تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الحياة في الخروج


عبد الله العُتَيِّق
05-28-2010, 02:38 AM
كل فتح جديد، و كل خطوة إلى الأمام في مجال المعرفة إنما هي متأتية من الشجاعة، و من الشدة على النفس، و من النقاوة تجاه الذات.
نيتشه

تجري الحياة، كثيراً، بما لا يشتهي الإنسان، و تأتي بما لا يروق له، فإما أن يحتمل أو لا، ومن احتملَ ملَّ، ومن لم يحتملْ زلَّ، فهو بين نارَي القرارَيْن، و في جحيم الحالين. كثيرون هم الناس الذي ذاقوا لأواء الدنيا، و استطعموا مرارتها، و لكن قليلٌ منهم من تجاوزَ ذلك و غادره لأفضل منه. إن مجاوزةَ الحالِ اللا مقبول من محاسن ما يجود به العقل على الإنسان، فإن البقاءَ في حالٍ لا مقبولةٍ كالبقاءِ في جوف نارٍ تصطلي، و لا يطيق أحدٌ صبراً على نارِ الحياة.
هذا الشيءُ ليس من صنيع الإنسان، بل هو قانون الحياة، و فيه سرها، فالخالقُ أمرَ بذلك، ففي طلب الأرزاق أرشد إلى الضربِ في الأرضو المشي فيها، و كذلك في تحصيل المعارف و ثقافات الحضارات، و بهذا كله تكون وظيفة الخلافة في الأرض، و أما أن تتحقق المقاصد الإلهية بالمكثِ دون بحثٍ فهذا من عبثِ الإنسان المرفوض في قانون السنن الكونية، و الخالق في شرائعه أقرَّ تلك السنن. فليس في فلسفة الخروجِ و الطرْقِ في الأرضِ إلا تحقيق لمقاصد الله الخالق، و تحقيق لحقيقة الإنسان.
تناقلَ الناسُ هذا المعنى الجميل، ففي شَعبيِّ الأمثالِ " ديرتُك التي تُرزقُ بها "، فليست هي التي تنشأ فيها، فالإنسان ابنٌ للأرضِ التي تصنع منه ناهضاً و عامراً و بانيا، و ليس ابن الأرضِ التي تصنع منه منتسبا منتمياً، لأجلِ هذا كانت الرحلةُ في طلبِ أرزاق الحياة، الأرزاق للجسد، و الأرزاق للعقل، و الأرزاق للحياة بعمومها، فرحلتِ الأمم لتبني حضارتها، فاستكشفت العالَم من حولها حتى وجدت الأرضَ التي تناسبُ طموحها، فكانت نهضتها، و رحل الأفرادُ في طلب المعرفةِ حتى وجدوا الأرضَ التي آوتهم من مكان بعيدٍ، ووجدوا الأرضَ التي فيها من يمنحهم المعرفة و العلم، و كذلك رحلوا من أجلِ الرزقِ و تحصيله حتى وجدوا بابه على مصراعيه مفتوحاً في أرضٍ غير أرضهم، و ما كان للباب أن يُفتح لهم إلا بمفتاح مغادرة الأرضِ التي نشأوا فيها. رحلوا من أجل الفكرِ و نشره، ففي حال أن أراضيهم لم تستوعبهم تركوها ليجدوا أراضٍ أُخَرَ تستوعب فكرَهم، و لهذا كان صُناع أمجاد الحياة الحياة نهضة و حضارة و معرفة و علما و إصلاحاً ممن تركوا أرضَ الأمنِ المهلك إلى أرضِ الخوفِ الآمن. فهم آمنوا بمدى قيمتهم في الحياة، فتقلَّدوا الحكمةَ : الحياة إما مغامرة جرئية أو لا شيء. فآثروا أن يكونوا ممن يصنع الحياة. و أما من بقيَ في ظلِّ حاله فهو راتعٌ مع الرواتعِ، و الرتعةُ لا تليقُ إلا بمن ليس إلا شيئاً زائداً لا قيمة له.
ففي الخروجِ عن المألوفِ، و في مغادرةِ مواطنِ الأمنِ المهلك، و في تركِ أراضي النفس، بحثاً عن قيمة الحياة، و استكشافاً لجوهر الإنسان، و سعياً لتحقيقِ غايةِ الإيجاد، في ذلك كله من أجل ذلك و أكثر، تحصيل للمعاني السامية التي تليق بالإنسانية، و ليس الحيوان أحقَّ بها، فلا حيوان يبقى في أرضه، إلا حيوانا عاجزا، و الحيوان العاجزُ عن ترك أرضه غير مرغوب فيه من لدن شرائف النفوس.
أما في عدم ذلك، فهو لزوم لدائرة الأمن، وهو ما اعتاده الإنسان، وما اعتاده لا يرغب في تركه، لأنه متخوفٌ من المغامرة، و لا يُغامرُ إلا شجاع القلبِ و النفسِ و الروح، و بتلك الشجاعة تأتي فتوحات الحياة على الإنسان ليصنع الحياة.
في النظر إلى النهضات التي صنعت الحضارات الكبرى، و في النظر إلى الناس الذي خلقوا آثارا في الحياة، نجد أنهم غادروا محلَّ الركود ومحل الأمن إلى محل الحركة و الخوف، ليس القصد أنهم خاضوا ما هو خوفٌ متحققٌ، و إنما خاضوا المخاوفَ، لأن من يروم الأمجاد يقصد مخاوفَ الأحوال، و لا يركن إلى مأمنٍ، فليس في الزائل مأمنٌ. حين غادروا تلك الأحوال التي تدعو إلى الدَّعةِ كانت لهم آثار كالجبال، و أبقى لهم التاريخ ذكرا. هو شيءٌ صعب على النفس، و قاسٍ على القلب، و لكنه ضرورة لا بُد منها، و الضرورات لا بُد من ارتكاب المحظورات من أجلها. فلا يُمكن لأحد أن يكون ذا أثرٍ و هو ملازم ظلَّ ذاته، ملتصقاً بتراب نفسه، فهذا لا يحمل شيئاً، و فاقد الشيء لا يُعطيه.
إن فلسفة الخروج عن المألوفِ فلسفة جداً راقية، و عميقة المعنى و البُعد الأثري على الحياة، سواءً الحياة الخاصة بالإنسان نفسه أو العامة بكل جوانبها، حيث في الخروج تعرُّفُ النفسِ و العقلِ على الكثير من أحوال الحياة و ثقافات الدنيا و حضارات الوجود، وهذا التعرُّفُ سيمنح الإنسان ثروة عقلية ضخمة، و حينما تتكون لديه هذه الثروة المعرفية الكبيرة ستمنحه تفكيراً رصيناً، ففي اجتماع الثقافاتِ صناعةُ جودة الرأي، و رأي الجمعِ خيرٌ من رأي الفرد. و التفكير الرصين سيكون عميقاً الأثرِ على الإنسان، فيكون بصيراً في أسرار الوجود حوله، مُدَقِّقَ النظرِ في أحوال الحياة، مما يمنحه سلوكاً مهذَّباً في تعامله مع حياته بصورة عامة. و لا يمكنه أن يكون ذا سلوك مهذبٍ و هو ماكثٌ في الظلِّ القصير، و لا في الدائرة الضيقة. عندئذٍ سيكون عائداً بسلوكه المهذَّبِ إلى تفكيرهِ ليعيشه بهدوءٍ و يتعاملُ معه بما ينبغي كما هو مناسبٌ للتفكير، فينتقلُ بهدوءِ التفكيرِ إلى معارفه و ثقافاته ليستخرجَ منها فلسفته التي يصنع بها حياته الجديدة. و أما لو كان غيرَ مغادرٍ مكانه، و لا مُجاوزاً مألوفَه، فإنه لن يكتشفَ شيئاً، بل سيبقى في ظلِّ ذاك الحائط الذي استندَ عليه و آوى إليه، و كلُّ عقلٍ بظلِّ حائطِ معرفته.

ابتسام آل سليمان
05-28-2010, 08:30 AM
أؤمن كثيرا بفلسفة ألبرت أينشتاين:
يبدأ الإنسان في الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه.!
لك الشكر أي عبدالله.

فرحَة النجدي
05-29-2010, 01:25 PM
أؤيد ما ذهبت إليه .

مقال جميل ثري أ. عبدالله ..
شكرا لك :icon20:

عبد الله العُتَيِّق
06-01-2010, 05:20 PM
أؤمن كثيرا بفلسفة ألبرت أينشتاين:
يبدأ الإنسان في الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه.!
لك الشكر أي عبدالله.
ابتسام. أهلا بك.
حينما يخرج عن نفسه، عن مقيِّدات قدراته، و عن موانع طاقاته، سيشعر بالحياة التي من أجلها أُوجد، و سيرى أثر منائح عقله و نتاجه.
و الشكر لك أيضا.

عبد الله العُتَيِّق
06-01-2010, 05:21 PM
أؤيد ما ذهبت إليه .

مقال جميل ثري أ. عبدالله ..

شكرا لك :icon20:

فرحة. أهلا بك. أشكر لك مرورك.

سماح عادل
06-02-2010, 10:39 PM
كعادتك مبهر
غير إني مع البين ,,
فمصادقة الذات والتنقيب في ثرواتها خير
وفي الإمتزاج مع الآخر خير وفير
وشاهدي في ذلك عمالقة , نبذهم مجتمعهم وتفوقوا
....هكذا خرجت من موضوعك لعلني أصبت , أو أخطأت


أستاذي القدير :
تحية إجلال لقلمك وفكرك
تبارك الرحمن

بدور الشمراني
06-03-2010, 12:34 PM
إن فلسفة الخروج عن المألوفِ فلسفة جداً راقية، و عميقة المعنى و البُعد الأثري على الحياة، سواءً الحياة الخاصة بالإنسان نفسه أو العامة بكل جوانبها،

أحسنت يا عبد الله
هنا أثرت نقطة هامة وجداً
بعض الأفراد يفضلون التقوقع داخل حدود مجتمعاتهم، وأفكارهم، ومعتقداتهم. يرون في كل جديد نقمة، ويقفلون أبواب التفكير لأبعد من مستويات إمكانياتهم، التي يجهلون قدراتها على خلق حياة أخرى . قد تكون أفضل قد تكون أسوأ، ولكن الحياة تجارب.
والتجارب موازين قد تكشف للشخص حقيقة ثقله أو خفته !!
الخروج عن المألوف بحد ذاته يعتبر قفزة ومن يقفز يسلم التعثر .
وكما قلت بأن هذا التجديد في تغيير نمط وسلوكيات الحياة سيمنح الإنسان ثروة عقلية ضخمة
ناهيك عن قيمة التطور الفكري، والنمو العقلي المصاحب لعملية إبتكار وطن جديد تخلقه ثقافة الفرد لمجتمعه ولوطنه .
ولو عدنا قليلا للوراء، لعصور ما قبل الحضارة وما قبل التمدن، لوجدنا الإنسان البدائي برغم إمكانياته الفكرية المحدودة
إلا أنه استطاع أن يقفز بخطوة واثقة للأمام، حين طور من نفسه بإكتشاف النار ونجح في استخدامها، وفي البحث عن سبل العيش والمعيشة
في الصيد وتربية الحيوان، واكتشاف الحديد، وابتكار الآلة،_ وإن كانت بسيطة_ إلا أنها ساهمت في تطوير إمكانياته. مثل اختراع القوس
والآلات الحادة وغيرها ..
إذن العقل البشري بحاجة لدفعة قوية تحرره من روتين المنطقية الزائفة التي يلجأ لها حين يعجز عن الوصول لتغيير جذري يجعل من صاحبه إنسان آخر !
الموضوع غزير يحمل فكرة ناضجة أجدت في التحدث عنها فلك الشكر يا الـعتيق

عبد الله العُتَيِّق
06-23-2010, 11:18 AM
كعادتك مبهر
غير إني مع البين ,,
فمصادقة الذات والتنقيب في ثرواتها خير
وفي الإمتزاج مع الآخر خير وفير
وشاهدي في ذلك عمالقة , نبذهم مجتمعهم وتفوقوا
....هكذا خرجت من موضوعك لعلني أصبت , أو أخطأت


أستاذي القدير :
تحية إجلال لقلمك وفكرك
تبارك الرحمن
سماح. أهلا بك.
رأيك أوافقك عليه. فلا قيمة لشخص منعزلٍ عن آخرَ معه. فلا يمكنه أن يُقيمَ أودَه. و لكنني أرومُ إلى أن الإنسان قد يضطر إلى الخروج من أحواله ليخلق حالا جديدة. فإذا اكتمل بنيان ذاته التفت إلى بنيان غيره، و هكذا صنع العظماء.
تحيتي لك. ووافر الشكر

عبد الله العُتَيِّق
06-23-2010, 11:32 AM
أحسنت يا عبد الله
هنا أثرت نقطة هامة وجداً
بعض الأفراد يفضلون التقوقع داخل حدود مجتمعاتهم، وأفكارهم، ومعتقداتهم. يرون في كل جديد نقمة، ويقفلون أبواب التفكير لأبعد من مستويات إمكانياتهم، التي يجهلون قدراتها على خلق حياة أخرى . قد تكون أفضل قد تكون أسوأ، ولكن الحياة تجارب.
والتجارب موازين قد تكشف للشخص حقيقة ثقله أو خفته !!
الخروج عن المألوف بحد ذاته يعتبر قفزة ومن يقفز يسلم التعثر .
وكما قلت بأن هذا التجديد في تغيير نمط وسلوكيات الحياة سيمنح الإنسان ثروة عقلية ضخمة
ناهيك عن قيمة التطور الفكري، والنمو العقلي المصاحب لعملية إبتكار وطن جديد تخلقه ثقافة الفرد لمجتمعه ولوطنه .
ولو عدنا قليلا للوراء، لعصور ما قبل الحضارة وما قبل التمدن، لوجدنا الإنسان البدائي برغم إمكانياته الفكرية المحدودة
إلا أنه استطاع أن يقفز بخطوة واثقة للأمام، حين طور من نفسه بإكتشاف النار ونجح في استخدامها، وفي البحث عن سبل العيش والمعيشة
في الصيد وتربية الحيوان، واكتشاف الحديد، وابتكار الآلة،_ وإن كانت بسيطة_ إلا أنها ساهمت في تطوير إمكانياته. مثل اختراع القوس
والآلات الحادة وغيرها ..
إذن العقل البشري بحاجة لدفعة قوية تحرره من روتين المنطقية الزائفة التي يلجأ لها حين يعجز عن الوصول لتغيير جذري يجعل من صاحبه إنسان آخر !
الموضوع غزير يحمل فكرة ناضجة أجدت في التحدث عنها فلك الشكر يا الـعتيق
بدور. أهلا بك.
إضافة جميلة. وهذا ما نريده أن يتحقق. فأولئك الذين تقوقعوا على أنفسهم، و لزموا جادة فكرهم الذي تلقوه، و لم يخرجوا عنه ولو يسيراً لا يمكن أن يُعتبروا إلا إضافة لملءِ الكون فقط. فمن أراد أن يكون خليفةً في عمارة الأرض فعليه بجَوْب الأرض، فالخلفاءُ لا يمكثون. و لم نسمع عن عظيم إلا وكانت من أصول عظمته خروجه عن مألوف حياته.
شكرا لك على هذا الحضور.