وأنا أتناقص..ويتساقط مـن أغصانـي ثمـر وأوراق..=وتتهاوى حصوني - حصـن يتبـع حصن-بغيابـي..!
فبعض أحيان أقول إن جا الفرح وإلا فبالطقّاق ..=وأنا اللي كل صيف أنوي الـزواج ولا أكتـب كتابـي..
وهذي الأرض مليانة نسا مـن أطيـب الأعـراق..=ولكـن رغـم حبـي للنسا لا زلــت عـزّابـي!
في هذه المقطوعة يعكس لنا الشاعر كالعادة علاقته التأزمية مع الزمن والحب , حيث صوّر الوقت بوحش كاسر مخيف له فكان , وهو مع هذا " بوّاق " أي لص سارق , سرق منه العمر والاستمتاع بالنشوة مع الوقت وخاصة أيام الصبا وزمن الحب الأول . إنه يرى الزمن يتسلل إليه ليقضي على سنوات عمره , سنة وراء أخرى , هذا الشعور خلق لدى الشاعر الإحساس بعدم الاتزان النفسي , لذلك هو متردد , لا يستقر على رأي , فمرة يميل للفرح , ومرة أخرى يقول له " بالطقّاق " كإشارة على منتهى الاستهتار في تعامله مع الحياة , والتي عكسها هذا التردد الكبير بين رغبته بالزواج وجنوحه عنه , وكأنه في صراع لا يُعرف له قرار
لا تسولف كثرة الحكي ما تملي البطـون=كم تعشّينا السوالـف ونمنـا جايعيـن؟
الشاعر يرفض الإكثار من الكلام , أي أنه لا يرفض الكلام ككل , لأن الكلام يعني لديه الشعر , والشعر هو المتنفس الحقيقي له للخلاص من همومه التي تعتصره , غير أنه يحتج على الكلام الزائد عن الحاجة الذي لا يغني ولا يسمن من جوع . وهذا الكلام فيه التقاء مع المثل المشهور " خير الكلام ما قل ودل " , لكننا لو نظرنا له من هذه الزاوية , فلن نقدم أي شيء جديد , باعتبار أن التطرق لمثل هذه الأمور البالية يعتبر مضيعة للوقت والجهد , غير أن الملفت للانتباه هنا " كم تعشينا السوالف ونمنا جايعين " لأن أمثال هذا التنظير هو الذي يحفزنا للكتابة والتأمل من ناحية , ومن ناحية أخرى , يحرضنا على التفكير ولا يطالبنا بالإجابة , ويفتح مجال التأمل في هذا الكلام , ويجعلنا نشرف على سماوات من المعرفة الإنسانية لا تعرف الحدود
يا بحر في وجنـة المينـا رسمـت أغلى أماني=أسألك يا بحر قل لي مـن محـى ذيـك المشاعـر؟
جيت أدورها مسـا البـارح لقيـت آثار ثانـي=واحدٍ غيري شطب شعري وهو ما هو بشاعر!!
كنت أظن الخـط يبقـى رغـم دورات الثوانـي=ما دريت إن الزمن ينسى مـلامـح مـن يغـادر!!
هذه المقطوعة موجعة لدرجة الشعور بالتوحد مع الألم .
في هذا الكلام إحساس مزدوج بالإفلاس والتشظي المرير , فالشاعر فقد الحب حينما فقد الأنثى , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى عكست هذه المقطوعة الشعور بالتأزم الفردي مع الزمن . غير أن هناك معضلة لم يستطع الشاعر التخلص منها في العديد من نصوصه , وهو معضلة الآخر , وأعني بالآخر هنا هو الشخص الثالث , وهو الذي يشكل مثلث الحب العربي , والذي غالبًا ما يكون العاذل الذي يدمر حياة الحبيبين , لكن الشاعر هنا استعاض عنه بالخاطف الذي خطف المحبوبة من بين يديه . وبصرف النظر إن كان الشاعر صادقًا في هذا الجنوح أو غير صادق , وأقصد هنا بالصدق , هو الصدق الإنساني الواقعي لا الصدق الأدبي أو الشعري , فإنني أرى أنه أكثر من هذا العويل الصاخب في نصوصه , والذي جعلنا كمتلقين ننتقل من الإعجاب فيه إلى الشفقة عليه . وهذا ما يجعلنا نحاول أن نفهم أسباب إنكفاء الشاعر في أكثر من نص على ذاته , والتصريح العلني باسمه الصريح " والحبر من دم عبد الله عطية – مع تحيات عبد الله عطية " , وبعض الأحيان يجمع اسمه واسم قبيلته , كما في هذا البيت
وأنا سمعتك تنادي باسم زهراني=صحيح ؟ قالت نعم ناديت عبد الله
إن أمثال هذه المسميات التي وضعها الشاعر في هذه القصائد , جاءت كإشارة دلالية على وجوده , وذلك بشكل خالٍ من الترميز أو اللجوء إلى القناع , أو الإعتماد على المعادل الموضوعي الذي يخلصه من الكثير من الإشكاليات , التي يستطيع الشاعر عن طريقها الإختباء خلفها للتعبير عن ذاته . لعل هذا الإحساس المكشوف هو ما جعله يتحدث عن نفسه بهذه الصراحة ودون أي مواربة " الناس تشرب وأنا مسطول ع الريحة " , وكذلك التصريح العلني باسمه في أكثر من نص كما مر بنا , حيث شكل له هذا السلوك الشعري لديه حقيقة محفزًا للكتابة , وعقدة لم يستطع الخروج منها